إسرائيل إذ تستجدي غزة

12

طباعة

مشاركة

لكل جولة تصعيد في قطاع غزة المحاصر نكهة مختلفة عن ما سبقها من جولات، وذلك لأن دولة الاحتلال تحاول التعامل مع هذه المنطقة بإستراتيجية مختلفة كل مرة، بحيث تجرب وصفة ما ثم تأمل أن تكون قد وصلت إلى الطريقة السليمة للتعامل مع هذه القوة المتعاظمة في غزة، التي باتت تشكل ألما شديدا في خاصرة هذه الدولة، خاصة بعد أن أثبتت التجارب الماضية أن غزة على صغر حجمها يمكنها أن تسبب صداعا نصفيا لساسة دولة الاحتلال، حيث تستطيع بسهولة شل القسم الجنوبي والأوسط من إسرائيل وفصل شمال هذه الدولة عن جنوبها بشكل شبه كامل.

ما يميز جولة التصعيد الأخيرة في القطاع أنها لأول مرة لم تستهدف كافة فصائل المقاومة في غزة وعلى رأسها حركة حماس، وإنما استهدفت بشكل مقصود استفزاز حركة الجهاد الإسلامي باعتبار أنها –حسب الحسابات الإسرائيلية كما يبدو– لن تستطيع وحدها مواجهة إسرائيل، وستضطر إلى التريث في الرد على اغتيال أحد قادتها البارزين، وفي حال الرد ستلتزم برد محدود يحفظ ماء الوجه فقط ويمكن تحمل نتائجه من جانب دولة الاحتلال.

ومن غير المخفي أن إسرائيل تعتبر أن حركة الجهاد الإسلامي تعد من أكثر الفصائل الفلسطينية ارتباطا بإيران وبحزب الله في لبنان ( وأنا هنا أنقل هذا الادعاء عن وسائل الإعلام الإسرائيلية بغض النظر عن مدى دقته).

عندما قرر نتنياهو اغتيال بهاء أبو العطا، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، كانت له عدة حسابات ثبت بالوجه القطعي أنها خاطئة. حيث أن ربط إسرائيل كافة تحركات وردود أفعال حركة الجهاد الإسلامي بالمحور الإيراني (إيران – حزب الله) جعلها تظن أن سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، لن تتحرك بالرد دون أخذ الإذن من إيران المشغولة بملفها النووي حاليا، وحزب الله المنشغل بالتطورات على الأرض في لبنان، وبالتالي كان ذلك سيضمن محدودية وضعف الرد على عملية الاغتيال.

إضافة إلى ذلك، كان نتنياهو يمني نفسه بأن تعمل حركة حماس على كبح جماح أي رد متوقع من حركة الجهاد الإسلامي لمحاولة الحفاظ على الهدنة الهشة في القطاع وتجنب الدخول في حرب شاملة. وكان هذا –حسب فهم نتنياهو– سيؤدي إلى رفع أسهمه في الداخل الإسرائيلي الذي يتأهب فيما يبدو لاحتمالية انتخابات ثالثة مبكرة في سابقة هي الأولى في تاريخ الصراع. لهذه الأسباب كلها أقدم نتنياهو على اغتيال (أبو العطا).

ما لم يحسب نتنياهو وأركان حكومته حسابه في الحقيقة كان أن حركة الجهاد الإسلامي ردت على العملية بشكل أكبر بكثير من المتوقع، ووصلت صواريخها فورا إلى منطقة موديعين قرب القدس، بينما لم تتحرك حركة حماس أو أي فصيل آخر لمنع الرد، وفي نفس الوقت لم تنجر للدخول في المعركة بما يمكن أن يتسبب بتوسيعها لتصبح حربا شاملة.

والمحصلة كانت أن ضربات فصيل فلسيطيني واحد فقط –وهو ليس الفصيل الأكبر حجما في الشارع الفلسطيني– كانت كفيلة بشل دولة الاحتلال عن بكرة أبيها! لدرجة أن الطائرات في مطار بن غوريون تم تحويل حركتها إلى اتجاه الشمال، وتعطلت الدراسة في كافة المناطق وسط دولة الاحتلال وخاصة في تل أبيب، التي تحولت لمدة يومين إلى مدينة أشباح حقيقية لا يستطيع أحد فيها أن يتحرك في الشارع، مما حدى بنتنياهو إلى الإسراع في الإيعاز لبعض حلفائه العرب للتوسط لوقف النار، ثم الإيعاز للناطق باسم جيشه للادعاء أن عمليته حققت أهدافها، وهي في الحقيقة أهداف غير واضحة المعالم.

هذا الأمر كله حصل عندما قرر فصيل واحد الرد بقوة على عملية الاغتيال الإسرائيلية، وهذا ما طرح سؤالا صعبا على ساسة دولة الاحتلال، وهو مدى ما يمكن أن تصل إليه الضربات الفلسطينية فيما لو دخلت الفصائل في غزة كلها مجتمعة في حرب شاملة مع إسرائيل.

وكان من اللافت في نفس الوقت حرص دولة الاحتلال على التأكيد مرة تلو مرة أنها لا تستهدف أي فصيل آخر باستثناء حركة الجهاد الإسلامي. وكأنها في ذلك أرادت ضرب عصفورين بحجر واحد: الأول ضمان عدم جر بقية الفصائل الفلسطينية المقاتلة إلى هذه المعركة وبالتالي عدم توسيعها، والثاني زرع بذرة الخلاف بين الفصائل الفلسطينية في غزة، ولا سيما بين حماس والجهاد الإسلامي، وذلك ببث بعض أذرعها الإعلامية وذبابها الإلكتروني رسائل تتساءل عن سبب امتناع حماس عن الدخول في هذه المواجهة إلى جانب الجهاد الإسلامي.

وهذه الرسالة بالذات ساهم بعض العرب ومحلليهم –خاصة الباحثون عن الإثارة– في نشرها خلال الفترة الماضية دون نظر في خطورتها ومآلاتها. وفي الحقيقة، يمكن القول إن تصرف الفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزة اتسم بالدهاء والحنكة.

ومن الواضح أن تنسيق كافة الفصائل الفلسطينية مع حركة الجهاد الإسلامي في هذا الأمر بلغ مدى متقدما، حيث صرح ناطقون باسم حركتي حماس والجهاد الإسلامي وألوية الناصر صلاح الدين وبعض الفصائل الأخرى أن هناك تنسيقا يتم بين هذه الفصائل على الأرض، وأن العمل الأساسي في هذه الجولة هو بيد حركة الجهاد الإسلامي تحديدا باعتبارها المستهدفة من عملية الاغتيال الإسرائيلية وما تبعها من هجوم، وهو ما يبين أن ما يتم على الأرض في غزة لا علاقة له بأمنيات بعض المحللين ولا رغبات بعض السياسيين ولا باعتبارات أخرى غير الواقع العسكري على الأرض فقط.

ربما لم تكن هذه الجولة طويلة بقدر الجولات الماضية، وربما لم تكن بمستوى "الإثارة" الذي يرغب به بعض العاطفيين، ولكنها في الحقيقة كشفت عن تطور في طريقة عمل فصائل المقاومة الفلسطينية وتنسيقها معا على الأرض دون النظر لاعتبارات الساسة والإعلاميين في الداخل والخارج. وأما أثر هذه الجولة على نتنياهو سياسيا فإنه سيكون وخيما، فهو لم يحقق أكثر من أنه كشف العجز الإسرائيلي أمام إمكانية شل الحياة بالكامل في قلب دولة الاحتلال، وعجز ساستها عن تأمين حياة سكان مدينة تل أبيب لا غلاف غزة فقط. وهذا ما سيكون له دور كبير في إضعاف نتنياهو أكثر في المستقبل، ويبدو من المؤشرات أن بيني غانتس التقط هذه الرسالة وبدأ بالفعل استغلالها في حربه ضد نتنياهو.