قرآن وأذان بالتركية.. هكذا يستدعي إمام أوغلو "التاريخ الأسود" لحزبه
"كن مؤدبا، وعليك الانتباه أو التحكم بتصرفاتك ولغتك، وإلا ستكون نهاية ذلك سيئة، وإن كنت تؤمن بالقرآن الكريم فعليك إظهار الاحترام الواجب".
بهذه الكلمات الحاسمة، وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رسالة غاضبة إلى رئيس بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو"، بسبب واقعة قراءة القرآن، ورفع الأذان باللغة التركية بدلا من العربية، ما أغضب قطاعا عريضا من الشعب التركي ومؤسسات الدولة، معتبرين أن الأمر انتهاك للدين الإسلامي.
وصدمت الأوساط السياسية والشعبية التركية بحادثة رفع الأذان وقراءة القرآن باللغة التركية في الاحتفالية التي نظمتها بلدية إسطنبول برئاسة "أكرم إمام أوغلو"، يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2020، بمناسبة الذكرى 747 لوفاة "جلال الدين الرومي".
الواقعة أعادت للأذهان ذكريات صعبة عاشها الأتراك قبل عقود، عندما تم تتريك الأذان والشعائر الإسلامية والعبادات، وحظر ممارستها بالشكل الطبيعي.
ترتب على ذلك حقبة انتهاكات للحريات الدينية استمرت سنوات طويلة، قبل أن يحدث إصلاح تدريجي بدأه الزعيم الإسلامي الراحل "نجم الدين أربكان"، ووطدته حكومة "حزب العدالة والتنمية" برئاسة أردوغان، حيث أحدثت تعديلات وإصلاحات متقدمة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والديني.
ويبدو أن "إمام أوغلو" جاء محملا بإرث حزب الشعب الجمهوري المعارض، فيما يخص الأمور الدينية وصراعات الهوية، ويحاول أن يستحضر خلافات الماضي، بإثارة تلك الأفعال.
شعائر بالتركية!
واقعة "إمام أوغلو" لم تمر عابرة داخل الدولة التي تحمل إرثا طويلا من صراعات الهوية منذ تأسيسها على يد رئيسها الأول "مصطفى كمال أتاتورك"، والذي أقر مبدأ العلمانية وقام بتتريك الأذان، ومنع أي مظهر من مظاهر اللغة العربية في الشعائر والعبادات.
ويحاول رئيس بلدية إسطنبول الحالي المنتمي إلى "حزب الشعب الجمهوري" المعارض تجديد تلك الجدليات، ليبعث صراعات الهوية، وينكأ جرح الأتراك الذين تعرضوا لانتهاكات باللغة في الماضي بسبب ممارستهم الشعائر باللغة العربية.
ومن ذلك، ما حدث مع المؤذنين "عمر أفندي ومصطفى عوني"، في مدينة إزمير التركية، عندما خالفا قوانين أتاتورك المتعلقة بالأذان، فتم حبسهما لمدة وصلت إلى 30 عاما.
Yüzyıllar ötesinden bize ışık tutmaya devam eden Hz. Mevlana’yı Hakk’a vuslatının 747. yılında rahmetle anıyoruz. https://t.co/b97DpsNmKh
— Ekrem İmamoğlu (@ekrem_imamoglu) December 17, 2020
"أردوغان"، كان في طليعة المنتقدين لنهج رئيس بلدية إسطنبول، حيث قال: "هذه العقلية هي ذاتها التي انزعجت من إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة، وبناء مسجد تشامليجا، وقد رأينا هذه العقلية التي تتجنب قول (الله أكبر) و(لا إله إلا الله)، و(صدق الله العظيم) باللغة العربية، قد عادت من جديد بعد 70 عاما".
ووجه رسالة مباشرة لإمام أوغلو: "لا فائدة من قيامك قبل الانتخابات، بالذهاب إلى مسجد أيوب سلطان وفتح القرآن الكريم وقراءة جزء من سورة ياسين بشكل صحيح"، وتساءل في إشارة إلى تناقضات رئيس بلدية إسطنبول: "لماذا لم تقرأها باللغة التركية؟ ليتك فعلت ذلك".
وشدد الرئيس التركي: "إذا كان هناك حساب للعودة إلى الممارسات الفاشية في حقبة الأربعينيات، نقول بأن هذا خطأ، وهذه الحسابات تذهب إلى إعادة تأسيس محاكم الاستقلال".
وأورد "على ما يبدو أنهم توّاقون كثيرا للعودة إلى حقبة الحزب الواحد، لكننا لا نسمح لأي شخص بأن يتطاول على معتقداتنا وثقافتنا".
ويمثل "أكرم إمام أوغلو" توجها عاما لحزب الشعب الجمهوري، ففي عام 2018، طالب النائب في الحزب المعارض "أوزتورك يلماز"، بقراءة القرآن ورفع الأذان باللغة التركية، لكي تكون مفهومة لدى الناس، معتبرا أن قراءتها بالعربية يعد احتقارا للغة التركية.
ردود غاضبة
توالت ردود الفعل الغاضبة والرافضة لواقعة تتريك القرآن والأذان، في مختلف المؤسسات الحكومية والهيئات الرسمية للدولة.
فمن جانبها علقت رئاسة الشؤون الدينية التركية (حكومية) على الواقعة، عبر إصدار بيان يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2020، قالت فيه: إن "أي ترجمة أو كلمات مرادفة لكلمات القرآن تعبر عنه هي ليست له".
وبينت أن "القرآن معجزة بكلماته ومعناه، وأنه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم باللغة العربية، والقرآن هو القرآن بلفظه ومعناه".
واستشهدت بالآية الثانية من سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، والآية الثالثة من سورة الزخرف {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وأضافت: أنه "بصرف النظر عن الكلمات التي تم تنزيلها، فإن المعنى المعبر عنه (القرآن الكريم) بكلمات أخرى حتى ولو كان باللغة العربية، فإنه ليس كلام الله تعالى، بل هو المعنى الذي يفهمه المترجم من خلال قراءته".
وشددت أن "الأذان هو دعوة للصلاة والإسلام من حيث معناه ومضمونه، وأن الدعوة إلى قراءته بأية لغة غير اللغة الأصلية لا يمكن أن يتم تصنيفها على أنها أذان".
وكذلك استنكر رئيس دائرة الاتصالات في الرئاسة التركية، "فخر الدين ألتون"، الواقعة، وقال: إن "أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر التسامح، هو ليلة ميلاد المصباح الذي لا ينطفئ، مولانا (جلال الدين الرومي)، وتلاوة القرآن العظيم بهذا الشكل هو إساءة له وللقرآن على حد سواء".
وأكد أن "قراءة القرآن الكريم باللغة التركية يحمل معاني مخالفة وبعيدة عن روح وجوهر الكلمة الإلهية، ولا يمكن تبرير هذا الفعل تحت مسمى التسامح".
فيما شن رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" الكاتب الصحفي التركي "إبراهيم قراغول"، هجوما حادا على "حزب الشعب الجمهوري" المعارض، و"أكرم إمام أوغلو".
وقال "قراغول" في مقال له: "تحولت الإسلاموفوبيا، التي خطط لها الغرب من أجل الحرب على الإسلام، إلى هدف سياسي بالنسبة للحزب الذي بدأ يستخدم بشكل مؤثر هذا الأمر من خلال أجندة دولية جديدة".
وأردف: "هذا هو سبب تفعيل بلدية إسطنبول الكبرى فعاليات قراءة القرآن باللغة التركية ودعوة بلدية إزمير الكبرى رسامي الكاريكاتير الذين يشجعون على الإسلاموفوبيا".
رجل المتناقضات
لا شك أن واقعة قراءة القرآن والأذان بالتركية، لفتت الأنظار إلى كثير من تناقضات "أكرم إمام أوغلو"، بداية من رئيس الدولة إلى عموم الشعب، الذين قارنوا سلوكه حاليا وأثناء حملة ترشحه للانتخابات عام 2019.
وتحديدا عندما ذهب إلى جامع "أيوب سلطان" وأدى صلاة الغائب على أرواح ضحايا هجوم "كرايست تشيرتش" في نيوزيلندا، ثم قرأ على الملأ بعض الآيات القرآنية من سورة ياسين باللغة العربية.
وقد حرص في ذلك الوقت أن يكون خطابه جامعا لمختلف الطوائف، ووجه كلمات حتى لأنصار حزب العدالة والتنمية المنافس الرئيسي له.
ولكن بعد نجاحه ومع بداية ولايته بدأت سياسته تتكشف، حيث قام بتغيير شعار قناة بلدية إسطنبول الذي يحتوي على مآذن واستبداله بشعارات ملونة، وصفت بأنها غير معبرة عن هوية المدينة التاريخية.
خطوات "أكرم إمام أوغلو"، جاءت لتذكر بحقبة المتغيرات الأتاتوركية المتعلقة تحديدا بالدين، عندما أحدث "مصطفى كمال أتاتورك" تحولات جذرية منذ تنصيبه في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1923، مست جميع مناحي الحياة في البلاد، وأقرت نهجا مخالفا لسياسة الدولة العثمانية التي حكمت لقرون طويلة.
"أتاتورك" اعتمد بشكل أساسي على الفصل بين الدين والدولة، وألغى وزارة الشريعة والأوقاف، وأغلق المدارس الإسلامية والمحاكم الشرعية، وفي 4 أكتوبر/تشرين الأول 1924، وضع القانون المدني الجديد، وبموجبه ألغى الحجاب والزي الإسلامي للنساء، وحلت القبعة الأوروبية "المنتشرة في ذلك الوقت"، محل الطربوش.
ويتحسب الأتراك كثيرا من العودة إلى تلك الأيام التي تميزت بالقمع الديني الشديد لكل من يخالف ذلك النهج.
ويذكر هنا، أنه عندما حاول رئيس الوزراء التركي "عدنان مندريس" إجراء حزمة من الإصلاحات المتعلقة باقتصاد وهوية الدولة، كان أبرزها إعادة فتح مدارس "الأئمة والخطباء"، وإعادة الأذان باللغة العربية، بعدما كان بالتركية، جرى أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية الحديثة عليه.
نتج عن ذلك إعدام مندريس يوم 17 سبتمبر/أيلول 1961، في جزيرة "يصي أدا" النائية، في عملية نفذها جنرالات الجيش المنقلبين.
هوية ملغمة
محاولات حزب الشعب الجمهوري صناعة أزمة هوية داخل تركيا، لا سيما من خلال الشعائر الدينية الإسلامية، كانت محل اهتمام قطاع من المثقفين والكتاب الأتراك.
وفي 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، كتب المؤرخ التركي "مرد بارداكتشي" مقالة في صحيفة "خبر ترك" تحت عنوان "من قرأ أمس القرآن بالتركية، تقع على عاتقه مهمة إعادة إنشاء محاكم الاستقلال"، في إشارة إلى تلك المحاكم سيئة السمعة التي أنشئت مع تأسيس الدولة التركية.
الكاتب التركي قال: "إن بلدية إسطنبول حولت الاحتفالية الأخيرة إلى معركة سياسية، من خلال حرصها تحت قيادة أكرم إمام أوغلو المنتسب إلى حزب الشعب الجمهوري، إلى العودة لحقبة الثلاثينيات، والتي تم تلقين الأذان فيها باللغة التركية في جميع أنحاء البلاد، بالإضافة لتدريس القرآن بالتركية في المساجد، وتجريد لغة العبادة".
وأضاف: أن "حزب الشعب الجمهوري الذي حاول القيام بهذا الفعل قبل 80 عاما، لا يزال غير قادر على نزع آثار الكراهية التي تسبب بها الأذان والقرآن التركيين، مشددا على أن رغبة بلدية الحزب المعارض في قراءة القرآن باللغة التركية سيلحق ضررا كبيرا بالحزب في الانتخابات".
ويذكر أن حوادث الإساءة إلى الأذان تكررت كثيرا منذ عودة صعود "حزب الشعب الجمهوري" إلى ساحة الحكم التركية بنجاحه في عدد من البلديات على رأسها إسطنبول.
ومن أبرزها ما حدث في 7 مارس/آذار 2019، خلال تجمع نظمه حزبي "الشعب الجمهوري، والشعوب الديمقراطي الكردي" في ميدان تقسيم بإسطنبول، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، والحشد لمعركة انتخابات البلدية التي تمت في نفس الشهر، وقد أطلق الحاضرون صافرات استهجان عند سماع أذان العشاء.
ليعلق الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" على هذه الواقعة في خطاب ألقاه بولاية "أضنة" جنوبي البلاد، قائلا: "إن مجموعة بقيادة حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، اجتمعت في تقسيم بذريعة يوم المرأة، وتصرفت بوقاحة تجاه الأذان عبر الصفير والهتافات"، واتهم "أردوغان" الحزبين بمعاداة الأذان والعلم التركي.
المصادر
- “الشؤون الدينية” التركية تصدر فتوى مفصلة بشأن “تتريك” القرآن الكريم
- "تركيا زادت قوتها. إنها تعيد بناء الدولة العثمانية بل وتهدد أوروبا، فلنوقِفْها بالتدخل!" هل ستوقفونها من خلال حزب الشعب الجمهوري؟
- أردوغان يهاجم إمام أوغلو بعد "تتريك القرآن" بحفل ديني
- الرئاسة التركية تستنكر قراءة القرآن باللغة التركية: تركيا لن تعود إلى أيامها السوداء
- شاهد.. إمام أوغلو يُشعل فتيل أزمة "تتريك الأذان" من جديد في تركيا
- تتريك الأذان والقرآن.. إمام أوغلو والعبث بالملفات القديمة
- Kur’an’ı önceki gün Türkçe okutan İBB’ye şimdi çok önemli bir başka iş düşüyor: İstiklâl Mahkemeleri’ni tekrar kurmak!