السيسي كافأهم.. كيف قاد قضاة المحكمة الدستورية انقلابا على ثورة يناير؟

12

طباعة

مشاركة

بعد 3 أشهر فقط من تعيين عبد الوهاب عبد الرازق (72 عاما) الرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا في مصر (2016 ـ 2018)، رئيسا لمجلس الشيوخ، تم تعيين الرئيس الحالي للمحكمة حنفي الجبالي (2018 - 2020) رئيسا لمجلس النواب، في مؤشر واضح على مكافأة السلطة لقضاة المحكمة مقابل خدماتهم السياسية الجليلة.

المكافآت بدأت بأول رئيس للمحكمة عقب انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، المستشار عدلي منصور، الذي عينه قائد الانقلاب العسكري الجنرال عبد الفتاح السيسي، رئيسا مؤقتا للبلاد من 3 يوليو/تموز 2013 وحتى 3 يونيو/حزيران 2014.

كثيرون استغربوا إصرار الرئيس الراحل محمد مرسي في يونيو/حزيران 2012، على الذهاب لأداء اليمين الدستوري أولا أمام الشعب في ميدان التحرير، ثم ذهابه لاحقا لأدائه أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا.

واستغرب البعض أيضا حصار المتظاهرين للمحكمة في ديسمبر/كانون الأول 2012، احتجاجا على دورها في حل المؤسسات التشريعية المنتخبة في خطوة عدها مراقبون تصب في صالح المجلس العسكري كتمهيد للانقلاب.

تطور الأحداث منذ ثورة يناير وحتى ما بعد الانقلاب، كشف كيفية لعب قضاة هذه المحكمة دورا سياسيا منحازا يتعارض مع دورهم الحيادي المفترض، وقيامهم بـ "انقلاب قضائي" مهد لـ"الانقلاب العسكري" فكان لابد أن يكافأهم السيسي على خدماتهم للنظام الجديد.

أدوار سياسية

من مفارقات المحكمة الدستورية في مصر أن نشأتها الفعلية عام 1969 على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تحت اسم "المحكمة العليا" جاءت بغرض بسط سيطرة النظام على القضاء بعد مذبحة القضاة وعزل 200 منهم في نفس العام.

وخلال حكم الرئيس الراحل حسني مبارك (1981 – 2011)، بدا أن المحكمة الدستورية العليا تحافظ على استقلاليتها نوعا ما فحكمت بحل مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان) 3 مرات، وأبطلت قانونا يحظر إنشاء أحزاب سياسية معارضة لاتفاقية السلام مع إسرائيل.

تم حل البرلمان 4 مرات بحكم الدستورية العليا، في أعوام 1984 و1987 و1990 و2012، بينما تم حله مرتين بقرار جمهوري، الأول في 1976، والثاني عام 2011 (المجلس العسكري).

وعقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، سرعان ما عادت "الدستورية" لتمارس أدوارا مثيرة للجدل بعدما دخلت كطرف رئيس في صراع سياسي مع السلطة المنتخبة لأول مرة في مصر، وتدريجيا انتقلت من هيئة محايدة تؤرق نظام مبارك، إلى أداة لحل برلمانات منتخبة.

وفي 14 يونيو/حزيران 2012 أصدرت المحكمة الدستورية قرارا بحل أول برلمان منتخب في تاريخ مصر، ورد الرئيس مرسي في 9 يوليو/ تموز 2012، بقرار جمهوري بإلغاء قرار المحكمة بحل مجلس الشعب ودعوته للانعقاد مجددا، إلى حين انتخاب مجلس جديد.

وفي اليوم التالي لقرار مرسي، أصدرت الدستورية العليا قرارا مضادا يلغي قرار الرئيس وأمرت بتنفيذ حكمها السابق ببطلان قانون انتخابات المجلس، واستمرار حل وبطلان البرلمان، لتكشف مدى انغماسها في الصراع السياسي.

وبخلاف دورها في بيان الانقلاب على الرئيس مرسي، لعبت الدستورية العليا، دورا سياسيا في عزل 15 من القضاة الذين أصدروا بيانا عام 2013 انتقدوا فيه "الانقلاب" وتمت إحالتهم للمعاش.

وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قضت "الدستورية العليا" برئاسة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق بعدم قبول 3 دعاوى مقامة من بعض القضاة لإلغاء الحكم التأديبي بعزلهم وإحالتهم إلى المعاش بدعوى "اشتراكهم في العمل بالسياسة".

انقلاب قضائي

"لقد كنت متأكدة أن الانتخابات سوف تأتي بأغلبية من تيار الإسلام السياسي، لذلك أرسلت للمجلس العسكري ورجوته أن يوقف أي انتخابات".

كانت هذه أول إشارة للعب قضاة المحكمة الدستورية دورا سياسيا والتدخل لعرقلة مسار ثورة يناير/كانون الثاني 2011، أوردتها صحيفة نيويورك تايمز على لسان نائبة المحكمة الدستورية السابقة تهاني الجبالي.

شهادة "الجبالي"، التي وصفت فوز الإسلاميين لاحقا بأنه "سم قاتل"، والتي أوردها ديفيد كيريك باترك، مدير مكتب "نيويورك تايمز" بالقاهرة في تقريره المنشور 4 يوليو/ تموز 2012، كانت أول تدخل علني من قضاة المحكمة لعرقلة الانتخابات وتحريض المجلس العسكري على عدم ترك السلطة للمدنيين.

تقرير نيويورك تايمز الذي جاء تحت عنوان Judge Helped Egypt’s Military to Cement Power أو (قاض ساعد عسكريي مصر على تعزيز قوتهم)؟ نقل عن الجبالي اعترافا صريحا بدور المحكمة في حل برلمان الثورة المنتخب.

الجبالي قالت: "قمنا بحل البرلمان (2012) لضمان حق المجلس العسكري في الإشراف على كتابة الدستور"، وهو ما دعا "نيويورك تايمز" لتذكير القارئ بمقولة رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري الشهيرة للدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب حينئذ إن: "قرار حل البرلمان في درج المحكمة الدستورية"، لذا وصفت نيويورك تايمز ما جرى بأنه "انقلاب قضائي".

خدمة العسكر

رئاسة عدلي منصور لمصر التي استمرت 11 شهرا، شهدت عدة مجازر ضد المعارضين أبرزها مذبحة رابعة والنهضة كما شهدت توسعا غير مسبوق في الإجراءات القمعية شملت اعتقال آلاف المواطنين ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

تم حل أغلب الأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية والمدنية وإغلاق صحف وفضائيات، ووقع على هذه القرارات المستشار منصور بصفته رئيسا، ونفذها السيسي بوصفه وزير الدفاع وقائد الانقلاب.

وفي 25 سبتمبر/ أيلول 2013، أصدر منصور "قانون الحبس الاحتياطي المفتوح" الذي "سيس" منظومة النيابة العامة والقضاء ككل ومدد الاعتقالات بلا محاكمة لعامين وثلاثة.

كما أصدر "قانون (تنظيم – منع) التظاهر" في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، الذي يقيد الحق في التظاهر إلى أبعد الحدود ويضع عقوبات مغلظة على المخالفين، ويسمح للشرطة بالتعامل مع المتظاهرين بكل الوسائل بما فيها الرصاص الحي.

أما "قانون تحصين عقود المستثمرين" فأصدره في 22 أبريل/نيسان 2014، ليمنع المواطنين من الطعن على عقود الاستثمار المبرمة بين الدولة والمستثمرين وهناك دعوى مرفوعة أمام المحكمة الدستورية ضد هذا القانون لمخالفته الدستور. 

وأيضا أصدر "قانون المناقصات بالأمر المباشر" في 12 سبتمبر/أيلول 2013، ليؤرخ لحقبة بداية سيطرة العسكر على الاقتصاد ويجعل المناقصات والمزايدات الحكومية تُسند للجيش وشركاته، ويفتح الباب للفساد ويقتل المنافسة.

تيران وصنافير

قبل تعيينه رئيسا لمجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) اختار السيسي، القاضي عبد الوهاب عبد الرزاق رئيسا لحزبه (مستقبل وطن) في مارس/آذار 2020، ثم  رئيسا لمجلس الشيوخ في أكتوبر/تشرين الأول 2020.

كان لعبد الرزاق دوره في الحكم ببطلان مجلسي الشعب والشورى المنتخبين عامي 2012 و2013 على الترتيب، وإصداره حكما بعدم دستورية قانون العزل السياسي، من أجل إعادة الفريق أحمد شفيق إلى السباق الرئاسي مرة أخرى في عام 2012.

لكن كانت خدمته الأكبر لنظام السيسي متمثلة في الحكم الذي أصدره بعدم الاعتداد بجميع الأحكام الصادرة من مجلس الدولة، ومحكمة الأمور المستعجلة، في شأن بطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ومن ثم الحكم بتنازل مصر عن جزيرتي "تيران وصنافير" للسعودية.

وهو ما رد عليه الفقيه القانوني المستشار طارق البشرى –نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق- بمقولة نموذجية لصحيفة "الشروق" في 18 يناير/كانون الثاني 2017 قائلا: "التنازل عن السيادة ليس من أعمال السيادة".

حنفي الجبالي رئيس مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان)، وخليفة عبد الرزاق في رئاسة المحكمة الدستورية، كان له أيضا دوره في حكم التنازل عن تيران وصنافير، كما صمت على تعديل الدستور والسماح للسيسي بتعيين رؤساء الهيئات القضائية في أبريل/نيسان 2019 بمن فيهم رئيس المحكمة الدستورية.

قرار تعيين الجبالي رئيسا للمحكمة الدستورية صدر مطلع أغسطس/آب 2018 أي بعد 4 أشهر فقط من رئاسته للدائرة التي حسمت نزاع تيران وصنافير لصالح السعودية، وظل في منصبه حتى يوليو/تموز 2019، أي بعد تعديل الدستور بثلاثة أشهر.

في المقابل، أصدر السيسي قرارا آخر باستبعاد المستشار يحيى الدكروري من أحقيته في رئاسة مجلس الدولة، وفقا لمعيار الأقدمية المتبع في هذا الشأن لنفس السبب المتعلق بقضية تيران وصنافير، حيث كان الدكروري رئيسا للدائرة التي حكمت ببطلان الاتفاقية في مجلس الدولة.

تخطى الدكرورى في سلم الترقيات، كان مؤشرا عكسيا على مكافأة "الجبالي" فقد أتُخذ قرار إبعاد الأول بطريقة بدا فيها النظام متحديا للجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة التي تمسكت بمبدأ الأقدمية ولم ترسل إلا ترشيحا واحد للسيسي هو المستشار يحيى الدكروري.

إلغاء "الأقدمية"

في 27 أبريل/نيسان 2019 أقر مجلس النواب تعديلات دستورية أعدها السيسي لمد حكمه حتى 2030 على الأقل، وتمثل أخطر التعديلات في أحقية السيسي بتعيين رؤساء الهيئات القضائية وإلغاء قاعدة "الأقدمية" في انتخابهم.

قبل التعديل كان الدستور ينص على انتخاب الجمعية العامة رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم 3 نواب لرئيس المحكمة، وكذا نواب الرئيس، وأعضاء هيئة المفوضين، ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية.

لكن بعد تعديل الدستور نصت المادة 193 فقرة ثالثة على: "يختار رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم 5 نواب لرئيس المحكمة، ويعين رئيس الجمهورية نائب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة، ويرشح الآخر رئيس المحكمة".

وفي 20 ديسمبر/كانون الأول 2020 عين السيسي 3 نواب جدد لرئيس المحكمة الدستورية ليرتفع إجمالي عدد قضاة المحكمة الدستورية العليا إلى 15 قاضيا، برئاسة رئيسها الحالي المستشار سعيد مرعى.