انتخابات فلسطينية: كلاكيت!
قبيل وبعد كل جولة تصعيد بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أو الضفة تخرج للسطح مرة تلو مرة عبارة "الانتخابات الفلسطينية" التي يتبارى فيها الفصيلان الأبرز على الساحة الفلسطينية في محاولة إبراز كل طرف للطرف الآخر باعتباره الذي يعطل هذه الانتخابات وباعتبار أنه العقبة أمامها.
من الناحية العلمية البحتة، لم أقتنع يوما بشيء اسمه "انتخابات" تتم في ظل احتلال غاشم يجثم على صدر الفلسطينيين جميعا، بل وبرعايته. ولا أستطيع تخيل ماهية السلطة والقيادة التي قد تفضي إليها الانتخابات الموعودة منذ سنوات طويلة. فوجود السلطة الفلسطينية في الحقيقة ليس أكثر من وهم دولة!
وها قد مضت الآن سبع سنوات على تاريخ التاسع والعشرين من نوفمبر من عام 2012، حين صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بفلسطين باعتبارها "دولة مراقب غير عضو" في الأمم المتحدة!
وكان أركان السلطة الفلسطينية قد هللوا حينها لهذا القرار باعتباره يعتبر "شهادة ميلاد" لدولة فلسطين بعد أن تمت ترقيتها بموجب هذا القرار من "كيان" إلى "دولة"، مع بقاء هذه الدولة بصفة مراقب وغير عضو في الأمم المتحدة.
باعتقادي يدخل كل هذا في خانة العبث، فالحقيقة الواقعة على الأرض أنه لا وجود لدولة فلسطينية لا معترف بها ولا غير معترف بها، ودخول الفصائل الفلسطينية بين الفينة والأخرى في معركة الدعوة إلى "انتخابات" لا يعد في الحقيقة أكثر من تضييع وقت أمام آلة القمع الإسرائيلية التي تستمر في قضم الأراضي الفلسطينية وتصغير مساحة هذه "الدولة" المفترضة الموعودة! التي – للمفارقة – يوجد لها اليوم رئاسة منتهية الولاية ومجلس تشريعي منتهي الولاية القانونية وحكومة تنفيذية من طرف واحد، ولا ينقصها إلا وجود كيان الدولة نفسه!
وهذا العبث لم يحدث – فيما أعلم – في تاريخ حركات التحرر العالمية، وتكاد فلسطين تنفرد بهذا الشكل الغريب من التشتت وعدم الثبات على مسار واحد واضح لدى الكل الفلسطيني.
إن حركات التحرر الشعبية في العالم كله وعبر التاريخ قامت على أساس رفض الاحتلال ورفض كل مخرجاته، وهذه الحركات نجحت أو فشلت بقدر ما حافظت على ثبات مبادئها. إلا أنه في الحالة الفلسطينية أفرزت لنا اتفاقية أوسلو معادلة غريبة مشوهة لشكل غير مفهوم يقدم نفسه على أنه شكل من أشكال التحرر، لكنه في نفس الوقت يعمل لدى الاحتلال وينسق معه في كافة الاحتياجات اللوجستية والأمنية للاحتلال بما يوفر للاحتلال جوا مريحا، ويعطي الشعب الفلسطيني في نفس الوقت إحساسا وهميا بأنه يملك قراره ودولته العتيدة التي لا حدود لها ولا كيان ولا سيادة بالمطلق.
ولذلك فقط يمكن القول إنه ما من مصيبة أتت على الشعب الفلسطيني كانت أشد عليه من اتفاقية أوسلو ومفرزاتها.
وهنا لا أستثني أحدا من الكل الفلسطيني والفصائل العاملة على الأرض، فالفصائل التي قبلت السير في طريق أوسلو أصبحت تعد جزءا لا يتجزأ من وجود الاحتلال شاءت أم أبت!
والفصائل التي ترفض هذا المسار دخلت فيه من خلال انتخابات عام 2006 دون اعتراف به وبمفرزاته، في مفارقة في غاية الغرابة، ثم لا زالت اليوم تحاول الانعتاق من تبعاته التي تتناقض تماما مع أيديولوجيتها ومبادئها التي أطلقتها مع انطلاقتها!
ولكن الغريب أن كلا النوعين من الفصائل لا زال يرى في "الانتخابات" – على الأقل أمام الإعلام – حلا يمكن من خلاله فض التناقض بينهما بالاحتكام للشعب الفلسطيني والصندوق، وهذا أمر غير مفهوم.
أقول هذا الكلام وأنا متيقن تماما أن الحل للتناقض الكبير بين المشروعين الفلسطينيين المطروحين في الشارع اليوم ليس في الانتخابات، لأنها تجري ضمن المحددات التي وضعتها اتفاقية أوسلو، بمعنى أنها قد تتم ضمن إطار اتفاقية أوسلو التي بالضرورة ستعطي الأفضلية لطرف واحد من هذين الطرفين على الآخر، وهو بالتأكيد الطرف الذي جاء بأوسلو.
وأرى أن المشروعين المتناقضين لا يمكن جمعهما على صعيد واحد أبدا، وفي النهاية لا بد أن يحل أحدهما محل الآخر، فإما أن يتمكن التيار الممثل لأوسلو من السيطرة على التيار الرافض لها وإجباره على السير في طريقه، أو أن يتمكن الطرف الرافض لمخرجات أوسلو من جر الطرف الآول لمربعه بعد ظهور عدم جدوى هذا المسار الذي دخل الفلسطينيون فيه منذ ستة وعشرين عاما.
ليس من مهمتي هنا أن أحدد أي الطرفين أصح أو أصوب، فالشعب الفلسطيني قادر على أن يقول كلمته لكلا الطرفين أو يختار اتجاها ثالثا، ولكن ما أقوله هنا إن هذا لا يمكن من خلال انتخابات منقوصة في كيان ليس له سيادة ولا يتجاوز الضفة الغربية وقطاع غزة. وإنما يكون بإعادة تعريف الإطار الذي يجمع الفلسطينيين جميعا في الوطن والشتات.
فكلنا يعلم أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد تمثل الفلسطينيين بعدأن تحولت بحكم الأمر الواقع إلى "السلطة الفلسطينية" وإن كان كلا الكيانين موجودين اسميا لا فعليا (بحكم أن من يمارس التمثيل الفلسطيني اليوم واقعيا هو السلطة وليست المنظمة، ولا يجوز لنا أن نخدع أنفسنا بغير ذلك).
وقد أصبح غالبية الشعب الفلسطيني مستثنى من التمثيل في هذه المنظمة، فلا فلسطينيو الشتات ممثلون، ولا فلسطينيو أراضي 48 ولا القدس تقريبا، ولا يكاد يختلف أحد على أن السلطة الفلسطينية باتت لا تعترف بغير الفلسطينيين من أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي هذا ظلم كبير لأكثر من نصف الشعب الفلسطيني.
ولا أعتد هنا بادعاءات ما تبقى من منظمة التحرير بكونها تمثل الفلسطينيين جميعا، فيكفيك أن تذهب إلى أي ممثلية للمنظمة "مما يسمى سفارة" في أي دولة عربية أو أجنبية وتتحدث إليهم باعتبارك فلسطينيا لا يحمل بطاقة هوية السلطة الفلسطينية، لتفاجأ بأنك تعامَل على أنك مواطن غريب لا فلسطيني، وأن هذه الممثلية لا تمثلك بأي شكل من الأشكال!
هذه هي الحقيقة التي يخشى كل طرف من هذه الأطراف السياسية المتصارعة في ميدان الانتخابات اليوم الاعتراف بها، ولكن لابد من قولها كما هي!
السلطة الفلسطينية كيان مسخ ليس له مثيل في التاريخ الإنساني، ووجودها أصبح مضرا بالشعب الفلسطيني أكثر من نفعه، وأما منظمة التحرير الفلسطينية فلم تعد موجودة بحكم الأمر الواقع، والواجب على الشعب الفلسطيني اليوم أن يقف في وجه هذه المنظومة التي باتت تختطف تمثيله وقراره ويعيد تشكيل ما يمثله ومن يمثله ويمثل طموحاته وتطلعاته، وليبق المتصارعون على الانتخابات يتصارعون كما يرغبون، ولكن بعيدا عن شعبنا، فقد مللنا هذا المسار.