ولد الحسن الددو.. مفكر موريتاني تشرب العلم الشرعي ليواجه الانقلابات
بزيه الموريتاني التقليدي، ولغته العربية الفصيحة الممتزجة بلكنة شنقيطية مميزة، لا يغيب الشيخ محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي عن كبرى الأحداث التي تهم الأمة الإسلامية في مختلف الأقطار.
دعا الشيخ لمواقف متوازنة ووسطية في جملة من القضايا الدينية، وساند الفلسطينيين في كفاحهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعارض وأفتى بحرمة حصار غزة وتجويع أهلها، كما وقف مع هبة الشعوب العربية من أجل الحرية والكرامة خلال ثورات الربيع العربي منذ العام 2011.
مواقف واضحة وقوية أظهرت معدن العلماء الأصيل وأعادت للأمة أمجاد العز بن عبدالسلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء العظام ممن وقفوا في وجه السلطان الجائر، فجلبت للشيخ حب الشعوب وعداء الأنظمة وتضييقات حكومة بلاده.
اعتقال الشيخ
في العام 2003، اعتقلت السلطات الموريتانية الشيخ محمد الحسن ولد الددو، بعد ساعات من اعتقال محمد جميل بن منصور الناشط الإسلامي البارز وأحد وجوه حزب تجمع القوى الديمقراطية المعارض حينها (ترأس بعدها رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية أكبر أحزاب المعارضة)، ورئيس جمعية الرباط الوطني لمكافحة التطبيع مع إسرائيل وحماية القدس.
جاء اعتقال الشيخ باعتباره أحد الوجوه البارزة للتيار الإسلامي، وإثر إصداره فتوى تقضي بوجوب قطع بلاده العلاقات مع إسرائيل والتي أقيمت في عهد الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع ومقاطعة البضائع الأميركية.
قاد ولد الددو حملة كبيرة إبان الحرب الأميركية على العراق (20 مارس /آذار-9 أبريل/نيسان 2003)، طالب خلالها الجماهير بفعل كل ما تستطيعه لإظهار رفض الاحتلال الأميركي للعراق كما طالب بمقاطعة البضائع الأميركية والبريطانية.
تم إطلاق سراح الشيخ في 6 أغسطس/ آب 2005، بعد 3 أيام من الإطاحة بنظام الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع على يد المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية.
ضد الانقلابات
ظهر الشيخ ولد الددو في أكثر من مناسبة للحديث باسم التيار الإسلامي في موريتانيا باعتباره أحد أبرز رموزه، داعيا إلى تحقيق مبادئ الديمقراطية والحرية والتداول السلمي للسلطة في البلد المغاربي الذي عصفت به انقلابات متتالية.
عارض الشيخ انقلاب عام 2008 الذي قاده الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز على أول رئيس منتخب في موريتانيا سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، وتبنّى ولد الددو رأيا فقهيا بالأخذ بالديمقراطية كآلية ووسيلة لتطبيق الشورى، ونبذ كل أشكال العنف ورفع السلاح ضد الأنظمة المنتخبة.
هذه المواقف يبدو أنها لم ترق لعدد من الدول العربية، التي لم تخف عداءها لثورات الشعوب العربية منذ العام 2011، والتي وقف الشيخ ولد الددو مساندا لها منذ اندلاعها في تونس.
أدرجت السعودية الشيخ على قائمة الإرهاب، في قائمة شملت العديد من الأسماء الكبيرة من علماء ومفكرين ومنظمات إسلامية، كان أبرزها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يحظى ولد الددو بعضويته.
بعد الانتخابات التشريعية في موريتانيا عام 2018، أطلق الرئيس السابق ولد عبدالعزيز تصريحات مثيرة، اعتبر خلالها الإسلاميين "أشد خطرا من إسرائيل على الأمة العربية".
التصريح قوبل برد شديد من ولد الددو قائلا: "الدول العربية دُمرت بسبب الاستبداد والظلم وهي الأسباب الرئيسية لزعزعة استقرار الدول التي عصفت بها الاحتجاجات منذ نهاية العام 2010، لا يجوز تفضيل الإسرائيليين على المسلمين".
"تكوين العلماء"
أنشأ ولد الددو "مركز تكوين العلماء" في نواكشوط، وهو تجربة مبتكرة تمزج بين طريقة التدريس الموريتانية التقليدية (المحاضر) بتوسعها وغزارة مقرراتها، والطرق الحديثة في ظروف التدريس وتوفير بيئة الجامعات العصرية.
ويسعى المركز إلى إعداد علماء مؤهلين لاستيعاب إشكاليات الواقع وتقديم الحلول الشرعية لها، وتخريجهم عبر المزاوجة بين التعليم النظامي والحديث، وما يعرف محليا بـ"التعليم المحظري"، ويسهر على تدريس الطلبة القادمين من مختلف أنحاء العالم، 45 من كبار العلماء الموريتانيين.
في 27 سبتمبر/أيلول 2018، قرر الرئيس الموريتاني السابق سحب ترخيص "مركز تكوين العلماء" الذي يرأسه ولد الددو، وذلك بعد ساعات من تطويق مقره المركزي في العاصمة نواكشوط من قبل قوات الأمن.
وللشيح ولد الددو نتاج علمي غزير، وله أبحاث ما تزال مخطوطة لم تصدر بعد، وطبع من تأليفه رسالته التي أعدها لنيل درجة الماجستير، من كلية الشريعة بالرياض، وعنوانها "مخاطبات القضاة"، ونشرتها دار الأندلس الخضراء بجدة.
ويشرف ولد الددو على سلسلة من المتون العلمية، بينها "هداية المرتاب" للإمام المقرئ علم الدين السخاوي، و"موطأة الفصيح" للإمام ابن المرحل، و"ألفية الحافظ العراقي"، وأكثر نتاج الشيخ دروس مسجلة صوتيا.
من مؤلفات الشنقيطي كتب "مقومات الأخوة الإسلامية"، "مشاهد الحج وأثرها في زيادة الإيمان"، و"محبة النبي صلى الله عليه وسلم"، و"فقه الخلاف"، و"شرح ورقات إمام الحرمين في الأصول"، و"اليوم الآخر مشاهد وحكم"، و"الأدلة الشرعية أنواعها وسماتها وعوارضها"، و"مراتب الدلالة في الأصول"، و"أحكام السلم في الفقه".
قدم ولد الددو برامجه التدريسية في أغلب القنوات الدينية، ويتبع الطريقة الموريتانية التقليدية التي تتسم بالموسوعية في الشروح، وقام بتسجيل سلاسل تدريسية لبعض أمهات كتب الفقه والعقيدة.
ولد الددو، عضو في مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ويشارك في دورات المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وشارك في عدد كبير من المؤتمرات الدولية، وحاضر في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بكليتي الشريعة وأصول الدين، وفي جامعة الإيمان باليمن، وفي أكثر بلدان العالم العربي والإسلامي، وفي أوروبا وإفريقيا وآسيا و أميركا، وخرج في رحلات دعوية لأكثر من 50 دولة.
مقاطعة أبي تلميت
ولد ولد الددو، نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 1963، في البادية التابعة لمقاطعة أبي تلميت. بدأ حفظ القرآن الكريم في السنة الخامسة وأتم حفظه وعمره 7 سنوات، وكان عليه أن يُسمع والده 80 ختمة للقرآن، ثم بدأ في حفظ المتون وتلاها بأمهات الكتب.
درس مبادئ العلوم الشرعية، وصحب جده الشيخ محمد عالي ولد عبد الودود، ودرس عليه ولازمه حتى وفاته. تبحر في مختلف العلوم الشرعية على يد جده، وخاليه محمد يحيى ومحمد سالم ابني عدود.
نشأ الشيخ الموريتاني بين أبوين عالمين، ولاسيما أمه، فهي من أسرة آل عبدالودود الهاشمية، فهو هاشمي من جهة أمه، أما من جهة أبيه فهو حميري، ترجع أصوله إلى قبيلة حمير باليمن.
تلقى ولد الددو عن أمه القراءات العشر، وحفظ على يديها طائفة من المتون، ثم لازم جده لأمه العلامة الكبير الشيخ محمد علي بن عبدالودود، الشهيـر بمحمد عالي، ونشأ في حجره وهو طفل صغير، فحفظ عليه الكثير من المتون المهمة في علوم الوسائل والمقاصد، وتلقى عليه علوم الكتاب والسنة، وقرأ عليه مطولاتها، ظل ملازما لجده حتى توفي، وهو الذي يقول عنه في دروسه: قال شيخي جَدّي.
بعد وفاة جده بدأ التفكير في الانتقال إلى المدينة، حيث حصل على شهادة البكالوريا، وحصل على منحة للذهاب إلى تونس، لكنه لم يرغب في الذهاب إليها "لأنها كانت تعاني تضييقات على الإسلاميين كما أنها كانت تعاني ضعفا في مستوى العلم الشرعي".
انتقل بعدها إلى الرياض حيث جامعة محمد بن سعود، يقول الددو عن انطباعاته الأولى في المملكة: "رأيت في الجامعة المشايخ والعلماء الذين يتقنون علومهم وتخصصاتهم، وشعرت باختلاف كبير، وكنا نظن أن المشايخ جميعا على مستوى الشيخ ابن باز رحمه الله".
