عبدالكريم المدرس.. عالم كردي أعلن الجهاد لطرد الأميركيين من العراق
في 30 أغسطس/ آب 2020، تمر الذكرى الـ15 على وفاة مفتي الديار العراقية السابق العلامة الشيخ عبد الكريم المدرس، الذي يعد علما من أعلام العراق، ولا سيما أنه جمع علوم الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين والتفسير واللغة والأدب والفلك.
العالم الزاهد، وافته المنية عام 2005 عن عمر ناهز الـ104 أعوام قضاها في طلب العلم الشرعي وتدريسه، حيث كان مجلسه في جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني ببغداد، مقصدا لطلبة العلم وناشدي الفتيا، إضافة إلى أن له موقفا مشهودا من الاحتلال الأميركي للعراق.
ابن السلمانية
ولد الشيخ عبد الكريم بن فتاح بن سليمان بن مصطفى بن محمد المدرس من عشيرة (هوزقاضي) في قرية (تكية) بمحافظة السليمانية عام 1901، وبدأ تعلم القرآن الكريم وعلومه في سن مبكرة، نظرا لوجوده في بيئة دينية.
تتلمذ الراحل في المدارس الدينية التي كانت منتشرة في أنحاء مختلفة من العراق، ودرس على يد نخبة من العلماء ونال الإجازة العلمية سنة 1925 من الشيخ عمر القره داغي.
دخل مدرسة (خانقاه دورود) في إدارة حضرة الشيخ علاء الدين سراج الدين، ودرس النحو والمنطق وآداب البحث والفقه والفلك.
صار بعد ذلك مدرسا وإماما في أحد جوامع قضاء حلبجة في إقليم كردستان العراق، ولم يمض وقت طويل حتى انتقل إلى قرية بيارة، حيث عمل مدرسا في مدرستها الدينية حتى سنة 1951 وهناك برز حتى أصبح يسمى عبد الكريم بيارة المدرس.
درس في السليمانية وكركوك قبل أن يستقر ببغداد، ويعين مدرسا في مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني وإماما في جامع الأحمدي، ومع أنه أحال نفسه إلى التقاعد الوظيفي عام 1973 إلا أنه ظل يواصل الدرس والتدريس والإفتاء حتى آخر يوم من حياته.
تولى الشيخ المدرس إلقاء المحاضرات والدروس على الطلبة في جامع الجيلاني، كما تولى الفتيا في الأحكام الشرعية، وتخرج على يديه العشرات من علماء الدين ونالوا الإجازة العلمية التي أهلتهم لممارسة الخطابة والإمامة والوعظ والتدريس.
اجتمع عليه كثير من الطلاب من بلاد كثيرة من مملكة ماليزيا شرقا إلى مملكة المغرب غربا من جاوة وماليزيا وبنجلادش وباكستان وأفغانستان وتركيا ومصر والمغرب والجزائر ومن العراق عربها وكردها، إذ كانت تزوره البعثات العلمية من الجامعات الإسلامية مثل: الجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامعة القرويين وجامعة دار الندوة الهندية وغيرها.
قتال الغزاة
عارض الشيخ المدرس الغزو الأميركي على العراق عام 2003، إذ عرف عنه رحمه الله، بأنه أبي عفيف لم يتنازل أو يداهن حاكما ولا سلطة، وما قبل عطية أو هدية من حاكم، أو مسؤول.
أما موقفه المشهود عند دخول قوات الاحتلال الأميركي إلى العراق، فقد أثار نقمة واشنطن وبغداد في ذلك الوقت بسبب فتواه القاضية بضرورة قتال الغزاة وطرد المحتلين.
وإثر ذلك، فرضت سلطات الاحتلال الأميركي والحكومة العراقية برئاسة إبراهيم الجعفري، طوقا أمنيا حول مدرسته كونه أصدر أول فتوى له في 14 أبريل/ نيسان عام 2003، أي بعد أيام من احتلال العراق بإعلان الجهاد الموحد وإجازته للنساء الخروج للقتال في مواضع محددة.
وبسبب موقفه من الاحتلال الأميركي، تعرض الشيخ المدرس إلى محاولات اغتيال آثمة، لكن أهالي منطقة باب الشيخ في بغداد كانوا سدا منيعا أمام هذه المحاولات وأفشلوها.
تعرض بعدها إلى مضايقات عدة، حيث اعتقلوا الشيخ عبد القادر الفضلي، تلميذه وخليفته بالإفتاء، وممثله في المناسبات والاحتفالات، كما اعتقلوا طبيبه الخاص الدكتور خالد وهو تلميذه أيضا وتركوه بدون رعاية صحية ما أدى إلى تدهور حالته.
وخلال حملة تسفير المواطنين العرب الموجودين في العراق بعد الاحتلال، اعتقلوا أيضا أحد تلامذته ومن نذر نفسه لخدمته، وكان مصري الجنسية، وتأثر الشيخ بذلك وحاول عبثا السعي لإطلاق سراحه لكنه فشل، وكان ذلك أحد أسباب انتكاسة حالة المدرس الصحية.
بحر واسع
أثنى على علمه علماء عاصروه وآخرون جاؤوا من بعده، إذ قال عنه العلامة المفكر الدكتور مصطفى الزلمي: "العلامة الشيخ عبد الكريم المدرس عالم جليل لا مثيل له في عصره بالنسبة لعلوم الآلة، كان كريما وسخيا تجاه من يعرفه ومن لا يعرفه، وكان ملتزما بالإسلام التزاما موضوعيا علميا بعيدا عن الخرافات والجدل".
وكذلك، قال العلامة العراقي الدكتور عبد الملك السعدي: "الشيخ المدرس كان علما من أعلام التدريس، بحرا واسعا في الفتوى فقيها ممن تفتخر الأمة بأمثاله وتخرج على يده الكثير من العلماء".
أما العلامة العراقي الدكتور هاشم جميل، فقال عنه أيضا: "الشيخ عبد الكريم المدرس كان عالما فاضلا متمكنا في أغلب العلوم وبالأخص الفقه الشافعي".
وكتب عنه الراحل عبد المجيد فهمي حسن مؤلف كتاب "تاريخ مشاهير الألوية (المحافظات) العراقية" (لواء السليمانية) سنة 1946، قائلا: "فضيلة الملا عبد الكريم بن محمد، رجل من أفاضل رجال العلم وفقيه، اشتغل بتدريس هذه العلوم وهو لم يزل دائبا على توجيه تلامذته التوجيه العلمي الصحيح وقد ألف عدة كتب ورسائل في هذا الشأن، وهو وقور يمشي وجلال العلم والتقشف يحف به لا يرى من دنياه إلا أن يؤدي واجبه تجاه الرسالة الإسلامية".
مؤلفات منوعة
لم يكن الشيخ الراحل ممن يحب الظهور الذي تهواه الكثير من النفوس كما لم يكن يميل إلى التقرب من الحكام، إذ كرس حياته للعلم وكان يستغل وقت الفراغ في كتاباته ومؤلفاته الدينية والأدبية، ومن أهمها تفسير القرآن الكريم وكذلك القاموس العربي الكردي.
ترك المدرس عددا كبيرا من الكتب والدراسات تتجاوز عددها الـ50 مؤلفا، باللغتين العربية والكردية، وحتى الفارسية: منها (تفسير القرآن الكريم باللغة الكردية) ويقع في 7 أجزاء، وكتاب (الشريعة الإسلامية) باللغة الكردية وكتاب (فتاوى العلماء الكرد الفقهية) باللغة العربية (3 أجزاء) وتفسير القرآن الكريم (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) 8 أجزاء.
ومن مؤلفاته في النحو: (المواهب الحميدة في شرح الفريدة) للسيوطي، وفي علم الكلام له (الوسيلة في شرح الفضيلة) لعبد الرحيم المولودي، وفي الأدب الكردي (شرح ديوان مولوي)، و(شرح ديوان فقي قادرهماوندي)، و(شرح ديوان بيساراني).
وكان له اهتمام كبير في التاريخ، ومن مؤلفاته في هذا المجال كتابه: (علماؤنا في خدمة العلم والدين) باللغة العربية. أما في اللغة الفارسية، فقد ألف وهو في عمر 18 عاما رسالة "شمشير كاري في رد من أنكر التقليد والاجتهاد" ردا على آية الله الكردستاني (من علماء إيران).
وشغل الشيخ المدرس رئاسة رابطة علماء العراق من 1974 إلى 2003، كما أنه كان عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي من سنة 1979 إلى 1996، ومن بعدها أصبح عضوا شرفيا، وعضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضوا مؤازرا في مجمع اللغة الأردني 1980.