عبدالرزاق عبدالواحد.. شاعر عشق صدام وقاتل بقصائده في "قادسية العراق"
في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، تمر ذكرى رحيل الشاعر العراقي الشهير عبد الرزاق عبد الواحد، بعد مسيرة شعرية زاخرة توجتها العديد من الجوائز العربية والعالمية، لكنها لم تطفئ لهيب الغربة وبعده عن الوطن، والتي طالما هجاها في قصائده وصوته الجهوري.
الشاعر الذي يعتبر من أبرز قامات الشعر العربي في العصر الحديث، حاز على الكثير من الألقاب منها: شاعر القادسية (الحرب الإيرانية العراقية) حيث كانت قصائده الحماسية تتحول إلى أغان وطنية، ولقب أيضا بشاعر القرنين، والمتنبي الأخير، ونهر العراق الثالث.
"المتنبي الأخير"
ولد ببغداد في الأول من يوليو/ تموز عام 1930 ثم انتقل مع عائلته وعمره ثلاث سنوات إلى محافظة ميسان جنوب العراق، وفيها قضى طفولته وصباه المبكر، حيث تركت هذه المدينة المليئة بالنخيل والمتميزة بكثرة أنهارها وجداولها أثرا بالغا في شعره.
تخرج من دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) عام 1952، وعمل مدرسا للغة العربية في المدارس الثانوية وكانت زوجته طبيبة، وله ابنة وثلاثة أولاد، وشارك في معظم جلسات المربد الشعري العراقي.
في عام 1970 نقلت خدمات عبد الواحد من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة والإعلام، فعمل فيها سكرتيرا لتحرير مجلة الأقلام، وبعدها رئيسا للتحرير في المجلة.
وعمل معاونا للعميد في معهد الفنون الجميلة في بغداد، ومديرا للمركز الفولكلوري العراقي، ثم شغل منصب مدير معهد الدراسات النغمية، فعميدا لمعهد الوثائقيين العرب، ثم مدير عام المكتبة الوطنية العراقية، ثم صار المدير العام لدار ثقافة الأطفال، ثم مستشارا لوزير الثقافة والإعلام.
يعتنق الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الديانة الصابئية، حيث عمل مع لجنة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على ترجمة كتاب الديانة المقدس "كنزا ربا" من المندائية إلى العربية، حتى أنه صاغه على شكل آيات قرآنية، الأمر الذي أثار جدلا كبيرا.
ويقول عن ذلك: إن "الترجمة إلى العربية كانت حرفية، ولأنني مطلع على الكتب السماوية لاحظت أن الإنجيل لم يعد يقرأ بعد ترجمته إلى العربية، لأنه ليس فيه وهج قدسية الكتاب، لذلك أدركت أنه (كنزا ربا) لا يحافظ على قدسيته إذا لم يكتب بلغة مقدسة، ولأنني لغتي قرآنية صرفة عندما أكتب- كوني حفظت القرآن وعمري صغير- كتبته بهذه الطريقة".
تلميذ الجواهري
كان عبد الرزاق عبد الواحد زميلا لرواد الشعر الحر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وشاذل طاقة عندما كانوا طلابا في دار المعلمين نهاية أربعينيات من القرن العشرين.
وعن تجربته خلال هذه الفترة، قال عبد الواحد: "كنت واحدا من مجموعة الشعراء الشباب الأولى آنذاك، وهم السياب ورشيد ياسين وأكرم الوتري ومحمود البريكان وشاذل طاقة وبلند الحيدري، وكنا نلتقي في مقهى حسن عجمي ونتعاطى الشعر ونعقد جلسات نقد".
يحمل الشاعر تاريخ وطنه ويرتبط بانتصاراته وكبواته، واستمد من نخيل العراق وآثار سومر وبابل كل صور الشعر الجميلة.
وينقل الطبيب والفنان التشكيلي العراقي علاء بشير عن الشاعر الجواهري بحق عبد الرزاق عبد الواحد، قوله: "سألت الأخير أي شاعر يأتي بعد، فمباشرة قال لي بدون تردد أو صمت: عبد الرزاق عبد الواحد، وبعده مسافة طويلة يأتي الشخص الثالث".
عبد الواحد -الذي شارك في معظم دورات مهرجان "المربد" الشعري العراقي- يرى أن الشعر يتجلى في كل شيء، وحتى المعاناة التي يشهدها بلده الذي مزقته الصراعات الطائفية "تجري شعرا"، وراهن على الشعر الذي رأى أنه "الحلم كله".
ووصف النص الشعري في تصريحات صحفية بأنه "حالة نفسية مستمرة أبدا لا تنقطع، غير أن أوضاعها متغيرة بين الحزن والفرح، وهي تبحث دائما عن إيقاع موسيقي تنسجم معه".
علاقته مع القصائد الشعرية فريدة، فهو يرى أن "الشعر حالة تعاش في اللحظة التي تفرق بين الإلهام ولحظة تسجيلها على ورق". ووصف هذه العلاقة بقوله: "كتبت بعض قصائدي على مخدتي بسبب نقصان الورق في فترة من الفترات".
كتب عبد الواحد الشعر الحر لكنه كان يميل أكثر إلى كتابة القصيدة العمودية العربية بضوابطها والتي تتغنى الكثير منها برموز الإسلام. ومن قصائده "سلاما أيها الوطن الجريح"، "هي حرب صليبية يا محمد"، "نافورة العسل"، "في رحاب النجف الأشرف" و"في رحاب الحسين".
وعُد من الشعراء البارزين في زمن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكتب عن الحرب العراقية الإيرانية خلال 1980-1988، وكذلك عن الحرب التي شُنت على العراق عام 1991، وما تلاها من حصار اقتصادي، وعن محنة بغداد بعد الغزو الأميركي في عام 2003.
عاشق صدام
كانت تربطه علاقة قوية برئيس النظام العراقي السابق، إذ يقول عبد الواحد: "صدام (حسين) كنت أعشقه، كان صديقا، وكان سيفا مسلطا يقطع نفسه نصفين إذا واجه سيفه، فهو كان حاكما عادلا جدا، ومستقيما جدا، والعراق يحتاج إلى حاكم مثله حاليا، ولم أندم على علاقتي به".
ويروي في مقابلة تلفزيونية عام 2012، حادثة معه قائلا: "عندما التقيت صدام لأول مرة في السنة التي أصبح فيها رئيسا للعراق عام 1979، استأذنته لأدخن سيجارة فسمح لي، وعندما أخرجتها، أخذ عود الثقاب وأشعلها بنفسه، ورفض إبعاد يده، وانحنى علي وأنا جالس على الكرسي".
وأضاف: "من هذه اللحظة احتواني صدام حسين، وكنت أناديه بأبي عدي وهو يناديني باسمي عبد الرزاق منذ لقائنا الأول وحتى افتراقنا"، مؤكدا أن علاقته بصدام كانت شخصية جدا.
وبخصوص سياسة صدام بالمنطقة، قال عبد الواحد: "عندما أرى ما يجري في الوطن اليوم، وأنظر إلى ما تفعله إيران، أقسم بالله لا ألومه على ما فعل، فإنه رأى ما رآه الرشيد يوم نكب البرامكة، رأى زحف الغيلان الإيرانية".
وعن غزو صدام للكويت عام 1991، اعتبره عبد الرزاق عبد الواحد، بأنه خطأ، وأنه شخصيا لا يحب السياسية، ولا يعتبر نفسه يكتب للسياسة وليس شاعر حرب، لكنه كان يقاتل بقصائده من أجل الوطن، "لأن الحرب ظالمة، وجرّت على العراق الويلات".
"الزائر الأخير"
وكتب الشاعر العراقي في سنوات عمره الأخيرة، قصيدة أطلق عليها اسم "الزائر الأخير" يحاكي فيها ملك الموت، ويطلب منه أن يأخذه بهدوء وكي لا يعلم به أهل بيته من زوجته وأولاده لشدة تعلقهم فيه.
ويقول فيها: "من دون ميعاد من دون أن تُقْلِقَ أولادي.. أطرق عليَّ الباب أكون في مكتبي في معظم الأحيان.. اجلسْ كأيِّ زائرٍ وسوفَ لا أسألُ لا ماذا ولا مِنْ أينْ.. وحينما تُبْصِرُني مُغرورقَ العينينْ خُذْ من يديْ الكتابْ أعِدْهُ لو تسمحُ دونَ ضجَّةٍ للرفِّ حيثُ كان.. وعندما تخرجُ لا توقظْ ببيتي أحدا لأن من أفجع ما تُبْصِرُهُ العيونْ وجوهَ أولاديَ حينَ يعلمونْ".
وبث ناشطون على مواقع التواصل، مقطع فيديو يظهر فيه الراحل وهو يرقد في إحدى مستشفيات فرنسا، ويلقي آخر أبياته على فراش الموت ودموعه تصب من عينه تأثرا بفراق العراق، وقال فيها: "يا عراق هنيئا لمن لا يخونك.. هنيئا لمن إذ تكون طعينا يكونك.. هنيئا لمن وهو يلفظ آخر أنفاسه تتلاقى عليه جفونك".
ويقول عبد الواحد في مقطع آخر جرى تداوله على مواقع التواصل: إن رسائل تهديد بالمئات وصلت إليه ترفض عودته إلى العراق أو منحه قبرا يضمه، وهي كلها أبكته وآلمته كثيرا.
وبعد معاناة مع مرض عضال، غيب الموت شاعر العراق الأبرز في القرنين الماضي والحالي، عبد الرزاق عبد الواحد في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس.
مؤلفات وأوسمة
وترك عبد الرزاق عبد الواحد 59 ديوانا شعريا منشورا، حيث نشرت أول قصائده عام 1945 ونشر أول ديوان له عام 1950.
ومن دواوينه: "لعنة الشيطان، طيبة، قصائد كانت ممنوعة، أوراق على رصيف الذاكرة، خيمة على مشارف الأربعين، الخيمة الثانية، في لهيب القادسية، أنسوكلوبيديا الحب، قمر في شواطئ العمارة، في مواسم التعب، 120 قصيدة حب، وقصيدة يا صبر أيوب".
وغير الدواوين الشعرية، كانت له 10 مسرحيات شعرية من ضمنها "الحر الرياحي" و"الصوت" و"الملكات" إضافة إلى ما كتب إلى دار الأزياء العراقية و22 رواية شعرية للأطفال والعديد من الأناشيد الوطنية.
واجتازت قصائده العالم العربي، حيث ترجمت قصائده إلى لغات مختلفة منها الإنجليزية والفنلندية والروسية والألمانية والرومانية واليوغسلافية والفرنسية.
إذ تـُرجمت مجموعة "قصائد مختارة" للغة الإنجليزية، كما ترجم للغة اليوغسلافية أربعة آلاف بيت من الشعر. وترجم المستشرق الفرنسي جاك بيرك مجموعة من قصائده والقسمين الأول والثاني من ملحمته "الصوت" إلى الفرنسية.
نشرت له مجموعة قصائد مختارة في هلسنكي بعد ترجمتها إلى الفنلندية، كما ترجمت قصائد أخرى إلى لغات أخرى كالروسية والرومانية والألمانية. وكانت قصائده المتميزة موضوع عدد من رسائل الماجستير والدكتوراة.
من قصائده "حشود من الحب والكبرياء" التي تحكي قصة الدبابات العراقية التي صدت الغزو الإسرائيلي على دمشق في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
تقلد عبد الواحد خلال مساره العديد من الأوسمة والدروع والجوائز، فقد حصل على وسام بوشكين في مهرجان الشعر العالمي ببطرسبرغ عام 1976. وفاز بجائزة صدام للآداب في دورتها الأولى ببغداد عام 1987.
حصل عام 1986 على ميدالية "القصيدة الذهبية" في مهرجان ستروكا الشعري العالمي في يوغسلافيا التي شهدت أيضا فوزه بالجائزة الأولى في مهرجان الشعر العالمي عام 1999، إضافة إلى أنه بمناسبة اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008. وكُرم عبد الواحد ومُنح درع دمشق، كما كرم في مناسبات وفعاليات ثقافية أخرى.