ليبراليون اجتماعيا محافظون سياسيا

12

طباعة

مشاركة

الخطاب المتعلق بالمسألة الليبرالية في المجتمعات العربية هو خطابات متعددة، ومختلفة باختلاف المخاطِب والمخاطَب، أقلها حظاً وأضعفها أثراً هو خطاب ليبرالي متسق مع نفسه ومع رؤيته وغير متناقض في شقه السياسي والاجتماعي، وخطاب آخر يدّعي أنه مؤمن بقيم الليبرالية، على أنك تجده خطابا حدّيا شديد البأس على كل قيم المجتمع وأفكاره، وشديد الوداعة والألفة حيال المسألة السياسية بكل ما فيها من محافظة وتخلف ورجعية، وله في هذا التناقض الفج تبريرات وحجج لا يصدقها إلا هو، أما الخطاب الثالث فهو ذاك الذي تتبناه المؤسسة الرسمية لأغراض تسويق نفسها للخارج.

أما الصنف الأول من الخطاب الليبرالي، فنجده يصدر عن مؤسسات وأفراد متسق في دعواه، صادق في معتقده، يتجه نحو المجتمع والمؤسسة السياسية على السواء، يؤمن بحرية الفرد وكرامته، وحقه في معتقده، والتعبير عن أفكاره، وضرورة رفع الأغلال التي تقع عليه بحكم سلطة المجتمع، وهو يؤمن أيضاً بحق المجتمع ككل في اختيار سلطته السياسية، وقدرتهم الكاملة في عملية صنع القرار من خلال ممثليهم الشرعيين، وضرورة رفع الأغلال التي تفرضها عليه السلطة السياسية، بالإضافة إلى كل مقتضيات هذه المبادئ العامة، على أن هذا الصنف من الليبرالية هو صنف مهزوم سلفاً.

فبدون أي شك أن السلطة هي أول أعدائه، ذلك أن الخطاب الذي يتبناه لا يتوافق مع طبيعتها المتمثلة في كونها سلطة غير منتخبة ابتداءً وأنها قائمة أساساً على التغلب والقهر، ومن جانب آخر، أن هذا الخطاب هو ضحية للخطاب الليبرالي الحدّي المتجه على المجتمع فقط، فبسببه اكتسب اللفظ "ليبرالي" معنى إقصائيا عند عموم الناس، فيكفي أن تقول إن هذا خطاب ليبرالي أو أن هذا شخص ليبرالي، ليتم الالتفات عنك وعن كل ما ستقوله.

وأما الصنف الثاني، فهو غريب مرتين، أما الأولى في حديثه تجاه المجتمع بكل ما فيها من قيم وعادات، فهذا الخطاب هو خطاب معادٍ بشكل أعمى، وينطلق من إيمان بأن المجتمع بكل ما فيه هو مجتمع رجعي وينبغي أن يتغير بشكل جذري ليصبح مجتمع ليبراليا، وهذا الأمر فيه ما فيه من التنكر لأبجديات الليبرالية.

أما الثانية، هو في إزدواجيته الفجة، فهو في أقصى ليبراليته حيال المسألة الاجتماعية، وفي أقصى رجعيته حيال المسألة السياسية، ولا يزيد غرابة هذا الأمر إلا التبرير الأشهر الذي يسوقه هذا الفريق، من أن أي فرصة ديمقراطية لاختيار السلطة أمام المجتمعات العربية، سيكون المنتصر فيها بلا شك القوى الإسلامية المحافظة والرجعية.

وهذا القول به إشكالات كثيرة يأتي في مقدمتها أنه بمثابة خيانة للمبدأ، بمعنى أنني أدعم المبدأ طالما حقق أهدافي، وسأطرح المبدأ بكل ما فيه في حال أنه تعارض مع تلك الأهداف، والأهم من هذا، هو أن هذا الخطاب المزدوج لا يعطيك أي شرعية أو حتى موثقية في خطابك مع الآخر.

ومن الإشكالات كذلك أنه يفترض تصورا مغلوطا عن الديمقراطية، ويتصورها بوصفها منتجا جاهزا ونهائيا لا بوصفها مسألة إجرائية إبتداءً تحدد المبادىء الأساسية للمخاض الجمعي الذي سيتم تدشينه بمقتضاها.

إن خطورة هذا الصنف الثاني، هو أنه يلعب دوراً تبريرياً إضافياً للسلطة، ذلك أنه يوافق هواها، فمعاداته للمجتمع، والسجلات التي لا تنتهي بين الليبرالين والمحافظين، تكون السلطة هي المنتصر الوحيد فيها، لا بل وأن السلطة أحياناً ما تتحكم في درجة وحدية هذه السجالات بما يتناسب مع ظروفها وإمكانية استغلالها لمصلحتها، فتارة توهم المجتمع بأنها هي الحامية لقيمه وعاداته من الخطر الليبرالي، وتارة أخرى، هي حائط السد الأخير أمام قوى الرجعية لاسيما الدينية منها والتي تتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والسيطرة على مقدرات المجتمع.

وما أسعد السلطة وهي تبين للخارج حجم البون الشاسع بينها وبيع المجتمع، ذلك أنها سلطة تقدمية ومتنورة وليبرالية، إلا أنها لسوء حظها وجدت نفسها على رأس مجتمع متخلف ومحافظ وغاية في الرجعية، بل وأنه في أحيان معادٍ للخارج، هي ذات العبارة التي لطالما وردت على لسان السلطات المختلفة لدى حديثها مع الإعلام الغربي: "we are too good for them".

فحيال أي دعوة من الخارج وبالأخص من المؤسسات الدولية للسلطات للقيام بإصلاحات داخلية، يكون الرد أننا نريد هذا الأمر بشدة، ولكن المجتمع ضد هذا الأمر أو أنه غير متشجع لهذا الأمر أو أن المجتمع يرفض التدخل في شؤوننا الداخلية، وإذا ما زادت وتيرة الضغط على السلطة خارجياً، يكون الوقت قد حان لفزاعة الإرهاب، أي لا تنسوا بأننا نحميكم من هذا الوحش القابع خلفنا.

لقد كان رد السلطة دوماً هو أن أي إصلاحات هي من الممكن، ولكن بالتدرج ومن خلال سياسات طويلة الأمد، وللحق أن هذا التدرج وهذه السياسات الطويلة الأمد، تدرجت معها أحلام وطموحات أجيال مختلفة إلى الأسفل، ضيعت القضية الحقيقية معها وذرّت رماداً على العيون والأبصار، لقد كان لسان حال السلطة دوماً أننا نمارس نوعاً من اللبرلة وهي "اللبرلة من أعلى"، والغريب أن هذا الأمر تم تصديقه حتى في بعض الأوساط الأكاديمية، على الرغم من بطلان هذه الدعوى أساساً.

كيف يمكن للبرلة أن تكون من أعلى؟ كيف يمكن أن ننزل على الناس قيماً ونطالبهم أن يقوموا بتطبيقها في اليوم التالي، يبدو الأمر مغرقاً في السخف والابتذال، ثم إنه إلى متى سيتم إستغلال شماعة الجماعات الدينية المتعصبة؟

لا ينكر أحد بأن مجتمعاتنا تعاني من الأكثير وعلى مختلف المستويات، إلا أنه لا يوافق أحد بأن هذه المعالجة هي الأنسب، لا بل لا يمكن أن يطلق عليها معالجة أساساً، هي مجرد تجميد للوضع على ما هو عليه، وحرمانه من أي تطور طبيعي، وإلا كان الأجدر أن تنظم كل هذه المسائل في وثيقة دستورية، تصاغ بصورة لا يمكن معها أن يستأثر أحد بالسلطة، ولا يمكن بموجبها أن يمارس أحد السلطة إلا بصورة عادلة، فليست المسألة أن تحكم الأغلبية الفائزة في العملية الإنتخابية فقط، ولكن أن تحكم الأغلبية المنتصرة في العملية الإنتخابية بصورة دستورية.

وحتى مع وجود مثل هذه الوثيقة، لا يعني أن الدول ستصبح في أفضل أحوالها بشكل مباشر، فهذه نظرة رومنسية وحالمة، بل ستكون هناك أخطاء وتحديات، وهذا عبارة عن مخاض حتمي وضروري، يجب أن تمر به كل دولة، وهذه التحديات والصعوبات والإخفاقات هي التي ستشكل الهوية السياسية لأي مجتمع من المجتمعات.

والأهم من هذه الوثيقة حتى هو الإرادة الجمعية التي يتوافق المجتمع بمختلف مكوناته على تحقيق هذا الهدف، فبدون هكذا إرداة لن تكون هناك أي نتيجة، وسيستمر الأفق في الانسداد والوضع في الجمود حتى اللحظة التي سيقرر فيه جيل من الأجيال بدأ هذا المخاض الصعب.