فشل حمدوك في إدارة الدولة.. كيف استعصى السودان على حكم اليسار؟
دخل السودان الذي يقع تحت إدارة حكومة انتقالية "غير منتخبة" برئاسة عبد الله حمدوك، في خط عريض من الأزمات والاحتجاجات المستمرة منذ شهور، بسبب عجز الحكومة اليسارية عن حل الأزمات، أو الوجود على خط المعارك الحدودية مع العصابات الإثيوبية.
بات السودان يئن من أزمات متجددة لا تنتهي في السلع الأساسية، لا سيما الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، نتيجة ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، ووصوله إلى أرقام قياسية، إذ بات الدولار يساوي 55 جنيها في السوق الرسمية و300 في الموازية.
المؤشر الأخطر أن المواطنين أغلقوا الشوارع الرئيسة في الخرطوم بالمتاريس، ونزلت قوات من الجيش لتحمي محيط القيادة العامة للقوات المسلحة، ما يؤطر أن الأزمة تتصاعد وأن عوامل الغضب بدأت تحرك الجماهير ضد الحكومة الانتقالية.
أزمات كاشفة
عجز حكومة حمدوك اليسارية عن الحل، تسبب في اندلاع مظاهرات كبرى لم تتوقف كان آخرها في 26 يناير/ كانون الأول 2021، حيث خرجت تظاهرات احتجاجية في الخرطوم وعدة ولايات احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية.
المتظاهرون جابوا مدن بورتسودان والقضارف والضعين، استجابة لدعوات من عدة جهات بينها "لجان المقاومة" التي كان لها الدور الأكبر في إدارة التظاهرات التي تسببت من قبل في عزل الرئيس عمر البشير يوم 11 أبريل/نيسان 2019.
ردد المتظاهرون شعارات مناوئة للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، بسبب ما اعتبروه فشلا ذريعا في توفير متطلبات الحياة الضرورية، ومن بين تلك الهتافات "تسقط تسقط يا حمدوك".
وفي 27 يناير/ كانون الثاني 2020، كشف النائب العام السوداني تاج السر علي الحبر، عن طلب تقدم به لرئيس مجلس الوزراء حمدوك، لإجراء تحقيقات بشأن ملفات فساد في المؤسسات الحكومية.
وحسب وكالة السودان للأنباء، قال الحبر: "خاطبنا رئيس مجلس الوزراء بشأن ملفات الفساد في المؤسسات الحكومية وإخطار الوزراء بشأن التجاوزات والفساد لإجراء التحقيقات اللازمة".
أحداث "الجنينة"
أيضا كشفت أحداث "الجنينة" الهوة العميقة بين حكومة حمدوك اليسارية، والقدرة على معالجة أزمات الدولة المزمنة، تحديدا الحروب الأهلية والقتالات العرقية، بين القبائل والعناصر المختلفة للدولة، وأيضا المعارك الحدودية مع العصابات الإثيوبية.
أحداث "الجنينة" اندلعت في 16 يناير/ كانون الثاني 2021، على خلفية شجار مسلح بين قبيلتي "المساليت" و"العرب"، ووصلت ضحاياها بحسب لجنة أطباء السودان، إلى 163 قتيلا، و217 مصابا.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وقعت معارك دامية، على الأراضي الزراعية في منطقة "الفشقة" التي تقع ضمن حدود السودان، وكانت منذ فترة طويلة يستوطنها مزارعون إثيوبيون في صورة عصابات، مدعومة من حكومة أديس أبابا.
كان من المنتظر أن يكون حمدوك على الخط الأمامي، وأن يدعم تياره اليساري المعركة الوطنية لاستعادة الأرض المسلوبة، لكن رئيس الوزراء الذي تربطه علاقات قوية برئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد أجرى زيارة فاشلة إلى أديس أبابا يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 2020.
حمدوك ذهب لعرض مخاوف بلاده من التهديدات لأمنها على الحدود مع إقليم تيغراي، لكنه عاد إلى السودان بعد ساعات قليلة بخفي حنين رغم إعلان آبي أحمد في وقت سابق أن الزيارة ستستغرق يومين، وهو ما ترك تساؤلات عن موقف حمدوك، وقدرته على إدارة أكبر أزمة في تاريخ العلاقات بين الدولتين.
حروب الهوية
وفي أزمة التطبيع الأخيرة مع إسرائيل تخلى تيار اليسار في السودان عن شعاراته التي كانت تعتبر تل أبيب رمزا "للإمبريالية العالمية"، والدولة التي تحتل الأرض العربية فلسطين.
شيوعيو السودان اللذين كانوا يرفضون إسرائيل رفضا مطلقا، تبدل حالهم مع وصولهم إلى السلطة، وتخلوا عن مبادئهم ورفضهم المطلق للتطبيع، وبدأوا يخضعون ويساومون ويناورون بلاءات سابقة، متنازلين عن قناعاتهم وأفكارهم.
في 3 فبراير/ شباط 2020، التقى نتنياهو، بالفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي السوداني في أوغندا، وقال حينها البرهان: "أؤكد على أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية".
وجاء موقف الحكومة الانتقالية برئاسة الشيوعي حمدوك، متوافقا مع تطبيع البرهان، وفي 5 فبراير/ تشرين الثاني 2020، رحب حمدوك، بالمقابلة والتعميم الصحفي الصادر عن البرهان بشأن اجتماعه مع نتنياهو.
وقال حمدوك: "لا شك أن الطريق إلى التغيير الحقيقي في السودان مليء بالتحديات والعقبات، ومع ذلك يجب أن نعي بأن الالتزام بالأدوار والمسؤوليات المؤسسية أمر أساسي لبناء دولة ديمقراطية حقيقية".
ومن التطبيع إلى التعليم، استمرت الأزمات بين حكومة اليسار والشعب السوداني، الذي رفض عبث الحكومة بهويته وثوابته، وهو ما ظهر جليا في أزمة لوحة "خلق آدم" التي رسمها الفنان الإيطالي مايكل أنجلو، ووضعت ضمن مناهج الصف السادس الأساسي.
اللوحة أثارت غضب الشارع السوداني، على اعتبار أنها تنشر الإلحاد، والاغتراب بين الطلاب، فخرج آلاف المواطنين في مظاهرات احتجاجية أمام مقر وزارة التربية والتعليم بالعاصمة الخرطوم، للمطالبة بحذف اللوحة من المناهج.
ولم تهدأ ثورة الغضب في الشارع إلا بإعلان عمر القراي، مدير المركز القومي للمناهج والمسؤول عن الأزمة استقالته، لكن ظلت العلاقة بين الشعب وحكومة حمدوك يشوبها الشك والتوجس وعدم الثقة.
الخطيئة الكبرى
السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي، قال لـ"لاستقلال": "حكومة حمدوك، والقوى اليسارية والشيوعية في السودان عموما، يعلمون جيدا أنهم لا يمثلون الشعب، وليس لهم قوة جماهيرية عريضة تمكنهم من الإمساك بزمام الدولة، حال حدوث انتخابات من أي نوع، ولو كانت محلية صغيرة في أقصى البلاد، لن ينجحوا فيها، وهم يدركون الأمر، ويعملون بقوة حيال حدوثه".
وأضاف: "أما مكمن الخطورة الحقيقي، أن اليسار لم يتعلم من تاريخه القديم ومن محاكمات الشجرة، وإعدام عبد الخالق محجوب، وهشام العطا، وهو حادث مؤلم، لكنه كان نتيجة اصطدام اليسار بالشارع، واستنفار قاعدة المواطنين، ثم محاولته الانقلاب، والاستئثار بالدولة".
وتابع الخبير السياسي بالقول: "السودان أكبر من أن يحتكره فصيل أو حزب، فكانت النتيجة مأساوية بإعدام رموز اليسار، وكسر شوكتهم في الشارع السوداني لعقود طويلة، وربما إلى الآن".
وأكد عبد العاطي أن حكومة حمدوك سقطت في فخ الأجندات الضيقة، وحاولت الاصطدام بهوية المجتمع السوداني، بحجة التطهير من نظام الإنقاذ، ولو بذلوا نفس الجهد في حل الأزمات المزمنة، وتطبيق خطة إصلاحية حقيقية، لحققوا نجاحا، وأحدثوا طفرة تجعل لهم رصيدا في الاستحقاقات الانتخابية".
وأردف: "لكنهم يزيدون الطين بلة بالاستعانة بالغرب والولايات المتحدة، على أساس أن الدعم الخارجي سيوفر لهم طوق حماية، ويرسخ أقدامهم في الحكم، وهي الخطيئة الكبرى التي ارتكبوها".