السياسة العمانية والخليج.. بين ثوابت السلطنة وضرورات إعادة التموضع
-
هيبة السلطان الجديد
-
تحدي السلم والأمن في المنطقة المضطربة
-
إشكالية الدولة الريعية
-
مسألة الحقوق والحريات
-
الاستقرار الاجتماعي
-
الإمارات
-
السعودية
-
تركيا
-
بريطانيا
-
الولايات المتحدة
مقدمة
تواجه عمان تحديات هامة بعد رحيل السلطان قابوس بن سعيد لا سيما على الصعيد السياسي وذلك على عدة مستويات، حيث كانت السلطنة تواجه سؤالا هاما يتعلق بنظامها السياسي داخليا: من يترأس السلطنة خلفا للسلطان قابوس؟ وما مدى استقلالية الداخل العماني في الانفراد بتحديد هذا القرار بمعزل عن الضغوط الإقليمية التي حاولت توجيه دفة اختيار السلطان الجديد لصالحها؟، كما واجهت تساؤلات تتعلق بشكل المؤسسات فيما بعد قابوس وتحديدا مؤسسة الجيش.
كما كانت هناك تحديات أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية للسلطنة في ظل السلطان الجديد، فبعد خمسة عقود من حكم السلطان قابوس والذي اتبع سياسة الحياد تجاه كافة المشكلات الإقليمية والعالمية واستطاع بذلك أن يتفادى مواقف الاستقطاب المختلفة، غير أن هذه السياسة أصبحت محل تساؤل في ظل السلطان الجديد وظهرت بوادرها منذ وفاة السلطان قابوس وغموض خليفته في الأيام الأولى ومحاولات ترجيح أحد المرشحين ضد المرشح الآخر.
كل ذلك يجعل المشهد في عمان بحاجة إلى قراءة جديدة، ومحاولات الوقوف على أبرز تطوراته والسياقات المحيطة بهذا التطور.
أولا: التحديات المتعلقة بالنظام السياسي الداخلي
خليفة قابوس
تعددت التكهنات في أواخر سنوات السلطان قابوس عن من سيخلفه، ووفقا للنظام الأساسي في عمان، فهناك بعض الشروط التي يتوجب على من يخلف قابوس التحلي بها، ولم يتحل بهذه الشروط إلا ثلاثة هم أولاد عم السلطان قابوس وهم هيثم بن طارق آل سعيد وأخواه أسعد وشهاب[1].
تزايدت التنبؤات بشأن احتمالية تولي أسعد خلافة قابوس، لا سيما حين عُيّن نائبا لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي في 2 مارس/آذار 2017، كان سعد ممثلا شخصيا للسلطان قابوس منذ عام 2002
جاء هذا التعيين متزامنا مع وعكة صحية شديدة مر بها السلطان قابوس وبعد أن ظل المنصب شاغرا لمدة تربوا على 20 عاما، قد سبق لأسعد أن شغل منصب رئيس مجلس أمناء جامعة نزوى أول جامعة خاصة في السلطنة، كما كان يدير شركته الخاصة –شركة الأسعد للاستثمار- ويقال إن قيمة أصولها بلغت مليار دولار تقريبا[2].
لكن كانت هناك تنبؤات أخرى تشير إلى أن هيثم هو الأوفر حظا بالنظر إلى خبرته في وزارة التراث والثقافة وعمله كأمين عام لوزارة الشؤون الخارجية، مما أصقل مهاراته السياسية[3].
لم يكن قرار خلافة قابوس شأنا عمانيا فقط، فهناك أبعاد إقليمية للقرار تتعلق بتفضيل دول الجوار الخليجي للمرشح أسعد مقابل المرشح هيثم، ويعود هذا التفضيل إلى توسمهم في تغير السياسة العمانية في ظل المرشح الجديد عما كان معهودا أثناء حكم قابوس، ولعل أكثر الدول المهتمة بذلك كانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتان تحفظتا على سياسة قابوس عموما وسياسته الخارجية الحيادية خصوصا.
يعود تفضيل أسعد من قبل السعودية والإمارات لسببين هامين أولهما يتعلق بخبرته في الشؤون الدبلوماسية حيث كان ممثلا للسلطان قابوس منذ عام 2003، في معظم المؤتمرات والمناسبات الخليجية والعربية والدولية ومنها مؤتمرا القمتين الخليجية والعربية الطارئين نهاية مايو/أيار 2019، وإن كان هذا السبب ليس كافيا بمفرده.
السبب الأهم لتفضيل كل من السعودية والإمارات لتنصيب أسعد وليس هيثم خلفا لقابوس هو تمتع أسعد بعلاقات ودية مع العديد من قادة الدول الخليجية (خاصة ولي عهد السعودية محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد) استطاع بناءها خلال المؤتمرات التي حضرها ممثلا لقابوس، ويرى البعض أن هذا ربما يكون أحد أسباب استبعاد السلطان قابوس له من ولاية عرش السلطنة بعده، حتى أنه لم يمثله في قمة الرياض الخليجية التي انعقدت في ديسمبر/كانون الأول 2019.
كانت الإمارات والسعودية على أمل أن يؤدي تنصيب أسعد إلى تغيير في السياسة الخارجية العمانية والعدول عن سياستها التي تتسم بالحياد حيال المشكلات الإقليمية، بما يعني مشاركتها السعودية والإمارات في تدخلاتها ومنها التدخل في اليمن أو تغيير نمط التعامل مع إيران على سبيل المثال[4].
تباينت وجهات النظر حول السلطان الجديد حتى استقر الاختيار على السلطان هيثم وذلك بناء على رغبة السلطان الراحل قابوس، وبذلك فقد آثره السلطان قابوس على المرشحين الآخرين القادمين رغم مجيئهما من خلفية عسكرية، يبدو أن اختيار قابوس لهيثم ينم عن رغبته في استمرار النهج الدبلوماسي في السياسة العمانية، ولذا فقد عدل عن اختيار المرشحين ذوي الخلفيات العسكرية[5].
كما فضل السلطان قابوس اختيار السلطان هيثم لخبرته السياسية واهتمامه بالثقافة حيث كان وزيرا للثقافة، كما كان مقربا من السلطان قابوس ومتقاربا معه في الأفكار والسياسات سواء السياسات الداخلية أو الخارجية.
فعلى صعيد السياسات الداخلية سبق للسلطان هيثم تولي رئاسة لجنة الرؤى المستقبلية المكلفة بالتخطيط لمستقبل عمان وفق رؤية2040[6]، وأوكل إلى هذه اللجنة وضع خارطة طريق للتطوير الاقتصادي في السلطنة لعشرين عاما بحيث يتحول الاقتصاد العماني من اقتصاد يعتمد على النفط كمورد رئيسي للبلاد إلى اقتصاد متنوع الموارد.
ويترافق مع هذه التعديلات الاقتصادية ثلة من التعديلات التشريعية والقانونية أملا في أن يؤدي ذلك كله إلى تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتخفيف الاحتقان ضد الحكومة والنظام الذي ظهر في شكل احتجاجات قبل خمسة أعوام من رحيل قابوس، وبذلك فإن مهمة السلطان هيثم أعظم في السياسات الداخلية مقارنة بمهمته في السياسة الخارجية[7].
أما بالنسبة للسياسة الخارجية فقد تعهد السلطان هيثم بالالتزام بنهج السلطان قابوس القائم على الحياد تجاه المشكلات والحوار مع كافة دول الجوار[8]، وإن كانت هناك طموحات لبعض دول الجوار قد تدفع السلطنة إلى الحيد عن هذه السياسة.
تحديات أمام السلطان الجديد
- هيبة السلطان الجديد
تعد هيبة السلطان الراحل قابوس أحد التحديات لخليفته السلطان هيثم، إذ إن قابوس امتد حكمه لما يقارب 50 عاما، استطاع خلالها أن يحافظ على استقراره حكمه في أغلب الأحيان، بالتالي ربما يواجه السلطان هيثم بن طارق تحدي المقارنة بالسلطان قابوس أي الحفاظ على استقرار حكمه كما فعل قابوس[9].
- تحدي السلم والأمن في المنطقة المضطربة
يعد من أهم التحديات التوترات القائمة بين واشنطن وطهران، إضافة إلى أزمة المواجهة بين دول الخليج وبعضها، وبعد تنصيبه أكد السلطان الجديد على استمرار سياسة قابوس القائمة على سياسة الحياد وعدم التدخل في شؤونهم بل والحفاظ على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب.
تولى السلطان هيثم سدة الحكم في عمان في فترة عصيبة انتشرت فيها الحروب في المنطقة، قد فاقمت الجغرافيا من التحديات التي قد تواجه السلطان الجديد، حيث يجاور اليمن التي تشهد حربا وإيران الواقعة تحت تهديد الولايات المتحدة في ظل ترامب، فضلا عن مشاريع بعض القوى الإقليمية والتي تجعل المنطقة في حالة توتر دائمة.
- إشكالية الدولة الريعية
يقوم النظام السياسي في عمان على نموذج الدولة الريعية ومن ثم فالعقد الاجتماعي القائم لا يعكس تداولا للسلطة أو مشاركة سياسية كبرى أو إشراك النخب في صناعة القرارات ورسم السياسات العامة، وإنما يعكس دولة ريعية توزع بعض عوائد النفط على شعبها في شكل وظائف أو خدمات، وبينما تواجه هذه الدولة شبح نفاد احتياطاتها خلال العقدين المقبلين، ما يرفع الحاجة إلى تحولات في النظام استعدادا لمرحلة "ما بعد النفط"، وربما يكون الأنسب للسلطنة نموذج "الملكية الدستورية" التي سبق أن طرحها رئيس الوزراء السابق طارق بن تيمور.
وإلى جانب ذلك فالسلطنة بحاجة إلى تنويع موارد الاقتصاد سواء من خلال تشجيع الاستثمار الأجنبي أو تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة وهي خطوات كانت تحظى بتشجيع السلطان قابوس، كما قد يساعد في الأمر استعانة السلطان الجديد بالعائلات التجارية العمانية المهيمنة على الحياة الاقتصادية، أي أنه لا بد من الموازنة بين مصالح هذه الفئة وبين مصالح الفئات الأخرى التي يستهدفها برنامج الإصلاح الجديد.
أما التحدي الآخر الذي قد يواجه ملف الإصلاح، وهو صعوبة تنفيذ مخطط تقليل النفقات، لأن أي تخفيضات تقوم بها الحكومة ستؤثر على شريحة كبيرة من السكان، بجانب وجود ضغوط هائلة، حيث أشارت توقعات صندوق النقد الدولي إلى وقوع مزيد من التدهور المالي خلال السنوات الخمس المقبلة، الأمر الذي سيتطلب مزيدا من الاعتماد على الاحتياطات الضئيلة بالفعل. يضاف لذلك وجود مشكلة في اجتذاب تمويل للمشروعات البرنامج الوطني الحكومية[10].
- مسألة الحقوق والحريات
نظرا لأن النظام العماني قائم على نموذج "الدولة الريعية" فإن النخب كانت تُستأنس بشكل أو آخر، ومن ثم لم يكن مسموحا بمعارضة جريئة للنظام القائم، بل كان النظام يبادر بالعقوبات المختلفة ومنها السجن والإعدام، ومن ثم فإن كنا نتحدث عن نظام سياسي يواكب مرحلة ما بعد النفط فإن هذا النظام لا بد أن يولي قضايا الحكم الرشيد وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية عناية أكبر أو معالجة مختلفة عن معالجات المرحلة السابقة[11].
- الاستقرار الاجتماعي
كانت إحدى نجاحات قابوس توحيد السلطنة رغم تنوع الأعراق والطوائف المكونة لها، وتجنب الانقسامات الطائفية وساعده في ذلك استقرار الأوضاع المالية في عهده، غير أن تراجع القدرات الإنفاقية للدولة قد تتسبب في حدوث توترات داخلية مثلما حدث من احتجاجات عام 2011.
ومن ثم فإن السلطان هيثم أمام تساؤل يتعلق بمدى قدرته على كسب الشرعية الشعبية أي ضم الطوائف المختلفة تحت لواء حكمه، خاصة في ظل تدني الوضع الاقتصادي، واجتذاب الفئات المختلفة وتحديدا جيل الشباب الذي شهد تغيرات اقتصادية وتكنولوجية هامة وبالتالي فالتعامل معه يفرض تحديا جديدا[12].
ثانيا: التحديات المتعلقة بالعلاقات الدولية
القوى الإقليمية
اتبعت عمان سياسة عدم التحزب في النزاعات الإقليمية وآخرها الحياد من الأزمة الخليجية التي شنتها السعودية والإمارات ضد قطر وقاطعوها، ولعبت العديد من أدوار الوساطة بين الجماعات المختلفة، وظل الأمر مستتبا هكذا حتى أعوام قليلة مضت، سعت فيها بعض الدول الخليجية لتغيير نمط العلاقات القائمة، وحاولت الزج بعمان نحو الاستقطاب.
- الإمارات
تكمن الأهمية الإستراتيجية لسلطنة عمان في كونها ممرا هاما للتجارة العالمية، وتحتضن مضيق هرمز (أحد أهم الممرات المائية الدولية في عمان ويقع بين سلطنة عمان وإيران ويصل الخليج العربي بخليج عمان وبحر العرب)، وتستمد هذه الأهمية من سيادتها على شبه جزيرة مسندم التي تبعد عن مسقط بحوالي 600 كم غير أن الإمارات تعزلها عن بقية عمان، وهي منطقة تضم منحدرات بحرية مهيبة تطل على ممرات الشحن عبر مضيق هرمز وتمر من خلالها حوالي سدس إمدادات النفط العالمية، يسكنها قبيلة شيحو Shihuh، ويتحدث بعضهم اللغة المهددة بالانقراض Kumzari[13]، تتسبب شبه الجزيرة في توترات دائمة بين كل من عمان والإمارات لأنها منقسمة إلى جزئين أحدهما تابع للإمارات بينما الآخر تابع لسلطنة عمان.
تثير شبه جزيرة مسندم التوترات دوما بين الإمارات وعمان، إذ تحاول الإمارات السيطرة عليها وبدأت محاولاتها بالسيطرة على كافة الموانئ المحيطة بالمنطقة لتطويق "مسندم"، وقد أصدرت الإمارات خريطة لتبيان حدودها عام 2018، وأظهرت الخريطة "مسندم" ضمن أراضيها مما أدى إلى استفزاز عمان وأكدت مصادر صحفية حينها اعتزام السلطنة إرسال رسائل شديدة اللهجة إلى الإمارات التي كانت خاضعة لنفوذ السلطنة سابقا، تكرر الأمر حين تقدمت الإمارات بخريطة لها وضعت في متحف اللوفر بأبوظبي في ذات العام ضمت فيه رؤوس جبال سلطنة عمان ضمن أراضيها، وقوبل ذلك بغضب رسمي وشعبي.[14]
كما أن هناك مصدرا آخر للتوتر بين الإمارات وعمان يتمثل في الرغبة الإماراتية المستمرة والملحة للاطلاع على أدق تفاصيل الحكم في عمان وآليات العمل الحكومي والعسكري، وقالت مصادر صحفية بأن عمان استطاعت إسقاط شبكة تجسس إماراتية تابعة لجهاز أمن الدولة في الإمارات عام 2011، استهدفت هذه الشبكة جمع المعلومات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية عن السلطنة إضافة إلى كسب ولاءات ضباط وسياسيين عمانيين لصالح دولة الإمارات[15]، بحيث تتمكن الإمارات من التخطيط لمرحلة ما بعد قابوس.
نفت الإمارات حينها بشكل قاطع صلتها بالخلية، وتدخل أمير الكويت ونجح في احتواء الأزمة بعد زيارة لمسقط اصطحب فيها محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ومحمد بن راشد حاكم دبي ورئيس مجلس الوزراء، وتم تصفية الأمر تماما بعيدا عن أجهزة الإعلام[16].
عادت الأجواء تتعكر مرة أخرى مع اكتشاف السلطنة خلية تجسس ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لكن الإعلان عنها تأخر إلى مارس/آذار 2019، حيث حاولت الإمارات شراء أراض عمانية في مناطق إستراتيجية وهي (البريمي، مسندم، ظفار، الظاهرة الوسطى، شناص، ليوا، جبل الأخضر، جبل شمس، مواقع التراث)، وردت السلطنة آنذاك بقرار ملكي حظرت بموجبه امتلاك الأراضي الزراعية والعقارات لغير المواطنين في هذه المناطق لمدة عامين وإلا تمت مصادرتها[17]، بذلك أصبحت الإمارات مثار ريبة وتشكك دائم للسلطنة.
أما المصدر الثالث للتوتر بين البلدين فهو الملف اليمني، إذ إن الإمارات أعلنت أن الهدف من التدخل في اليمن دعم السلطة المحلية والحفاظ على الأمن في منطقة المهرة - ثاني أكبر محافظات اليمن وبوابتها الشرقية-، وتشكل المهرة الامتداد الاجتماعي والديموجرافي والعمق الأمني والإستراتيجي لسلطنة عُمان، وتعتبر حائطًا جغرافيا يعزل السلطنة عن الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأمنية في اليمن، ويمنع انتقال تداعياتها إليها، وتمتلك عمان علاقات قوية للغاية مع زعماء وأبناء المحافظة، وقامت بتجنيس العديد منهم[18].
رغم أن الهدف المعلن للتدخل دعم السلطة المحلية، غير أن الواقع الفعلي يؤكد سعي الإمارات للسيطرة على المهرة مثلما فعلت مع عدن وبعض مدن الجنوب، حيث وصل ممثلون إماراتيون إلى المحافظة في أغسطس/آب 2015 أي بعد 4 أشهر فقط من التدخل في اليمن.
في البداية كان هناك اتفاق بين الإماراتيين ومحافظ المهرة تقوم بموجبه الإمارات بتجنيد وتدريب 2000 من أبناء المحافظة لكن فشل هذا الاتفاق لاحقا بسبب الاختلاف بين الإمارات والمحافظ على بعض بنوده.
شكل الوجود الإماراتي في المهرة تهديدا خطيرا للسلطنة من جهتين، فأما الأولى فهي تهديد السيادة العمانية إذ إن وجود المملكة العربية السعودية والإمارات على مقربة من حدودها يعني تطويقها وتقليص نفوذها، وأما الثانية فتهديد اقتصادها إذ إن السلطنة تعتمد على المنافذ المائية المشتركة مع اليمن للحصول على موارد للاقتصاد العماني، وبالتالي قد يؤدي خسران نفوذها في المهرة إلى المغامرة بجزء من مواردها الاقتصادية.
أخرج التعامل الإماراتي والسعودي السلطنة عن حيادها، وبدأت باستقبال أطراف يمنية على أراضيها ومنهم قيادات دعت إلى إنهاء مشاركة الإمارات في التحالف العربي في اليمن، وأعلنت السلطنة أن هدف الزيارة كان التباحث ومناقشة الأوضاع وبحث السبل الممكنة لتحقيق السلام باليمن وسبل تعزيز العلاقات بين البلدين، كما أكدت أن هذه القيادات ستلتقي بعدد من المسؤولين العمانيين[19].
ورغم كل ذلك لم تزل الإمارات تحاول الضغط على عمان بشتى السبل، استغلت في ذلك الوضع العماني وتحديدا الوضع الاقتصادي المتدني، حيث يرتفع الدين العام في عمان ما يجعل قابليتها للضغط عليها اقتصاديا مرتفعة، ومن ثم فقد عمدت الإمارات إلى تقديم القروض بمليارات الدولارات لعمان إبان التظاهرات التي قامت في ظفار وصحار مواكبة الربيع العربي كي تستطيع بها تقديم المعونات وتحسين الأوضاع الاقتصادية لامتصاص الاحتقان ضد السلطات العمانية[20].
كما حاولت الضغط على السلطنة بمنافسة مشاريعها الاقتصادية، حيث كشفت صحيفة هندية عن خطة إماراتية لإفشال مشروع ميناء "الدقم" العماني –أحد أكبر موانئ المنطقة- ويقع على بحر العرب، ويعد هذا الميناء أحد أهم مصادر الدخل العمانية لأن به صهاريج تستخدم لتخزين النفط وإعادة تصديره إلى جانب كونه ميناء.
وأكدت صحف هندية عن سعي محمد بن زايد حاكم أبوظبي لإبرام اتفاقية مع الهنود لإقامة نشاط مشابه لتخزين النفط في الإمارات لضرب المشروع العماني، وذلك بعد استئجار الإمارات جزيرة "سقطرى" اليمنية في مياه بحر العرب[21].
- السعودية
حرصت السلطنة على علاقات ممتدة إلى دول الجوار طالما لم تضطرها هذه العلاقات إلى الاستقطاب، ولم تكن علاقتها بالمملكة العربية السعودية استثناء من ذلك، وانضمت السلطنة إلى تحالف الدول الإسلامية الذي تقوده المملكة بهدف مكافحة الإرهاب.
لكن لم تؤيد المملكة تأييدا مطلقا وظلت هناك بعض الملفات التي تجلب التوترات بين الطرفين، ومنها موقف السلطنة من إيران إضافة إلى حيادها حيال قضايا هامة للسعودية وتحديدا الملف اليمني والحصار على قطر.
بالنسبة للعلاقات بين السلطنة وإيران فهي علاقات قوية تعود لعام 1973 حين قام شاه إيران بالتعاون مع البحرية البريطانية لمساعدة السلطان قابوس على إنهاء التمرد الداخلي المعروف باسم "ثورة ظفار"، وحافظت السلطنة على هذه العلاقة حتى لو على حساب علاقتها بدول عربية ومن ثم رفضت طلب الرئيس العراقي صدام حسين استخدام أراضيها لقصف طهران خلال الحرب التي نشبت بينهما [22]، كما رعت لاحقا الاتفاق النووي الذي أبرم بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وتمثل العلاقات العمانية الإيرانية مشكلة للسعودية بسبب العداء التاريخي بين الدولتين.
كذلك ظل حياد السلطنة مؤرقا للسعودية دوما وتجلى ذلك في ملفي الأزمة اليمنية وحصار قطر، حيث سبب الملف اليمني تنافرا بين الدولتين، وانسحبت السلطنة من الحلف الذي قادته السعودية والإمارات للتدخل في اليمن عام 2015، حين رأت في ذلك تهديدا لاستقرارها، في ظل خشيتها من امتداد الحرب إلى حدودها الجنوبية أو إثقالها باللاجئين الفارين من الحرب، حثت كافة الأطراف بالالتزام بحل الأزمة سلميا من خلال المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة.
لكن التدخل السعودي الإماراتي في اليمن أثار مخاوف السلطنة حين ركزت الدولتان على السيطرة على منطقة المهرة، فبينما عملت الإمارات على تدريب مقاتلين نجد أن السعودية وجدت عسكريا هناك وأعلنت اعتزامها مد خط أنابيب عبر منطقة المهرة وإنشاء ميناء نفطي على الساحل اليمني، وتقوم الرياض حاليا بشحن النفط عبر مضيق هرمز ومضيق باب المندب، بينما سيسمح خط الأنابيب المقترح بالوصول المباشر إلى المحيط الهندي[23].
ولتحقيق ذلك أرسلت الرياض قوات تابعة لها إلى المحافظة لتوزيع المساعدات السعودية على اليمنيين واستعادة السيطرة على مطار الغيضة الذي يمثل العاصمة الإدارية للمحافظة والمطار الوحيد بها، وأسست آنذاك سجنا في المطار.
ورغم غياب القبول الشعبي واستمرار الاحتجاجات القبلية المضادة للوجود السعودي، عمدت السعودية إلى إقامة 26 نقطة تفتيش في القرية التي يوجد بها الميناء، كما انتشرت القوات السعودية على طول الحدود العمانية اليمنية.
سيطرت السعودية أيضا على المعابر بين اليمن وعمان وتحديدا معبري صرفيت وشحن، وحظرت حركة التجارة واكتفت بالسماح للجرحى اليمنيين بالعبور إلى عمان وسمحت أيضا بعبور الأفراد.
كما حرصت السعودية على وجود عسكري كثيف باليمن، حيث أرسلت لواءين يتألفان من 2500 جندي سعودي في المهرة إضافة إلى 1300 فرد من قوات حرس السواحل اليمني و1500 من أفراد القوات الخاصة تعمل خارج إطار الدولة اليمنية.
لم تكتف السعودية بالقوة الصلبة بل حاولت ممارسة القوة الناعمة، فقامت بنشر مذهبها الديني في المهرة، من خلال تعيين خطباء المساجد وأئمتها.
لم يكن الملف اليمني آخر معاقل الخلاف بين المملكة والسلطنة، بل كان الحصار المفروض على قطر عام 2017م فصلا آخر من فصول الخلاف، تحدت السلطنة الحصار بالسماح للرحلات المتبادلة بين السلطنة وقطر ذهابا وإيابا وكذلك الموانئ.
كما قاومت عُمان محاولات المملكة العربية السعودية لاستخدام مجلس التعاون الخليجي كأداة لخدمة أجندة السياسة الخارجية للسعوديين، رفض وزير الدولة العماني للشؤون الخارجية خطة الملك عبد الله علنا، وتضمنت هذه الخطة تعميق مجلس التعاون الخليجي وتحويله إلى اتحاد خليجي في عام 2013[24].
أفضى كل ذلك إلى توترات بين الجانبين بشكل مستمر بالإضافة إلى توجس دائم من قبل السلطنة، ففي ظل غياب الدعم الأميركي قد يكون المستقبل بقيادة السعودية، ومن ثم فقد تكون السلطنة في الهدف التالي للحصار الذي تشنه هذه الدول وقد لا تمتلك أدوات القوة مثل قطر والتي تمكنها من تفادي العقوبات وعدم التأثر بالحصار[25].
- تركيا
لم تكن العلاقات العمانية التركية وليدة اللحظة بل كانت متوطدة خلال حكم السلطان قابوس والتعاون الاقتصادي بين البلدين خير شاهد على ذلك، حيث قالت السفيرة التركية في عمان عائشة أوزين: إن حجم التجارة الثنائية بين البلدين ارتفع بنسبة 55% خلال عام 2018، كما منحت السلطنة عددا من المقاولين الأتراك مشاريع هامة في السلطنة وأدوها بكفاءة، وتؤكد البيانات الرسمية التركية أن حجم الصادرات إلى السلطنة ارتفع من 325 مليون دولار في 2017، ليصل إلى 442 مليون دولار في 2018[26].
يبدو أن العلاقات التركية العمانية تسير نحو المزيد من التعاون في ظل تولي السلطان هيثم، وربما يضيف ذلك نقطة أخرى إلى نقاط الخلاف القائمة فعلا مع كل من السعودية والإمارات اللتين تتمتعان بعلاقات غير جيدة مجملا مع تركيا لا سيما أن العلاقات العمانية التركية تتوطد على حساب العلاقات العمانية السعودية والإماراتية، فمثلا أنهت شركة "عمران" التابعة لوزارة السياحة العمانية عقدا مع شركة "داماك" الدولية الإماراتية والتي كانت موكلة بعدة مشروعات كبرى منها تطوير ميناء السلطان قابوس وتحويله إلى وجهة استثمارية سياحية، وتشير بعض التقديرات إلى أن الشركات الإماراتية قد تتكبد مبلغا يقدر بـ 400 مليار دولار[27]، ومن ثم تحاول ممارسة "الضغط الناعم" على عمان.
تكمن أهمية العلاقات بين مسقط وأنقرة في كونها تأتي في خضم إعادة تشكيل المحاور والتكتلات في المنطقة، وتطال المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وقد بدأت العلاقات في ظل السلطان الجديد حين قدم نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي تعازيه في السلطان قابوس في 12 يناير/كانون الثاني 2020[28].
فعلى الصعيد السياسي شهد مطلع أغسطس/آب 2020، اجتماع أمين عام وزارة الخارجية العمانية بمساعد وزير الخارجية التركي سادات أونال وبحثا تعزيز العلاقات بين البلدين إضافة إلى بعض القضايا الإقليمية، كما هنأ مفتي عمان في صفحته على تويتر تركيا ورئيسها والأمة الإسلامية بإعادة افتتاح "آيا صوفيا" كمسجد، كما تناول الرئيس التركي والسلطان العماني، في اتصال هاتفي قضايا إقليمية ودولية والعلاقات الثنائية بين البلدين[29].
وأما على الصعيد الاقتصادي تم افتتاح فرع لشركة "هافلسان" التركية للصناعات الإلكترونية الجوية بالسلطنة في مارس/آذار 2020، ضمن مشروع مشترك مع شركة عمانية لزيادة حجم الصادرات الدفاعية التركية إلى عمان، كما استلمت السلطنة زورقين للدوريات الأمنية السريعة من نوع "هرقل" من أصل 18 زورقا تعاقدت عليها مع شركة تركية متخصصة بصناعة السفن، كما تواردت أنباء لم تتأكد بعد عن إقامة قاعدة تركية في عمان.
وربما تثير كل هذه الإجراءات غضب السعودية والإمارات على السلطنة غير أنه سيفسح لعمان منفذا تقدر فيه على تبادل مصالحها مع تركيا دون المساس بمصالح جوهرية تتعلق بالتنازل عن جزء من أراضيها أو تبعية أجهزتها لدول أخرى.
القوى العالمية
تتميز السياسة الخارجية في عمان بسمت عام يتمثل في عدم خضوعها للتحزبات المختلفة والبعد عن خيارات المواجهة المباشرة والصدام حتى أنها توصف أحيانا بأنها "سويسرا الشرق الأوسط"، ومن ثم كانت وسيطا في عدد من القضايا الشائكة والمراحل الحرجة، فقد حاولت السلطنة الإبقاء على علاقة وثيقة بقوة غربية للإبقاء على نظامها وحافظت إلى جانب ذلك على علاقات متنوعة مع قوى أخرى.
- بريطانيا
تتسم العلاقات بين السلطنة وبين بريطانيا بالمتانة، ومما يدل على ذلك أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأمير تشارلز وصلا إلى مسقط من أجل مراسم عزاء السلطان قابوس أطول الحكام العرب بقاء في السلطة.
كانت عمان محمية بريطانية سابقة في شبه الجزيرة العربية، وتوطدت العلاقات المتينة عام 1970، حين شهدت السلطنة انقلابا بقيادة السلطان قابوس على أبيه السلطان سعيد بن تيمور وقد كانت بريطانيا وشاه إيران أكبر الداعمين له في ذلك ليتولى الأول بعدها سدة الحكم وينصب نفسه رئيسا للوزراء ووزيرا لكل من الخارجية والدفاع بعد إقصاء عمه طارق بن تيمور عن المشهد، وظل قابوس محتفظا بهذا المنصب حتى وفاته، كما أنه عمل على استقرار حكمه الوليد ومن ثم قتل متمردي ظفار والذين ثاروا ضده وكانت بريطانيا الداعم الرئيسي له في ذلك[30].
كما يعود لبريطانيا الفضل في بسط نفوذ النظام الذي ترأسه قابوس في مطلع حكمه على شبه جزيرة مسندم، حيث وافقت الحكومة البريطانية في كانون الأول / ديسمبر 1970 -بعد أشهر من خلع السلطان قابوس والده بنجاح- على عملية إنترادون في مسندم لتأمين المنطقة وإخضاعها لحكم سلطنة عمان وبذلك تمكنت عمان من السيطرة على نقطة حيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي، ومكنها ذلك من الاحتفاظ بوضع قوي في الشؤون الإقليمية تحديدا ووضع يمكنها من التحرك عالميا، ولا يزال التمسك العماني بمسندم قويا إلى الحد الذي يجعلها قد تتغاضى عن دعوات السلم والتعايش إذا تعلق الأمر بسيطرتها على شبه الجزيرة[31].
- الولايات المتحدة
نظرا لالتزام مسقط بعدم التحزب، فقد كانت خيارا مثاليا للوساطة في عدد من القضايا الشائكة ومنها التواصل بين إيران والعراق خلال حرب الخليج وبين الفلسطينيين والكيان الصهيوني وكذلك بين المقاتلين في اليمن والولايات المتحدة وإيران.
نجحت جهود الوساطة عدة مرات منها الإفراج عن المشاة الأميركيين الذين تحتجزهم إيران عام 2011. كما يسرت لاحقا اجتماعات سرية في مسقط بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين خلال فترة رئاسة أوباما والتي أدت في النهاية إلى خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) وتمخض عنها الاتفاق النووي الإيراني في يوليو/تموز 2013، وساعد ذلك على تخفيف الاحتقان والتوتر الذي نشب آنذاك وظل الاتفاق قائما حتى نبذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي انسحب منه واصفا إياه بأنه "صفقة سيئة" وبذلك بلغ الاحتقان بين الطرفين ذروته[32].
الخاتمة
يبدو أن عمان مقبلة على مخاض ليس باليسير إذ لا يتعلق الأمر فقط بتغير رأس القيادة السياسة وإنما بتغير الهيكل الذي تتم فيه التفاعلات السياسية كلها وذلك على المستويين الوطني والإقليمي، وهو ما يتطلب إستراتيجيات وسياسات جديدة تتواكب مع الوضع القائم.
وطنيا.. يواجه السلطان الجديد تحولات اقتصادية واجتماعية تفرض صياغة عقد اجتماعي على أسس جديدة غير التقاليد السائدة أثناء فترة حكم السلطان قابوس.
وإقليميا، تغيرت طموحات وسياسات الدول المجاورة خاصة السعودية والإمارات، وبرزت ضغوطات لتوجيه الداخل العماني بما يتلاءم مع مصالح الدولتين إضافة إلى محاولات للضغط على عمان لإعادة توجيه سياستها الخارجية أيضا.
وحتى الآن لم تحد عمان كثيرا عن النهج الذي اتبعه السلطان قابوس، لكن ربما لا يستمر الأمر على ذات النحو مستقبلا لا سيما في ظل المستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإن كان المشهد يفرض على عمان ضرورة البحث عن أوراق ضغط أو مصادر قوة في سياستها الخارجية والموازنة بين الحلفاء وأولويات سياستها إذا ما اضطرت لكسر حاجز الحياد الذي تلتزم به، وقد بدأت السلطنة بالفعل اتخاذ خطوات يسيرة في هذا الصدد.