صالح بن يوسف.. ناضل لتحرير تونس من الاستعمار فطالته رصاصات الغدر

12

طباعة

مشاركة

بعد نجاح الثورة التونسية عام 2011، أعيد فتح عدد من الملفات المغلقة منذ عقود ويحوم حولها الكثير من الغموض والصمت، من بينها النهاية الدامية للصراع اليوسفي البورقيبي في خمسينيات القرن الماضي.

ينسب هذا الصراع إلى الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد صالح بن يوسف الذي قاد التيار المعارض للحبيب بورقيبة قبيل الاستقلال وبعده، وهو ما كلفه مع أنصاره الملاحقات والتنكيل حتى تم اغتياله في "جريمة دولة واضحة المعالم" كما وصفها التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة.

بقيت شخصية صالح بن يوسف لعقود مصدر إلهام لعدد من القوى السياسية التي تحاول أن تنسب نفسها له، ورمزا لأول المعارضين لنظام استبدادي ناشئ، في المقابل يحمل البعض الآخر الكثير من الانتقادات لسيرة الرجل، وخياراته السياسية قبل صراعه مع بورقيبة وبعده.

عائلة عريقة

في أقصى الجنوب الشرقي التونسي، وفي جزيرة جربة التي يلقبها التونسيون بجزيرة الأحلام، ولد صالح بن يوسف في حومة (حارة) "مغراوة" التابعة لمعتمدية ميدون في 11 أكتوبر /تشرين الثاني  1907، في عائلة جربية عريقة أصلها من بلدة قرماسة القريبة من تطاوين.

التحق ابن يوسف كغيره من أبناء جيله بالكتاتيب، فحفظ نصيبا من القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية. وظهرت عليه علامات النجابة منذ الصغر، فأوفده جده سنة 1915 إلى مدينة تونس ليواصل بها دراسته. 

انضم أولا إلى مدرسة خير الدين التي نال منها بامتياز الشهادة الابتدائية، في سنة 1922. وهو ما أهله إلى الالتحاق بمعهد كارنو لمزاولة دراسته الثانوية. وانتقل من قسم إلى قسم بنجاح إلى أن أحرز الجزء الأول من البكالوريا في يونيو/ حزيران 1929 ثم الجزء الثاني (شعبة الفلسفة) بعدها بعام.

وبعد حصوله على البكالوريا (الثانوية العامة) سافر إلى باريس في أكتوبر/ تشرين الأول 1930 لاستكمال دراسته العليا في كلية الحقوق، ليعمل بعدها في المحاماة.

نضال مبكر 

كان لابن يوسف نشاط طلابي كبير في باريس حيث انخرط في صفوف جمعية طلاب شمال إفريقيا المسلمين مع عدد من التونسيين والمغاربة والجزائريين، وإضافة إلى هذا النشاط الإفريقي الأشمل كان له نشاط وطني بحت تمثل في تأسيس شعبة طلابية تابعة للحزب الدستوري الحر.

عرف صالح بن يوسف بخطبه الحماسية الملتهبة، وألقي عليه القبض مرة ثانية بجهة الكاف، وهو يستعد لإلقاء خطاب في الجموع الشعبية يوم 6 أبريل/نيسان 1938، ما أدى إلى الإضراب يوم 8 أبريل/نيسان 1938، والتظاهر ضد الاحتلال الفرنسي، وبعدها بيوم واحد اندلعت الحوادث الدامية بسبب ظلم الاستعمار ومحاولات سحق الحركة الوطنية.

قضى الزعيم صالح بن يوسف 5 سنوات في السجن رفقة الزعماء الوطنيين الذين تحملوا السجن والغربة خارج الوطن، حتى عادوا إلى تونس بعد أن أطلق سراحهم.

لكن صالح بن يوسف مثل سائر الزعماء كان رافضا للتعاون مع دول المحور (تحالف عسكري تشكل في الحرب العالمية الثانية وضم ألمانيا وإيطاليا واليابان والدولة العثمانية ثم انضم إليهم دول أخرى مثل فنلندا ورومانيا وبلغاريا والمجر)، مؤمنا بأن النصر سيكون للحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا) في النهاية.

وبعد الحرب العالمية الثانية، واصل ابن يوسف نشاطه داخل البلاد، وشارك في عقد مؤتمر ليلة القدر في 23 أغسطس /آب 1946 بحضور مختلف التيارات السياسية بالبلاد، وخلص المؤتمر إلى قرارين بارزين: أولها المطالبة بالاستقلال التام وثانيا إعلان الكفاح المسلح ضد الاستعمار. 

وزيرا للعدل

في عام 1950، شكل محمد شنيق حكومة تونسية مهمتها الدخول في المفاوضات مع فرنسا لتمهيد الطريق للوصول الى السيادة الكاملة بشكل تدريجي.

أصبح صالح بن يوسف وزيرا للعدل في هذه الحكومة، وكان أول عضو من أعضاء الحزب الدستوري الجديد يتولى منصبا حكوميا، وفي هذه الفترة كان صالح بن يوسف من المؤيدين لسياسة تحقيق أهداف الحزب عن طريق التفاوض مع الفرنسيين.

ابن يوسف هو من قدم نداء تونس إلى مجلس الأمن، وبعد ذلك بشهرين، عمد المقيم العام الفرنسي إلى اعتقال جميع الزعماء الموجودين في تونس، وقتها كان ابن يوسف في باريس، وتمكن من الفرار إلى الحدود البلجيكية، ومنها إلى مصر، حيث واصل نشاطه السياسي بحضور مؤتمرات دولية للتعريف بالقضية التونسية.

حينها نشأت المقاومة المسلحة، بعد مذكرة بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول 1951 أغلقت بموجبها فرنسا الباب أمام المفاوضات، وكان من ضمن قيادات الحركة الوطنية الحبيب بورقيبة.

بداية الخلاف

كان " الزعيم الكبير" صالح بن يوسف كما يصفه مناصروه، أكثر شعبية وشهرة وأوسع آفاقا داخل الحزب الدستوري الحر، حيث كان الجيل الجديد أكثر احتكاكا به من الحبيب بورقيبة رئيس الحزب، الذي تفرغ للتنقل من بلد إلى آخر للتعريف بالقضية التونسية وحشد الدعم لها.

بعد إعلان المقيم العام الفرنسي منداس فرانس في 31 يوليو/تموز 1954 استعداد بلاده منح الحكم الذاتي لتونس، اشترطت باريس كعلامة لحسن النية أن يقدم المقاومون أسلحتهم في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 1954، ويتحصل كل مقاوم يقدم سلاحه على بطاقة تسمى "بطاقة دو لاتور" وهو اسم قائد جيش الاحتلال.

توجهت قيادات من الحزب الحر الدستوري للجهات لجمع الأسلحة، حيث تحفظ عدد من المقاومين على تسليم أسلحتهم، وبعضهم سلم أسلحة فاسدة، فيما بادر آخرون بالتسليم استجابة لطلب الحزب.

كتب صالح بن يوسف رسالتين، في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني و24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، مخاطبا قيادة الحزب الحر الدستوري التي تفاوض الفرنسيين من أجل حكم ذاتي، تبعا لاتفاق سري بين بورقيبة ووزير الشؤون الخارجية الفرنسية في حينه، بيار منداس فرانس.

ابن يوسف قال: "إذا وافقتم على تسليم السلاح فهذا يعد منكم خيانة وعارا، وإذا سلمتم في حقوقنا في الأمن والتمثيل الدبلوماسي والخارجية فهذا عار وخيانة أمام العالم، وأمام الشعب التونسي بصفة خاصة".

وخطب ابن يوسف من أعلى منبر مؤتمر باندونغ سنة 1955 الذي ستنبثق عنه منظمة عدم الانحياز، قائلا: "على الشعب التونسي المدعوم اليوم بمساندة ثلثي شعوب العالم المجتمعة في مؤتمر باندونغ أن يرفض حكما ذاتيا خادعا ومفرغا من مقوماته".  

ما حذر منه صالح بن يوسف هو ما حصل بالفعل، فبعد 8 أشهر من المفاوضات، وقع التونسيون والفرنسيون في 3 يونيو/حزيران 1955، اتفاقية الاستقلال الداخلي التي تضمنت اعترافا بالسيادة التونسية لكن بصورة شكلية، إذ تركت مسألة الدفاع والشؤون الخارجية للمحتل الفرنسي.

وأكدت الاتفاقية على تواصل الوجود العسكري الفرنسي بتونس خاصة في بنزرت والجنوب والمناطق الحدودية مع الجزائر وليبيا، وتضمنت الاتفاقيات خرائط لهذه المناطق.

في 13 سبتمبر/أيلول 1955، عاد الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف إلى تونس ليقود المعارضة ضد اتفاقيات الاستقلال الداخلي، وكان مدعوما من لجنة صوت الطالب الزيتوني، وقيادة الاتحاد العام للفلاحة التونسية ودوائر جامع الزيتونة.

ألقى ابن يوسف خطابا شهيرا بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 1955، أمام جامع الزيتونة للتعبير عن رفضه للاتفاقيات مطالبا المقاومين بمواصلة الكفاح المسلح، لتكون الأشهر اللاحقة مرحلة مصيرية داخل الحركة الوطنية.

وبينما اعتبر ابن يوسف اتفاقيات الاستقلال الداخلي "خطوة إلى الوراء" وصفها بورقيبة بـ"إنجاز للتونسيين يمهد للاستقلال التام"، ضمن سياسة المراحل التي قرر أن ينتهجها، وهو ما فجر صراعا مفتوحا ما بين جناحي الحزب "البورقيبيين واليوسفيين". 

حزب جديد

في مؤتمر صفاقس (جنوب شرق البلاد) الذي انعقد أيام 15 - 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، وقاطعه ابن يوسف وأنصاره، قرر رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، طرده من الحزب، وتصفية أنصاره.

أسس ابن يوسف، حزبا جديدا باسم "الأمانة العامة"، حسبما ذكرت مطبوعة "كتاب أبيض في الخلاف بين الجمهورية التونسية والجمهورية العربية المتحدة" التي أصدرتها الخارجية التونسية سنة 1958.

سرعان ما تحول الحزب الجديد إلى حركة سياسية مقاومة، لا تعترف إلا بالعمل المسلح أسلوبا لتحقيق الأهداف السياسية، وطرد المستعمر، ضمن رؤية مغاربية تقوم على فلسفة لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة التي أقرت، في ميثاقها، أن استقلال أحد أقطار المغرب العربي لا يلغي مواصلة الكفاح من أجل تحرير بقية الأقطار. ولتصحيح اتفاقيات الاستقلال الداخلي والاستقلال التام.

منفى واغتيال

فتح الصراع المفتوح بين بورقيبة وابن يوسف، الحرب على كل الجبهات، حيث حصلت اغتيالات واعتقالات بين الجانبين، كما استعانت لجان الرعاية التابعة لبورقيبة بدبابات وطائرات فرنسية لقصف المجموعات اليوسفية على غرار ما حصل في جبل أغري بتطاوين، كما تم إنشاء معتقل صباط الظلام التي استغله البورقيبيون لتعذيب اليوسفيين.

غادر ابن يوسف من ليبيا في اتجاه منفاه الأول في القاهرة، وفي عام 1961 سافر إلى ألمانيا برفقة زوجته، وهناك أثناء الاستعداد للذهاب إلى كوناكري لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الغيني، اتصل عليه ابن أخت البشير زرق العيون طالبا منه بإلحاح لقاء خاله الذي كان يد بورقيبة اليمنى من أجل التنسيق للقاء جديد مع بورقيبة.

بالفعل ذهب ابن يوسف للقاء البشير في فندق بمدينة فرانكفورت تاركا زوجته تنتظر في المقهى، وما إن دخل الغرفة ينتظر وصول البشير حتى خرج له شخصان من الحمام يحملان مسدسات صامتة، وقتلاه من الخلف.

أوردت هيئة الحقيقة والكرامة بعد ثورة الحرية والكرامة في تونس، ما وصفتها بسلسلة من الأدلة والبراهين التي تؤكد ثبوت مسؤولية الرئيس الحبيب بورقيبة "بصورة لا لبس فيها" عن اغتيال رفيق دربه السابق وخصمه اللاحق صالح بن يوسف، مشيرة إلى أن بورقيبة اتخذ قرار تصفية غريمه إثر لقاء عاصف جمع بينهما بمدينة زيوريخ السويسرية في 2 مارس/آذار 1961.

انتظم هذا اللقاء بقاعة النزل التي يقيم فيها بورقيبة وذلك بسعي منه وبتنسيق مع مدير ديوانه البشير زرق العيون. وحضر هذا الاجتماع كل من وسيلة بورقيبة وعلالة العويتي وسفير تونس بسويسرا توفيق ترجمان، إضافة لعمر الشاذلي الطبيب الشخصي لبورقيبة. كما واكب الاجتماع عناصر من الأمن السويسري بطلب ابن يوسف ضمانا لسلامته.