مصر والحسابات الخاطئة في شمال إفريقيا

نزار كريكش  | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

في كتابه "نهاية التاريخ الحديث للشرق الأوسط" كتب برنارد لويس عن أن منطقتنا العربية ولأول مرة في تاريخها تحاول إدارة قضاياها بنفسها، وأن ذلك قد يفتح تاريخاً جديداً لا يرتبط بالضرورة بسياسة التقسيم المعهودة للدول الاستعمارية، بل من الممكن أن نشهد ظاهرة التمدد لبعض الدول في المنطقة؛ ضعف الصغير يغري الكبير بالسيطرة.

هذا يذكرنا بعلاقات من هذا النوع في منطقتنا العربية كسوريا ولبنان، والسعودية وقطر، والجزائر وتونس. فكرة الشقيق الأكبر وتلك العلاقات التي ما فتئت تمنع المنطقة من إقامة نظام إقليمي تحترم فيه الدول بعضها البعض، هو البديل الممكن لجغرافيا لم تمت بعد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

هذا الكتاب الذي ُكتِب في زمن الرئيس أوباما انطلق من فكرة تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن الانخراط المباشر في المنطقة، بعد استقلال الأخيرة عن النفط الذي كان وظل أحد محركات السياسة الأمريكية في المنطقة؛ وبغض النظر عن مصداقية تلك الفكرة أو الاقتناع بها من عدمه، فإن المؤكد أن دولاً كالسعودية والإمارات وتركيا وإيران يبدو أنها بدأت تتحرك بوضوح في مجالها الحيوي. لذا لم تخل الدراسات الجيواستراتيجية في اتباع نفس النهج في سلوك هذه الدول.

حديثنا هنا نموذج لهذه التحركات وهو التحرك المصري (ومن ورائه الحليف الإماراتي) في الأزمة الليبية فهو نموذج واضح للتخبط الذي أكد عليه برنارد لويس قبل خمس سنين.

قدمت عدة تفسيرات للدعم المصري الواضح لطرف الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، خاصة بعد بيانها الأخير الذي صدر قبل أيام حول أن الجهة الشرعية الوحيدة في ليبيا هي مجلس النواب الليبي. وكذلك دعمها لخليفة حفتر الذي دلت عليه التقارير الدولية وكذلك الشهادات التي لم تنته سواء من مقاتلين من قوات الوفاق أو من بعض المنشقين عن خليفة حفتر.

إذ أدلى الرائد محمد حجازي المتحدث الرسمي باسم عملية الكرامة السابق في لقائه في برنامج الشاهد في قناة "ليبيا الأحرار"، عن أن اجتماعات قبيل انطلاق عملية الكرامة جمعت بين القنصل المصري في بنغازي آنذاك ُعمَر نظمي وآمر القوات الخاصة ونيس بوخمادة في مقر القوات الخاصة بمنطقة بوعطني، ليتفاجأ الحجازي خلال اجتماع في الرجمة بعد إطلاق العملية مع خليفة حفتر وصقر الجروشي، بأن القنصل المصري ضابط يحمل رتبة لواء في المخابرات المصرية، مشيراً إلى أن حفتر كان يعمل على إقناع العسكريين بضرورة التعامل مع مصر كونها متضررة من الجماعات المسلحة في ليبيا، والمفارقة أن عمر نظمي تولى اللجنة المصرية المعنية بليبيا!!
 
أول هذه التفسيرات، وهو تفسير جيواستراتيجي يرى بأن مصر تحافظ على أمنها القومي وتخشى من تفاقم الأوضاع في ليبيا، وتأثيرها على مصر، خاصة بعد نشر مقطع فيديو حول مقتل مجموعة من الأقباط في سرت الليبية (15/2/2015).

ورغم وجاهة هذا التفسير إلا أن السلوك المصري بعيد جداً عن سياسة الدفاع أو البحث عن أمنها القومي، فالحفاظ على الأمن القومي سيقتضي سياسات طويلة المدى يمكن أن تسهم في التواصل مع كافة الأطراف والحث على الاستقرار، وإيجاد حلول واقعية بعيدة عن منطق العنف وتصدير السلاح. لكنَّ الواقع عكس ذلك تماماً.

مصر في عهد الرئيس السيسي صارت معول هدم في ليبيا، وما عليك إلا أن تتجول في مدينة درنة أو بنغازي حتى ترى حجم الدمار الذي خلفه التدخل المصري الإماراتي في ليبيا، وأن مصر لم تقم بأي جهد حقيقي لإيقاف الحرب، بل كان الرئيس السيسي في الوقت التي كانت ليبيا تتجه فيه للسلام وللحوار وفق خطة الأمم المتحدة؛ كان الرئيس السيسي يستقبل خليفة حفتر في قصر الاتحادية ويثمّن دوره في محاربة المليشيات، رغم أن مصر أحد الشهود على اتفاق الصخيرات الذي تمخضت عنه حكومة الوفاق.

وفي بيان الخارجية المصرية حديث عن الانتخابات وأن الجسم الشرعي الوحيد هو مجلس النواب وبالتالي هي تدعم مجلس النواب وهو الذي عيّن خليفة حفتر قائداً للجيش الليبي، (رغم أنه منصب غير موجود في العسكرية الليبية وهو مستنسخ من المؤسسة العسكرية المصرية منذ زمن عبد الناصر).

وتنسى الخارجية المصرية أن اتفاق الصخيرات نص صراحةً في دبياجته أن أقرب جسمين منتخبين هما مجلس النواب والمؤتمر الوطني، لذا فإنه اعتمد على تلك الانتخابات ليس لإعطائها شرعية انتخابية، بل لتقريب وجهات النظر ومحاولة إيجاد أقرب الأجسام لإرادة الشعب الليبي. وبوجود سفارات الدولة المعنية وباتفاق الأجسام الشرعية في البلاد أعطيت الشرعية للاتفاق على أنه يعكس تلك الإرادة، وليس لاستخدام تلك الانتخابات لمزيد من التفريق والإنقسام.

التفسير الثاني وهو تاريخي يستمد من صراعات حدودية قديمة بين مصر وليبيا؛ وأن مصر تسعى لضم إقليم برقة الشرقي إلى مصر، وأن ضغطاً ديمغرافياً يمكن أن يخففه نقل أكثر من عشرة ملايين مصري تربطهم أواصر قربى بليبيا، وأنه إقليم غني بالنفط ومصر فقيرة للموارد الطبيعية حسب التفسير، وبذلك يكون هناك مصداقية لماقاله برنارد لويس حول عودة الجغرافيا للمنطقة وسياسة التوسع لبعض الدول على حساب دول أخرى.

هذا التفسير يقرأه البعض بطريقة أخرى وهي سيناريو يوضع كالتالي؛ مصر ستغير من نظرية أمنها القومي من منطقة الشام وفلسطين إلى شمال إفريقيا وفقاً لتفاهمات إقليمية مصرية إماراتية سعودية مع الجانب الإسرائيلي المحتل للأراضي الفلسطينية وأن مكافأة مصر هي ليبيا.

لا يخلو هذا التفسير من الإثارة لكن لا أظن أن هذا أو ذاك قد يملك من القدرة التفسيرية الكافية؛ فمراجعة سلوك الخارجية المصرية مع الرئيس السيسي يمكن أن نستنتج أن كل ما يفعله النظام المصري لا يتعلق بصناعة قرار رشيد في العلاقات الخارجية، بقدر ما هو انعكاس لأوضاع داخلية.

لاتوجد في أدبيات السياسة كتب كثيرة عن نظرية الدكتاتورية، لكن ما كتب عنها قد يبين لنا أن كل ما يقوم به السيسي في الخارج هو محاولة لتثبيت دعائم حكمه ليس إلا، فمحاولة إضفاء شيء من العقلانية على سلوك مصر في ليبيا هو خيال وأوهام أكاديمية لا تفسير آليات صناعة الدكتاتور.

حكى لي أحدهم أنه كان في لقاء لدراسة السياسة الخارجية للملكة السعودية، وبعد أن أسرف القوم في التفسير والتحليل، قام أحد المسؤولين ممن لهم دراية بخفايا الأمور وتحدث لصديقي عن أن ما تقولونه بعيد عن الواقع فصناعة القرار عندهم ليس لها نهج واضح.

هنا يمكن أن نتلمس ونفهم كلام برنارد لويس وهي أن هذه الدول الإمارات والسعودية ومصر ليس لها أي نظام لصناعة القرار يمكن أن يدرس ويعطي للباحث نمط سلوك يمكن أن نتوقعه؛ النمط الوحيد الذي أراه يفسر هذا الجنون الذي تقوم به مصر، هو أن الرئيس السيسي يستخدم الأزمة الليبية للحصول على عدة مكاسب منها ضمان الشراكة الإماراتية التي تضمن استمرار وسائل قد تفيده في إعادة تدوير بعض العائدات من بيع الأسلحة على حاشيته، التي يريد ضمان ولائها له.

هذه الحالة التي تعيش حالة نفسية مغرمة بالمال وتعمل من أجله، وهذا قد يفسر عبارة توزيع الثروة في ليبيا  في البيان الأخير للخارجية المصرية.

منها كذلك ما تحدث عنه الباحثان الأمريكيان بروس بوينو والتاسير سميث مدخل للدكتاتورية أن الدكتاتور قد يتخلص من بعض المعارضين له في حروب خارجية تماماً كما فعل الرئيس عبدالناصر في حرب اليمن. ومنها كذلك أن يثير في الرأي العام المصري مخاوف مستمرة يدير من خلالها ذلك الرأي العام ليبقى موقناً بحالة الاستثناء (الطوارئ) التي تحتاج لوجود القائد المنقذ السيسي.

يحدثنا التاريخ عن القذافي حين وافق ملك المغرب الحسن الثاني المشاركة في حرب 67، قوله بأنه الملك يريد التخلص من معارضيه؛ وهذا ما يؤكد النظرية الدكتاتورية أن السياسة الخارجية لمصر في ليبيا ما هي إلا نتاج لذلك الصراع الداخلي الذي يعيشه السيسي في مصر بعد خطفه للحكم من أيدي الشعب المصري بقوة السلاح، وتحت أسنة الرماح.

وأن ضمان استمراره في الحكم التماهي مع المشروع الإماراتي، وأن حاشيته ترى بالتعامل مع الجانب الإماراتي فرصة لكسب المزيد من المال، وأن السيسي يوهم الشعب المصري بخطر قادم من الشرق الليبي، وما الخطر على ليبيا وشمال إفريقيا إلا وجود السيسي على سدة الحكم في مصر.