مصالحة الريف في المغرب.. تتجه نحو الانفراج أم الانفجار؟

12

طباعة

مشاركة

مع تواصل قادة "حراك الريف" في المغرب إضرابهم عن الطعام في السجون لأكثر من 3 أسابيع، تتعالى أصوات شعبية وسياسية للإفراج عن المعتقلين، و"بدء مصالحة" مع منطقة الريف (شمالا)، خاصة مع اقتراب الحراك من ذكراه الرابعة، وسط صمت رسمي بشأن التفاعل مع كل المطالب.  

وتعود بداية "حراك الريف" إلى نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2016، في أعقاب مصرع بائع السمك محسن فكري طحنا داخل شاحنة لجمع النفايات ألقى نفسه فيها احتجاجا على مصادرة السلطات أسماكه.

مقتل فكري شكل شرارة لسلسلة احتجاجات سلمية شملت مدن وقرى منطقة الريف، طالبت على مدى 10 أشهر بـ"تحقيق التنمية ورفع الظلم الاجتماعي" عن المنطقة، ما أسفر عن توقيفات واعتقالات ومحاكمات بتهم ثقيلة، منها "المساس بالمملكة وقضايا تتعلق بالإرهاب".

"مطالب التنمية" تبنتها الدولة عام 2015، حين أطلق العاهل المغربي محمد السادس في أكتوبر/تشرين الأول 2015، برنامج تنمية إقليم الحسيمة (2015- 2019)، تحت اسم "الحسيمة.. منارة المتوسط"، بتكلفة 6.5 مليار درهم (667 مليون دولار)، لكن "التنمية" ظلت حبيسة المذكرات.

وأقرت الدولة بأخطاء مسؤوليها من خلال إعفاء 4 وزراء من مناصبهم بعد مرور عام على الاحتجاجات، بسبب تقصير في تنفيذ برنامج "منارة المتوسط"، لكن ذلك لم يشفع بإطلاق سراح جميع المعتقلين أو التخفيف من عقوبات حبسية وصلت 20 سنة، لتتصاعد مطالب الإفراج وبدء مصالحة "تاريخية" تعيد الاعتبار للدولة ومواطنيها.

المصالحة هي الحل

حزب "الاشتراكي الموحد" (معارض) أكد في بيان صادر عنه في 30 يوليو/تموز 2020، أن المصلحة العليا للوطن وللشعب المغربي، وهو يواجه تطورات جائحة كورونا وتبعاتها الخطيرة، تقتضي خلق انفراج سياسي بالإفراج عن قيادة الحراك الشعبي بالريف و كل ناشطيه، وفتح حوار مسؤول مع قيادة الحراك والاستجابة لمطالبهم، من أجل تفادي الانعكاسات الوخيمة على صحتهم وحياتهم". 

ودعا الحزب إلى "بدء مسار مصالحة تاريخية حقيقية مع الريف ومع كل الجهات المهمشة، برؤية واضحة للعدالة الاجتماعية والمناطقية واحترام حرية التعبير والرأي والاحتجاج السلمي ووضع حد للمقاربة الأمنية وتلفيق التهم".

وبشأن تفاعل الدولة مع هذه الدعوة، قال الناشط الحقوقي خالد البكاري: "ليست هذه المرة الأولى التي يدعو فيها (الاشتراكي الموحد) لانفراج سياسي، يكون مدخله إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وخاصة معتقلي حراك الريف، كما أن هذه الدعوة قامت بها كوادر سياسية وحقوقية أخرى".

وأضاف في حديث لـ"الاستقلال": "بل إن عريضة سابقة وقعت عليها شخصيات معروفة باعتدال خطابها، وضمنها وزراء سابقون، قد تضمنت هذا المطلب، دون أن تكون هناك بوادر استجابة لهذا المطلب الذي تعاملت معه الدولة بتغليب المقاربة الأمنية على السياسية والحقوقية".

وتابع البكاري: "مع ذلك نتمنى أن يكون الإفراج الأخير عن مجموعة من معتقلي الحراك، والظرفية الصعبة التي تمر منها البلاد بسبب تداعيات جائحة كورونا، واقتراب الموسم الانتخابي (في 2021) عاملا على تسريع حدوث انفراج في هذا الملف وملفات أخرى".

واستدرك: "ولو أن إشارات مضادة من قبيل اعتقال الصحفيين سليمان الريسوني وعمر الراضي (في مايو ويوليو على التوالي)، واستمرار حماية منابر تحترف التشهير بالمعارضين تجعل المراقب يشكك في إمكانية حدوث انفراج قريب".

المرتضى إعمراشا، أحد أبرز وجوه حراك الريف المفرج عنهم بعفو ملكي، علق على بيان "الاشتراكي الموحد" بالقول: "منذ بداية الاعتقالات على خلفية الحراك الشعبي بالريف تناسلت بيانات الأحزاب السياسية الداعية للمصالحة وتحقيق مطالب الساكنة وإطلاق سراح المعتقلين، لكن لم تحرك تلك البيانات أي شيء".

وأرجع ذلك، في حديث مع "الاستقلال"، إلى أن هذه الأحزاب "ليس لها أي قوة أو تأثير، فقط هي مقاولات لإدارة الحكومة وتلميع النظام السياسي بالمغرب حسب رغبة المخزن (النخبة الحاكمة) سواء أكانت في الأغلبية أو المعارضة".

وإعمراشا، ناشط بارز في الحراك، حكم عليه عام 2017 بخمس سنوات سجنا نافذا إثر إدانته بـقضايا تتعلق بـ"الإرهاب"، في حكم وصف في حينه بـ"القاسي جدا" و"المجحف"، وأفرج عنه ضمن العفو الملكي الأخير (29 يولي/تموزو)، بعد قضاء 3 سنوات سجنا.

وعما إذا كان إطلاق سراحه هو وآخرون، يمهد للإفراج عن قادة الحراك (ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق)، يقول إعمراشا: "لا أدري، نتمنى الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين، فنحن دخلنا السجن لنفس الأسباب، والدولة أطلقت سراحنا ولم تطلق سراح آخرين، وهذا لا أجد له تفسيرا، فالمخزن لم يعودنا على منطق في إدارته لهذه المرحلة". 

فيما أوضح البكاري أن "القراءات تتعدد بخصوص العفو الأخير عن مجموعة من معتقلي الحراك، بين قراءة متفائلة تعتبر العفو مدخلا لطي الملف، والإفراج عن باقي المعتقلين (نحو 24 شخصا)، خصوصا أن هذا العفو شمل أسماء بارزة في الحراك، مثل محمد المجاوي والحبيب الحنودي وإعمراشا".

وتابع: "فيما هناك قراءة مشككة تذهب إلى اعتبار هذا العفو يندرج في مخطط لعزل قائد الحراك ميدانيا ناصر الزفزافي، وتصويره على أنه شخصية راديكالية، وبين قراءة أخرى توجد في المنطقة الوسط بين هاتين القراءتين، وتعتبر أن هذا العفو هو محصلة حوار بين هذه المجموعة والسلطة بوساطة من المجلس الوطني لحقوق الإنسان (حكومي)، وأن الإفراج عن من تبقى يبقى رهينا بجولة جديدة من الحوار".

واعتبر البكاري أن "غياب (الجولة الجديدة) من هذا الحوار حاليا هو إشارة أن الدولة حاليا لا تفكر في الإفراج عن الزفزافي والمجموعة التي تعتقد السلطة أنها قريبة من خطه وشخصه".

حرية المعتقلين

وعن التنازلات المفروض تقديمها من قادة الحراك المسجونين وعائلاتهم للإفراج عن الزفزافي وأصدقائه، قال إعمراشا: "ليس هناك ما سيتنازلون عليه، لأننا دافعنا عن طريق الاحتجاج السلمي على حقنا في الحياة الكريمة، وليس في كل هذا ما يستحق أن نتنازل عنه". 

فيما أفاد البكاري "لا أعتقد أن الدولة تنتظر مقابلا أو تنازلات من الزفزافي وباقي المعتقلين، فهؤلاء لم يسبق لهم أن دعوا لإسقاط النظام، أو لانفصال منطقة الريف".

وأضاف: "شخصيا أستغرب حين أقرأ بعض التحليلات التي تربط استمرار اعتقال هؤلاء بمواقفهم الراديكالية، في الوقت الذي لا أجد هذا التشدد الذي يتحدثون عنه، بل إن ما يتحدثون عنه من استمرار الفساد ونهب المال العام، هي أمور ترد حتى في خطابات رئيس الدولة وملك البلاد".

ولفت البكاري إلى أن "الكرة في ملعب الدولة وليس المعتقلين، بل إن الزفزافي وقبل دخوله في إضراب عن الطعام مؤخرا، أطلق نداء يتضمن دعوة للحوار".

ولبدء هذه المصالحة، قال إعمراشا: "يجب إطلاق سراح كافة المعتقلين ومحاسبة الجناة في الانتهاكات التي تعرض لها الساكنة والمعتقلون وعائلاتنا، واعتذار رسمي من الدولة وجبر الضرر الفردي والجماعي، ووضع آليات يمكن تحريكها لمنع تكرار ما حدث في أي منطقة من مناطق المملكة".

من جهته، يؤكد البكاري أن الدولة مطالبة بالاستجابة الفورية لمطالب المعتقلين المضربين عن الطعام لوقف هذه المأساة الإنسانية، في أفق إطلاق سراح جميع معتقلي الحراك في أقرب فرصة".

ويوضح "لقد أنجزت الدولة نقاطا عديدة من الملف المطلبي الذي رفعه سكان المنطقة أثناء احتجاجاتهم، لكن رغم ذلك فإن القمع الشرس الذي واجهت به الحراك بعد مرور سبعة أشهر من انطلاقه، ومحاكمة ناشطيه في غياب لأبسط مقومات استقلال القضاء خلف جروحا وأحيا من جديد ذاكرة توتر العلاقة".

وشدد البكاري على أن "الدولة يجب أن تسارع في طي هذا الملف، ثم مباشرة نقاش حقيقي يساهم فيه المختصون في السياسة والتاريخ والاقتصاد والسوسيولوجيا من أجل إيجاد وصفة حقيقية ومستدامة لمصالحة حقيقية ومستدامة على أرضية الديمقراطية التشاركية والعدالة من أجل المستقبل".

كلما اقتربت ابتعدت

قبل سنة (في يوليو/تموز 2019)، كتب بتفاؤل الكاتب والأكاديمي بلال التليدي حول قرب المصالحة مع الريف، قائلا: "ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد بأن موعد المصالحة للدولة المغربية قد اقترب، وأن الدولة بصدد التمهيد لإعلان كبير يطوي ملف حراك الحسيمة، والاعتقالات الواسعة التي اندلعت على خلفية التعاطي معه".

وانطلق التليدي من 4 مؤشرات، أولها "العفو الملكي" عن عدد من معتقلي الريف (على فترات متفاوتة في الأعياد الوطنية)، وهو القرار الذي يؤشر على أن الدولة تقوم بعملية "تنهيج" للمصالحة، وتنزيلها في سياق تدريجي، "لا يبطل تحقيق هدف تثبيت هيبة الدولة"، فبقدر ما ترغب في طيه بقدر ما تسعى أن لا تكون هذه الخطوة ضد تثبيت هيبتها وسلطتها على المنطقة.

ثاني هذه المؤشرات، توالي تصريحات حكومية وازنة تؤكد اقتراب "العفو الملكي الشامل"، وأن الأمر يتطلب من ناشطي الريف ومختلف الهيئات السياسية والمدنية بالمنطقة توفير شروطه، و"عدم المساهمة في إحداث أجواء التوتر والتشنج التي تبرر الانتصار للمقاربة الأمنية".

ثالثها، إصرار الدولة على تنفيذ رؤيتها في التنمية في منطقة الحسيمة، واستكمال كافة المشاريع التي تمت برمجتها في المشروع الملكي "الحسيمة.. منارة المتوسط"، وتنفيذ مشاريع أخرى حكومية تم تنفيذها استجابة للضغط الملح للحراك.

رابع هذه المؤشرات، اللغة التي صدر بها تقرير المندوب الوزاري لدى رئيس الحكومة المكلف بملف حقوق الإنسان، شوقي بنيوب، والتي يستشف منها طلب الدولة على المصالحة، وسعيها بشكل حثيث لاستكمال شروطها، لكن مع التحكم في توقيتها، وطريقتها.

التيلدي يرى أن "منطق الدولة لم يتراجع كثيرا، فهي تتحكم في الملف بشكل كامل، فتختار توقيتها لإجراء العفو، وتختار الفئة التي تريد العفو عنها، وتبقي على القادة رهن الاعتقال، وتصرف الموقف بنحو متدرج حسب ردود الفعل من جهة النشطاء في الريف".

وخلص في مقاله إلى أن الطلب على المصالحة "ليس حاجة للدولة فقط"، بل "حاجة حيوية" للناشطين أيضا، وإن كانت حاجة الدولة إليه أكبر من حاجة الحراك إليه، بحكم الظروف التي يمر منها المغرب، والسياق الدولي والإقليمي.

وفي سياق "حاجة حيوية للناشطين"، كتب الإعلامي يوسف بلهايسي متسائلا مجيبا في الآن ذاته: "هل يرغب أحمد الزفزافي في إطلاق سراح ابنه (ناصر) وطي صفحة أحداث الريف؟ لا يبدو الأمر كذلك، فمواقفه وتدويناته للأسف لا تساهم سوى في تأزيم وضعية ابنه وملف أحداث الريف عموما، وإحراج من يقفون في صفه من المنظمات الحقوقية".

وأفاد عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك" أن "هناك جهات معروفة ليس في مصلحتها طي هذه الصفحة في إطار تصفية حساباتها مع الدولة، والسيد أحمد أضحى مجرد أداة في هذه المعركة، الحل هنا (في المغرب) وليس في بعض العواصم الأوروبية، والارتماء في أحضان الجهات المعروف عداؤها للمغرب".

هذه التدوينة، أثارت انتقادات شديدة على كاتبها لتجاهله إضراب المعتقلين و"خطر الموت القريب"، ولجأ لـ"الحجر" على مطالب وإلحاح والد ناصر، -عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو الهيئات الحقوقية-، بالإفراج عن ابنه ورفاقه المضربين عن الطعام لأكثر من 3 أسابيع، بحسب معلقين على صفحة الإعلامي بلهايسي.

فيما تيار ثالث لا يزال وسط هذا السجال والعلاقة المتوترة، يطالب من عائلات المعتقلين على خلفية "حراك الريف" بـ"صبر لا حدود له" في ملف "شائك" ينتظر "جرأة السلطة" و"تدخلا ملكيا" للإفراج عن باقي المعتقلين لاستعادة "قليل من الأمل" في مغرب ما بعد 2020.