القوة الناعمة التركية.. المفهوم ومؤشرات الصعود
مقدمة
كان لافتا على الصعيد العالمي أن يقف رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان ليعلن أنه لو ترشح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للرئاسيات الباكستانية فإنه سيفوز.
وأضاف رئيس الوزراء الباكستاني - خلال جلسة المجلس النيابي التي تضمنت كلمته - إشارة إلى أنه يشاهد للمرة الأولى في حياته تصفيق مؤيدي الحكومة الباكستانية في البرلمان ومعارضيها في نفس الوقت، خلال تقديم أردوغان في المجلس النيابي[1].
ورغم أن العلاقات الدولية ذات الوجهة التعاونية حافلة بالمجاملات بين القادة والزعماء، فإن أيا من أمارات الترحيب والمجاملات البروتوكولية لم يسبق أن طالت هذا الحد من تصوير إمكانية نجاح رئيس أجنبي في رئاسيات دولة لا يحمل جنسيتها.
العبارة الرئاسية والترحيب النيابي في باكستان يحملان دلالة على مبلغ التأثير الذي تحمله قوة تركيا الناعمة اليوم.
مفهوم القوة الناعمة
قوة الدول في عالم اليوم تعرف 3 مفاهيم يستخدمها المحللون، أولاها: مفهوم القوة التقليدية، التي تشير لمصادر القوة التي تستخدم على سبيل الإكراه، مثل القوة العسكرية، والقوة الإكراهية للاقتصاد والمعونة، بما يتضمنه المنح من إمكانية المنع من جهة والعقوبات من جهة أخرى[2].
أما ثاني مفاهيم القوة: فهو مفهوم القوة الناعمة، وهي علاقة قوة وتأثير لا تقوم على الإكراه، بل تقوم على جاذبية الأداء السياسي والثقافي والتقني للدولة، ولفت النظر إليها عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي منذ 1990 ، عندما صك مصطلح القوة الناعمة، وعمقها في 2004، عندما حول المصطلح إلى مفهوم إجرائي قابل للقياس.
ويرى دارسو القوة الناعمة في كل من القوة العسكرية والقوة الاقتصادية أداتين مرتفعتي التكلفة بشكل كبير، ولا تؤديان إلا لتعقد العلاقات الدولية.
وتحرص الدول، بما في ذلك الدول الكبرى في أعقاب الحرب الباردة، خاصة بعد بلورة مفهوم القوة الناعمة - على زيادة مواردها من القوة الناعمة التي ينعكس أثرها من خلال نفوذ تفرضه جاذبية أداء الدول على الأصعدة السياسية الخارجية، بما تحمله من مشروعية وتعاونية، ومن الثقافة والأداء المحكم للحكومات، وحتى الأداء الثقافي والسياسي للمجتمعات[3].
أما المفهوم الثالث للقوة: فهو مفهوم القوة الذكية، وهو عبارة عن إستراتيجيات تجمع ما بين القوتين التقليدية والناعمة، وهو مصطلح تنامى وسط إدراك بأن أيا من القوتين بمفرده لن يؤتي الأكل المستهدفة، ولن يحقق أهداف السياسة الخارجية للدول التي تحتاج أيضا إلى قوة تقليدية تحمي نموذجها ذا الجاذبية والمشروعية[4].
لسنا هنا بصدد سبر الإطار النظري حول القوة الناعمة وعلاقاتها بغيرها من مفاهيم القوة، لكن من المهم أن نقف عند حدود هذا المفهوم، ونحن على وشك التعاطي مع دلالات القوة الناعمة التركية الراهنة.
المؤشرات الستة
ويعتمد تقرير القوة الناعمة على 6 مؤشرات فرعية، تتمثل فيما يلي[5]:
- مؤشر الحكومة: وهو مؤشر مصمم لتقييم القيم السياسية لدولة من الدول، ومؤسساتها العامة، والنتائج الكلية لسياساتها العامة.
- مؤشر الثقافة: يعتمد "تقرير القوة الناعمة" على مؤشر الثقافة، كأحد مؤشرات قياس القوة الناعمة لدولة من الدول.
- الدبلوماسية: يهدف مؤشر الانخراط في المجتمع الدولي، لقياس الأثر العالمي للموارد الدبلوماسية للدولة، وقياس إجمالي مساهماتها في جهود المجتمع الدولي.
- التعليم: إن قدرة الدولة على جذب طلبة أجانب، أو تسهيل التبادل الطلابي، واتخاذهم مددا ناعما، تعد من الأدوات القوية للدبلوماسية الشعبية.
- المشروعات: قد تبدو العناصر المرتبطة بالاقتصاد من قبيل القوة التقليدية أكثر ارتباطا بالقوة الناعمة، إلا أن مقياس المشروعات الذي يتناوله مؤشر تقرير القوة الناعمة لا يتعلق بالنشاط الاقتصادي، بل يهدف لقياس مدى جاذبية النموذج الاقتصادي الذي تتبناه الدولة.
- الرقمنة: مؤشر الرقمنة يمثل بعدا مهما في قياس القوة الناعمة، حيث إن هذا المؤشر أدى إلى تغيير شامل في كل جوانب حياتنا. ويهدف هذا المؤشر لقياس مدى اعتناق دولة من الدول للتطور التقني.
وينقلنا هذا التحديد الإجرائي لموقع تركيا على مدرج قياس القوة الناعمة، وتأثيره المستهدف عالميا وإقليميا، وهو ما نتناوله عبر المحاور التالية:
- مؤشر الحكومة:
جنبا إلى جنب مع حزمة سياسات قوية لدعم القوة الناعمة التركية، تعد مؤشرات المؤسسية السياسية والتركيبة الأيديولوجية الحاكمة في تركيا من أهم عوامل الجذب التي تمثل إسهام السياسة الداخلية التركية في دعم قوتها الناعمة.
فمن ناحية، هناك التجربة السياسية لحزب العدالة والتنمية، والتي نجحت مبدئيا في إدخال الديمقراطية التركية إلى حيز الاستقرار، حيث بدَّلت وضع تركيا التي شهدت منذ تأسيس الجمهورية الحديثة عام 1923 تشكيل 56 حكومة، حتى وقت تكليف "حزب العدالة والتنمية" التركي بتشكيل الحكومة في 11 مارس/آذار 2002، وهذا رقم كبير وسلبي بالمعايير الديمقراطية[6]، إذا ما قورن بالاستقرار السياسي بعد ذلك (5 حكومات خلال الفترة من 2002 - 2015)، وهو ما عزز عملية البناء الاقتصادي، وأدى لدعم أداء المؤسسة المعنية بإدارة السياسة الخارجية، وعزز من قدرة تركيا على المناورة في المعترك الدولي.
يضاف لهذا أيضا، دور حزب العدالة والتنمية في كبح جماح تدخل العسكر في السياسة، لينتقل من مرحلة شهدت 4 انقلابات خلال الفترة بين 1960 و1997 (37 عاما) إلى مرحلة حدوث محاولة انقلابية واحدة خلال 20 عاما، وهي المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو/تموز 2016[7].
هذا فضلا عن حفاظ تركيا على حال التعددية السياسية، وصيانتها رغم الشعبية القوية التي يتمتع بها "حزب العدالة والتنمية"، أو الكاريزما الاستثنائية للزعيم التركي رجب طيب أردوغان، علاوة على مقتضيات الديمقراطية الأخرى المتمثلة في استقلال القضاء والفصل بين السلطات، والحريات السياسية التي لم تتراجع نسبيا إلا في أعقاب انقلاب 15 يوليو، والذي خلق ظروفا استثنائية استدعت إجراءات استثنائية لمقاومة تركيبة خطيرة للدولة العميقة[8] التي تمكنت حركة فتح الله كولن من بنائها طيلة فترة نشاطها الدعوي في تركيا، والتي أعادت أنقرة لمكابدة ظاهرة الانقلابات العسكرية، بعدما كانت هذه الظاهرة قد اضمحلت في تركيا.
ومن جهة أخرى، فإن أيديولوجيا حزب العدالة والتنمية تنطوي على عدة مكونات تمثل مدخلا للقوة الناعمة التركية، ومن أهم هذه المكونات الأيديولوجية الهوياتية التي عالجت بها تركيا الأزمة المجتمعية التي تعبر عنها العلاقات الإسلامية المدنية في العالم العربي، والذي ذهبت الديمقراطية العربية ضحيتها، خاصة في مصر.
ويرى مفكرون أن منطلقات حزب العدالة والتنمية التركي تختلف عن المنطلقات التي يتبناها الجسم الرئيس والأهم في التيارات الإسلامية العربية، المتمثلة في جماعة "الإخوان المسلمين"، وأدى هذا المنطلق بالحزب نحو تبني تعريف تجديدي للعلمانية تمثل في حياد الدولة حيال المعتقدات، وهو ما مثل من وجهة نظر الحزب، ونظر عدد من القوى السياسية التركية ضمانة للديمقراطية، وتجاوزا فعالا لظاهرة الإقصاء التي عرفتها تركيا خلال الفترة من 1923 وحتى 2002[9].
هذا الاختلاف الذي شمل معالم من قبيل النأي عن التطبيق الحرفي للشريعة، أو تصدير "خطاب شريعة الحدود"، أو اعتماد المفاهيم التي تثير الذعر المدني مثل "الحاكمية"، أو "الخلافة"، التي نجحت حملات الدعاية الحكومية العربية والأجنبية على السواء على مدار بضعة عقود في شيطنتها وترهيب الجموع من حاملها، سواء داخليا أم بالاعتماد على الرافعتين الإقليمية والعالمية.
تجربة حزب العدالة والتنمية التركي التي تقيم تفاعلا خلَّاقا بين الدين، والعلمانية، والديمقراطية، وتداول السلطة[10]، وتقدم خطابا يصالح هذه المفاهيم على موروث الأمة، ويعيد توجيه تركيا كنموذج للتأثير في المنطقة، والابتعاد عن الشكل أو الطابع الغربي، من أجل إيجاد حالة إقليمية ترتكز على الهويتين التركية والإسلامية[11].
ومن جهة ثالثة، تبني نموذج المصالحة بين موروث الأمة ومستجدات الظرف التاريخي الراهن – كل هذا - دفع الحزب لتجاوز اختزال مواجهاته الوطنية في قضية الحرب الهوياتية، وتقديم نفسه بمعايير الإنجازات في المشاريع الاقتصادية ورفع مستوى التعليم والإنتاج، مع السعي الجاد لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، وبناء علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية تتجاوز علاقة الوكالة التي سادت خلال الحرب الباردة، مع الدور النشط في قضايا وملفات الشرق الأوسط، وربطها بالمصالح الحيوية الأمنية والاقتصادية التركية[12].
- مؤشر الثقافة:
عندما نتحدث عن المنتجات الثقافية التركية التي تمثل أحد أهم مصادر القوة الناعمة التركية، تثور في الأذهان أسماء مسلسلات مثل: "القرن العظيم"، الذي يركز على حياة السلطان العثماني سليمان القانوني في القرن الـ16، والذي يحتل المرتبة الأولى في قائمة المسلسلات التركية الأكثر مشاهدة في العالم.
يليه مسلسل "ما ذنب فاطمة جول"، ثم مسلسل "ألف ليلة وليلة"، علاوة على عناوين مثل "الحب الممنوع"، و"نور"، و"هكذا يمضي العمر"، و" قيامة أرطغرل"، و"السلطان عبد الحميد"، الذي يحظى بنسبة متابعة كبيرة.
وكشفت دراسة أجرتها شركة "إنتربريس ميديا سرفيسز" في النصف الثاني من 2019، أن تركيا تحتل المرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية في تصدير الدراما بإيرادات كانت تقدر في 2015 بنحو 350 مليون دولار.
وأشارت إلى أن الدراما التركية تشاهد اليوم في 100 بلد على الأقل[13]، ويصل عدد مشاهديها إلى 400 مليون مشاهد خارج تركيا. ووفقا لبيانات التنسيقية الدبلوماسية العامة لرئاسة الوزراء التركية، فإن تركيا تنتج نحو 100 عمل درامي سنويا، تُصدر منها قرابة 15 عملا إلى دول الشرق الأوسط والبلقان وأميركا اللاتينية وغيرها[14].
ويشير المراقب الأميركي "نيك فيفاريللي" إلى أن الدراما التركية تتمتع بشعبية واسعة في دول أميركا الجنوبية، خاصة في بيرو، وتشيلي، وبنما، وأوروجواي، كما يلفت إلى وجود شركات توزيع عالمية، تهتم بالإنتاج التركي، وتتخذ مقرات لها في تركيا، ومن بينها شركات "نتفليكس"، و"فوكس نتوركس جروب"[15].
وبعيدا عن السوق العالمي، فإن "هيئة أبحاث الجمهور الفرنسية" ذكرت في دراسة لها أن 75 مسلسلا تركيا عرضت على الشاشات العربية عام 2016، بإجمالي إيرادات بلغت 600 مليون دولار، وأن متوسط سعر الحلقة الواحدة من المسلسلات التركية في العالم العربي قد ارتفع من 500 دولار عام 2007 إلى 50 ألف دولار عام 2017[16]، في حين قدر بعض المراقبين للدراما التركية أن سعر الحلقة يباع بنحو 250 ألف دولار، بالنظر لاتساع نطاق المشترين[17].
وأوضح التقرير الصادر عن "هيئة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية" بتركيا أن 74% من مواطني العالم العربي يتابعون عملا دراميا تركيا واحدا على الأقل، ويعرفون اسم فنان تركي على الأقل. كما تضمن التقرير استطلاع رأي في 7 دول عربية، يوضح زيادة تعلق المواطن في هذه الدول بتركيا من 75% إلى 80%، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وأشارت إلى أن المملكة السعودية تحتل المكانة الأولى بين جماهير الدراما التركية عربيا[18].
غير أن الأهم بالنسبة لتركيا هو أهدافها المتعلقة بـ"الكتلة القومية التركية"، وهي السياسة التي تجعل من الجمهوريات التركية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وجمهوريات البلقان كذلك، الهدف الأساسي للدراما التركية، خاصة الدراما التاريخية، وهي الكتلة البشرية والسياسية التي تحسب لها روسيا الحساب الأهم في إدارتها لعلاقتها بتركيا، خاصة عندما اتخذت العلاقات بين البلدين منحى سلبيا خلال أزمة "إدلب"[19].
وينبني هذا الطموح الإقليمي على اللغة التركية التي تعد اللغة الأم لخمس دول من دول آسيا الوسطى، وهي: كازاخستان وأذربيجان وأوزباكستان وقيرغيزستان وتركمانستان، فقط طاجكستان هي التي تتحدث الفارسية[20].
وتشير بيانات وزارة الجمارك والتجارة التركية إلى أن الدراما ساهمت في رفع حجم صادرات أنقرة من الإكسسوارات والحلي والملابس وفنون الموضة والديكور بنسبة 8.92%، والألعاب الإلكترونية بنسبة 26.51%، والأعمال الروائية بنسبة 18.11%.
ولم يقف التأثر العربي بالدراما التركية في تقليد الموضة فحسب، بل امتد الأمر إلى الاهتمام بشراء الأثاث وديكورات المنازل حسبما يتم تداولها في الأعمال الفنية.
وتعتبر السعودية من أبرز النماذج بالوطن العربي في هذا الشأن، إذ أدى نجاح الدراما التركية إلى إقبال المواطن السعودي على اقتناء الأثاث غير التقليدي، وهو ما دفع لزيادة واردات السعودية من الأثاث التركي من 81.2 مليون دولار عام 2013 إلى 159.7 مليون دولار عام 2015[21].
- مؤشر الدبلوماسية:
بطبيعة الحال، ليس من مهمة هذه السطور أن تناقش بنية السياسة الخارجية التركية، بل تناقش تمظهر القوة الناعمة التركية خلال ممارسة القيادات التركية لعملية إدارة ملف السياسة الخارجية.
ويهدف مؤشر الانخراط في المجتمع الدولي إلى قياس الأثر العالمي للموارد الدبلوماسية للدولة، وقياس إجمالي مساهماتها في جهود المجتمع الدولي، وقدرتها على الإسهام في تشكيل أحد بعض ملامح أو نتاج التعاون الدولي.
فمن جهة، برز الزعيم التركي رجب طيب أردوغان كمنافح عن قضايا المظلومين، وما يهم الشعوب العربية والإسلامية، وقد تبدت هذه السمة السلوكية في إصرار أردوغان على مواجهة عملية القتل الوحشية التي تعرض لها الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
كما تبدت من جانب آخر في موقف أردوغان من اللاجئين السوريين، وفتح أبواب تركيا لهم، رغم عدم وفاء أوروبا بتعهداتها في مساعدة تركيا على احتواء تدفقهم[22]، وكذلك الإصرار على استضافتهم برغم محاولات بعض الأحزاب التركية تحويل وجودهم إلى أزمة اقتصادية وسياسية.
تبدى الأمر كذلك في موقف تركيا من قضية أقلية "الروهينجيا" في ميانمار[23]. وثمة كذلك التدخل التركي في ليبيا مساندة لحكومة تنتمي للربيع العربي، وهي الحكومة التي تواجه انقلابا عسكريا تدعمه دول محور الثورة المضادة[24].
آخرا وليس أخيرا، نجد تركيا تساند الدول الأوروبية التي وقعت فريسة جائحة كورونا، وتمدها بمستلزمات مواجهة انتشار هذا الفيروس[25]. صحيح أن هذا المسلك يأتي ضمن مصالح تركيا الحيوية، لكن هذه الحزمة وذاك المزيج في السياسة الخارجية لم تنهجه أي من الدول العربية والإسلامية التي تتشابه في توجهات سياستها الخارجية نسبيا مع الأهداف الدبلوماسية التركية.
من جهة ثانية، فإن الدبلوماسية التركية تبدو ناجحة في إقامة توازن دقيق في علاقاتها مع القوى الكبرى: الولايات المتحدة، وروسيا، وأوروبا، في منطقة الشرق الأوسط، وتبدو في حرص شديد على إقامة علاقة متوازنة بهم، في إطار تحقيق المصالح الوطنية التركية، وهو ما تبدى بصورة أساسية في مواقف تركيا من قضيتي: سوريا، وليبيا[26].
التوازنات التي أجرتها تركيا بين كل من الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، بشأن هاتين القضيتين، وتوظيف الطلب التركي على مشتريات السلاح المتعلقة بمنظومات الدفاع الجوي، بالإضافة لمصالح القوى الكبرى في إدارة هذا التوازن[27].
من جهة ثالثة، تعد فكرة "القومية التركية" وتوحيد الشعوب التركية تحت سيطرة أنقرة ورعايتها من الأهداف الطموحة لها، فتركيا تهتم في سياستها الخارجية ببناء "عالم تركي"، بالاعتماد على العوامل الثقافية والتاريخية المشتركة.
من أبرز محاولات تركيا الفعلية لتحقيق ذلك، العمل على إنشاء أبجدية تركية مشتركة تجمع شعوب الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، وهو ما انعكس على قرارات سلطات كل من : أذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، في الانتقال إلى اعتماد أبجدية جديدة مشتركة[28].
كما وقع وزراء ثقافة كل من: أذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وتركيا- في نفس السنة- اتفاقا بشأن إنشاء "منظمة دولية للثقافة التركية".
وتحت رعاية هذه المنظمة، تقام سنويا عدة فعاليات ثقافية، تعنى بتقديم "التراث المشترك للعالم التركي". وفي 2009، تأسس "مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية"، وشمل هذا المجلس كلا من: تركيا وأذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، ومن المهام الراهنة لهذا المجلس تطوير الكتب المدرسية في التاريخ، والجغرافيا، والأدب، في البلدان الأعضاء للمجلس، بما يتوافق مع التصورات التركية لتعزيز فكرة "القومية التركية"[29].
آخرا وليس أخيرا في هذه المساحة نتحدث عن الصورة التي خلفتها عمليات "إدلب". وبرغم أن هذه العملية لا تندرج في إطار الدبلوماسية، فإنها تعالج في سياق أعم، يتعلق بصورة الدولة في ممارستها لسياستها الخارجية.
فخلال فترة التحضير لمشاركة تركيا في ليبيا، أدار محور الثورة المضادة إقليميا دعايته، باعتبار مآل الوجود التركي في ليبيا إلى صدام مع الجيش المصري، وهو المسار الذي تريثت فيه القوات المسلحة المصرية لدواع عدة.
إلا أن تغطية تركيا لعمليتها في "إدلب" في مواجهة النظام السوري، ونمط تسليحه الروسي، والكفاءة التي أدارت بها تركيا عملية تصفية منظومة التسليح المستوردة من الدب الروسي، والدعاية التي رافقت العملية التركية حول كفاءة إنتاج الطائرات بدون طيار، واتجاه تركيا لإنتاج أنظمة مدفعية عالية التقنية، ومعالجة طبيعة المعركة باعتبارها مواجهة بين منظومتي التسلح التركية والروسية، كل هذا صب في تغيير صورة الممارسة الميدانية للمؤسسة العسكرية التركية[30]، وخلق رادعا إقليميا قويا حال دون تدهور الوضع الأمني في ليبيا لمربع المواجهة الشاملة المصرية التركية.
ويقال نفس الأمر فيما يتعلق بمساندة تركيا للعمليات الليبية، التي أدت لتحرير عدد من المدن غرب طرابلس. فسرعة إنجاز العمليات وكفاءة الأداء فيها[31] يمثلان عنصري ردع كفيلين بمنع اتساع نطاق المواجهة في ليبيا لتصبح مواجهة شاملة.
- مؤشر التعليم:
شهد العقد الأول من الألفية الثالثة طفرة تعليمية ملموسة في تركيا، وكان من أبرز حصادها ارتفاع عدد الجامعات في تركيا من 76 جامعة في 2007 إلى 170 جامعة في 2017 ، موزعة على غالبية المدن التركية عبر الجمهورية.
وتخطط تركيا للعام 2023، على أن يكون لديها 500 جامعة على مستوى الجمهورية. ويبلغ عدد أساتذة الجامعات في تركيا حوالي 100 ألف أستاذ تقريبا.
وفي عام 1981، كان تصنيف تركيا من حيث مستوى الدراسة الجامعية رقم (42) بين جامعات العالم في مجال البحث العلمي، وتقدم ترتيبها في عام 2008 للمرتبة (18) بين دول العالم في البحث العلمي.
ونتيجة للاهتمام بملف التعليم العالي، فإنه بحسب تقييم موقع "تايمز هاي إيديوكيشن" - بيت الخبرة في مجال تقييم التعليم العالي- اختيرت 6 جامعات تركية ضمن قائمة أفضل 500 جامعة في العالم في 2017، وهي جامعات "الشرق الأوسط التقنية" (الرتبة: 375)، و"جامعة إيجة" (467)، و"جامعة حجي تبة" (489)، و"جامعة غازي (493)، و"جامعة أنقرة" (496)، و"جامعة إسطنبول" (497) [32].
وفي 2020، دخلت 9 جامعات ضمن أفضل 1000 جامعة على مستوى العالم[33]. وهكذا اجتازت وتقدمت تركيا وفقا للتقارير والمعايير العالمية لقياس معدل التقدم في البحث العلمي، ومنها النشر في دوريات علمية عالمية، والحصول على براءات الاختراع، والإبداع العلمي، والحصول على جوائز عالمية[34].
وحسب تصنيف "معهد الحكومة" البريطاني لقياس القوة الناعمة، احتلت تركيا المرتبة (25) في عام 2011، والمرتبة (20) في عام 2012، ضمن قائمة تضمنت 40 دولة متقدمة على مستوى العالم في أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا.
ورغم أن تركيا لم تنافس على المراتب المتقدمة، فإنها كانت الأولى ضمن محيطاتها الإقليمية المختلفة (الشرق الأوسط - البلقان - آسيا الوسطى - القوقاز)، تلتها إسرائيل بفارق كبير في المرتبة (29)، ثم اليونان في المرتبة (33)[35].
ومن أهم الأسباب التي جعلت من تركيا وجهة للتعليم إقليميا وعالميا، جودة وفاعلية الدراسة في جامعاتها، وانخفاض تكاليف المعيشة، وقلة تكلفة رسوم الدراسة في المؤسسات الجامعية التركية مقارنة بالدول الغربية.
ويعد برنامج المنح التعليمية التركية من أهم برامج المنح في العالم، حيث توزع بين الدرجات الجامعية الثلاثة: البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وتشمل معظم التخصصات الدراسية في هذه المراحل الثلاث، وتنتهي المنحة إلى 4000 طالب حول العالم، يحظون بمزايا تنافسية، مقارنة بمنح الجامعات المختلفة حول العالم، ما بين توفير مصاريف الإقامة كاملة، وراتب شهري يتراوح ما بين 700 إلى 3000 ليرة تركية، بجانب التأمين الصحي المجاني طيلة مدة الدراسة، كما يحصل – صاحب المنحة -على تذاكر طيران مجانية إلى بلاده في العطلات السنوية طيلة فترة الدراسة، وبطاقة تنقلات (مواصلات) بقيمة رمزية، ومنحة مجانية إضافية لمدة عام لدراسة اللغة التركية، علاوة على زيارة الأماكن الأثرية والمتاحف مجانا طيلة فترة الدراسة[36].
وعبر نظام المنح، نجحت تركيا في استقطاب عدد كبير من الطلاب الأجانب بتركيزها على فتح أبواب الدراسة والتعاون العلمي والثقافي مع عدد من الدول، بلغ 176 دولة، ورافق نظام المنح نظام داخلي قام على تبسيط إجراءات الحصول على التأشيرة والإقامة.
ويبلغ عدد الطلبة الجامعيين بتركيا نحو 4.1 مليون طالب من بينهم أكثر من 54.4 ألف طالب أجنبي، بحسب تقرير منظمة "اليونسكو" لعام 2013، وزاد العدد إلى 87 ألف طالب في العام الدراسي 2015 - 2016[37].
ورغم أن لغة التدريس في أغلب الجامعات هي اللغة التركية، فإن عددا كبيرا من الجامعات الحكومية تدرّس تخصصات معينة باللغة الإنجليزية، أما الجامعات الخاصة فأغلبها يدرس باللغة الإنجليزية.
ومن أبرز الأمثلة على اهتمام تركيا بمحيطها الإقليمي ضمن سياستها التعليمية أنه في عام 2011 - 2012 كان لأذربيجان أكبر نسبة من حيث عدد الطلاب، بلغ نحو 4200 طالب، تلتها تركمانستان بنحو 1110 طلاب، وبلغ عدد طلاب جمهورية شمال قبرص التركية نحو 3800 طالب. كما أن هناك نسبة محدودة من الطلاب الأوروبيين، حيث أرسلت كل من ألمانيا، واليونان في هذا العام أكثر من 1300 طالب[38].
وترمي تركيا لتعزيز نفوذها وصورتها الذهنية في عقول شباب محيطاتها الإقليمية المتعددة التي أشرنا إليها، خاصة الجمهوريات التركية التي توالى استقلالها عن الاتحاد السوفيتي إثر سقوطه عام 1991.
- مؤشر المشروعات:
قد تبدو العناصر المرتبطة بمؤشر المشروعات من قبيل القوة الخشنة (وفق تعريف جوزيف ناي نفسه)، إلا أن مقياس المشروعات الذي يتناوله مؤشر تقرير القوة الناعمة لا يتعلق بالمنح أو العقوبات الاقتصادية، بل يهدف لقياس مدى جاذبية النموذج الاقتصادي الذي تتبناه دولة من الدول بالنظر لمعايير مثل التنافسية، والقدرة على الإبداع، وقدرتها على تسهيل وتعزيز المشروعات الاقتصادية والتجارة، ومستوى مكافحة الفساد في هذه الدولة.
وتدير تركيا صورة ملف الاقتصاد الداخلي بحرفية علاقات عامة عالية، تدعم قوتها الناعمة وصورتها في أعين المستثمرين وشعوب المنطقة، وتقيم توازنا فعالا في هذه الصورة بين بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي التي تبدو سلبية، مثل المديونية الخارجية الحكومية التي بلغت 217 مليار دولار، بحسب وزارة الخزانة والمالية، حتى يوليو /تموز 2019[39].
وتدير أنقرة هذا الملف أيضا في إطار علاقتها بمؤشرات موازية احتوائية إيجابية، مثل حجم الصادرات التركية الذي يبلغ نحو 185 مليار دولار، فضلا عن حجم الناتج المحلي بإجمالي بلغ نحو 900 مليار دولار[40]، وما يعنيه ذلك من قدرة عالية للاقتصاد الذي يعمل على تجسير الفجوة بين الصادرات والواردات بسرعة وكفاءة.
ومن قبيل الفاعلية في إدارة هذه المساحة أيضا ملف "حرب العملة"[41] التي وقعت ضحيتها لصالح ملف زيادة الميزة التنافسية للصادرات التركية بعد انخفاض قيمة الليرة التركية[42]، وهي الحرفية التي دفعت أحد رموز الحركة السياسية المصرية- وهو وزير الخارجية المصري الأسبق "عمرو موسى"- أن يوجه عرضا محرجا لأحد رموز الأذرع الإعلامية المصرية حول الاقتصاد التركي في قوة بنيته وارتفاع عوائد تجارته الخارجية[43].
وتسوق تركيا في نفس السياق نفسها بما تتمتع به من استقرار اقتصادي، من أهم ملامحه أنها تشكل سادس أكبر قوة اقتصادية على مستوى أوروبا، والاقتصاد ذ المرتبة السادسة عشرة على مستوى العالم، مع توقعات صندوق النقد الدولي بزيادة معدل النمو إلى 3%، مقارنة بتوقعات سابقة حملت معدل نمو 2.5%[44]. بل إن شبكة بلومبرج توقعت لها نموا يبلغ 5% في الربع الأخير من عام 2020[45].
غير أن أهم صور القوة الناعمة التركية- في الفترة الأخيرة - عمليات التصدير التركية لمستلزمات مواجهة جائحة كورونا، والتي بدت فيها تركيا قلعة صناعية للمستلزمات الطبية اللازمة لمواجهة الفيروس، حيث غطت الاحتياجات المحلية من الكمامات الطبية وأجهزة التنفس.
وتجاوزت ذلك لتصديرها لأكثر من 70 دولة حول العالم، من بينها الولايات المتحدة، ناهيك عن المعونات الطبية التي قامت بها تركيا – في هذا الصدد- والتي وجهتها للدول الأكثر تضررا من الفيروس، مثل إيطاليا وإسبانيا.
اللافت في هذا الصدد أن طبيعة الاستثمارات في هذا الإطار، وجاهزية البنية التحتية التعليمية، والتجهيزية للتوسع في هذا الإطار، اقترنت بالالتزام بالمعايير العالمية[46].
ومن بين المشروعات التي تلفت الأنظار حول العالم مشروع "الخطوط الجوية التركية"، وهي من شركات الطيران ذات النجاح الواعد على الصعيد العالمي.
وتحتل هذه الخطوط المرتبة الأولى عالميا من حيث عدد البلدان التي تقصدها، حيث بلغت وجهاتها في 2019 نحو 121 بلدا.
كما تحتل الشركة المرتبة الثانية عشرة عالميا من حيث حجم الأسطول، فهي تمتلك 332 طائرة، منها 107 من الطائرات العريضة، و225 من الطائرات الضيقة، كما تقع في المرتبة السادسة من حيث عدد الوجهات التي تتوجه لها شركة خاصة، حيث يبلغ عدد الوجهات في سبتمبر 2017 نحو 302 وجهة (مطار).
كما تحتل المرتبة 18 عالميا في عام 2018 وفق تقرير Sky Tracks ذي "المؤشرات الشاملة"، متفوقة على عدد كبير من الشركات الكبرى في هذا المجال، ومن بينها شركات ضخمة صينية وأميركية وأوروبية وعربية[47].
كان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو قد صرح بأن "الخطوط التركية" إحدى صور القوى الناعمة لتركيا في العالم، وأضاف في كلمته خلال مراسم تكريم مسابقة "سكاي لايف للصور" للخطوط الجوية التركية بمدينة إسطنبول: "ينتابنا الفخر عندما يطلب منا محاورونا أحيانا وساطة من أجل حجز مقعد لهم على متن الخطوط التركية في الرحلات من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأقصى"[48].
وتشير بيانات البنك الدولي لعام 2020 حول تيسير الأعمال، حلول تركيا في المرتبة 33 عالميا، فيما يتعلق بتيسير الأعمال، متفوقة حتى على إسرائيل التي تقبع في المرتبة 35، وسائر دول الإقليم، باستثناء الإمارات التي تقدم نفسها للعالم باعتبارها منصة للأعمال[49].
- مؤشر الرقمنة:
مقياس الرقمنة ضمن مؤشر القوة الناعمة يمثل بعدا مهما في قياس القوة الناعمة. ويهدف هذا المؤشر إلى قياس مدى اعتناق دولة من الدول للتطور التقني، ومدى عمق ارتباطها بالعالم الرقمي، ومدى استخدامها للدبلوماسية الرقمية عبر منصات التواصل الاجتماعي.
غير أن هذا المؤشر يعني لتركيا أكثر من مجرد اعتناق التقنية، حيث كان تراجع المستوى التقني أحد أهم أسباب عرقلة التكتل التركي في آسيا الوسطى، ورجحان كفة روسيا في علاقتها مع بعض جمهوريات آسيا الوسطى[50].
وتحرص تركيا على تغيير هذا الوضع، وتعمل على توسيع قاعدة تطورها التقني، وهو ما بدأ تبلوره دعائيا مع هجوم تركيا على قوات نظام الأسد في سوريا، مع تعقد الوضع الجيوسياسي في "إدلب"، حيث بدت التقنية التركية أحد أهم عوامل ترجيح كفة تركيا على النظام السوري المستند لتقنيات تسلح روسية متنوعة ومتطورة.
ومن جهة أخرى، تعمل "وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA)"، والتي تعد ثالث أكبر مانح للمساعدات التنموية على الصعيد العالمي[51]، في مقدمة الوكالات الدولية التي تقدم مساعدات تنموية إقليمية، خاصة لمنطقة القوقاز، وتشارك - في هذا الإطار - بدور فعال في رسم ملامح الثقافة المستقبلية للمنطقة عبر تنظيم البرامج التعليمية والمشاريع والمساعدات التقنية[52].
خاتمة
كنا قد بدأنا هذه الدراسة بكلمة رئيس وزراء باكستان حول القوة الناعمة التركية، وتأثير الزعامة الكاريزمية التركية حول العالم، وهي كلمة ذات دلالة، وبخاصة عندما تصدر من رئيس دولة بوزن باكستان.
وثمة إشارات كثيرة تلمسها شعوب وقيادات المنطقة في هذا الصدد. فبرغم الشراك الكبيرة التي تنصبها بعض دول المنطقة لتركيا وقيادتها، فإن صورا من تأثير القوة الناعمة التركية تتراءى للجميع من قبيل قدرة تركيا على اللعب بمهارة دبلوماسية فائقة بين القوى الكبرى التي تتمدد في الإقليم، وقدرتها على عكس آثار بعض الحروب الاقتصادية الموجهة إليها، على نحو ما أشرنا سلفا.
أيضا قدرتها على تحدي الدبلوماسية الأوروبية التي تريد محاصرة الطموح التركي الاقتصادي والسياسي في شرق المتوسط، وقدرتها على الاستفادة من طاقة ملايين اللاجئين الذين تنظر إليهم أوروبا برعب، واستخدام كل هذا الزخم لجذب مواطني محور الثورة المضادة من أجل التنمية وتعزيز الاقتصاد التركي، وإنعاش السياحة، والتملك العقاري في تركيا.
وينظر البعض إلى قدرة أنقرة على تحويل "قضية خاشقجي" لسلاح في وجه تغول محور الثورة المضادة، ومحاصرته عالميا، باعتباره تجلِّيا من تجليات القوة الناعمة التركية.
وتلعب تركيا اليوم بصورة كفء بمنطق "القوة الذكية"، الذي أوضحنا ملامحه في مطلع هذه الدراسة، حيث تفيد تحليلات الوقائع الراهنة أنها تعمد لتوازن خلاق بين المسارات الدبلوماسية المختلفة (سياسية، وتكنوقراطية، وشعبية) وتوظيف القوة العسكرية عند الضرورة، ما يجعلها من أخطر اللاعبين الإقليميين الذين يتمتعون بمصادر قوة ناعمة رفيعة المستوى، فضلا عن مستوى تقدم عسكري جعلها تحتل المرتبة التاسعة بين القوى العسكرية العالمية.
ورغم ذلك، فإن ترتيبات القوة الناعمة التركية، أوسع وأعمق من أن تكون محض مساند للقوة العسكرية، فاتساع نطاق إنتاج موارد القوة الناعمة، واتساع نطاق توظيفها، خاصة ما يتعلق بتحقيق أهداف السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية وقيادته، يمثل موردا متجددا أكبر قدرة على التأثير من محض القوة العسكرية والتلويح بها، والمساعدة من خلالها.
فما زالت هذه القوة الناعمة تمثل الكابح الأساسي لقدرة روسيا على مواجهة تنامي النفوذ التركي في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، كما أنها مصدر مقاومة الرؤى والتخطيط الأوروبيين لإحباط التحركات التركية إقليميا، عبر الدبلوماسية التركية التي تبدو واسعة الحيلة، وقادرة على بناء نماذج بالغة التعقيد في مواجهة تشابكات الوضع الإقليمي، وعلى إدارة شبكات الفاعلين الدوليين وغير الدوليين التي تزدحم مصالحها في المنطقة إثر عقود من تراخي أداء الأنظمة العربية الحاكمة.