لا تكونوا كـ"شاس بن قيس"
تمر بنا كل يوم مواقف تذكرنا بالأحداث الممتدة في أعماق تاريخنا، لا سيما الفتن الكبرى التي ما لبثت أن تخمد واحدة حتى تشتعل الأخرى، ومن ذلك ما روي في السير، ونقله ابن إسحاق أن رجلا من حي اليهود كان يسمى "شاس بن قيس" قيل عنه "كان شيخا يهوديا قد عسا في الكفر والحقد والعداوة للإسلام والمسلمين، وكان من يهود المدينة الذين استطاعوا أن يكون لهم نفوذ وثروة وتجارة كبيرة في المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين إليها".
مر "شاس" على مجلس للأنصار اجتمعت فيه الأوس والخزرج، ووجدهم متحابين فرحين مسرورين، تربطهم الألفة والمحبة، غاظه ما رأى، واشتعل قلبه بالغيظ والحقد والكراهية،
وقال: "قد اجتمع ملأ بني قيلة (الأنصار) بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابًا من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث".
ويوم "بعاث" يوم دموي من أيام الجاهلية، تحاربت فيه الأوس والخزرج قبل الإسلام، وحدثت فيه مقتلة عظيمة بين الفريقين.
ودخل الشاب اليهودي، مبعوث "شاس بن قيس" بالفتنة، وأخذ في التغني بأشعار هذا اليوم الدموي، فأثار الضغائن، والأحقاد، وذّكر بالمصاب، فقام شباب الأوس والخزرج فتقاتلوا، وتضاربوا بالسياط والنعال، ثم هرعوا إلى السلاح للقتال بظاهر المدينة، كل ذلك في دقائق معدودة، حتى خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم …..إلخ".
ومن منطلق النظر في التاريخ الذي يجعلنا نبصر بشكل أكثر وضوحا الواقع الذي نعيشه، كان للشعب المصري الذي خرج فرادى وجماعات في ثورة 25 يناير 2011، تجربة فريدة في تجاوز الماضي، والتآزر حتى إسقاط نظام مبارك الذي جثم 30 سنة على صدر الشعب، وأشاع بينهم الفرقة والخلاف، ليستطيع أن يحكم، تلاحم الشعب وتعاضد في ميدان التحرير، واختفت الأيديولوجيات، والشعارات الحزبية، ولم يعلُ صوت في الميدان إلا صوت الحرية، ومطالب التغيير، وهو ما حدث في 11 فبراير 2011، بعد 18 يوما من الثورة، عندما خرج اللواء عمر سليمان، وأعلن تنحي مبارك.
فطن العسكر، ومن ورائهم الدولة العميقة، أنهم لن يستطيعوا حكم البلاد، إلا بإشاعة روح الخلاف والفرقة، وهدم الصف الثوري المتوحد.
وعلى مدار الشهور والسنوات المتعاقبة من ثورة يناير المجيدة، دب الخلاف، والفرقة في الجماعة السياسية والثورية المصرية، وأصبحوا فرقا وجماعات شتى، كل حزب بما لديهم فرحون، حتى وصل الحد إلى منتهاه، بإعلان الانقلاب العسكري على يد عبدالفتاح السيسي، الذي وأد كل مكتسبات الثورة، بل وضع رجالها في السجن، ولم يترك فصيلا أو شخصية شاركت في هذا الحدث، إلا ونكّل بها، أو ألزمها الصمت في أفضل الأحوال.
ومع توالي الضربات، ونزول القوارع على الرؤوس، كان موت الرئيس محمد مرسي، حدثا مزلزلا، توحّدت معه مرة أخرى الكثير من أطياف الشعب، واستشعروا حجم المؤامرة التي حيكت ضد الرجل، وضد المصريين.
ولكن على صعيد آخر فهناك إصرار -غير متفهم- من البعض على استحضار الماضي القريب باختلافاته في ظل حاضر كارثي، ومستقبل مبهم، ينذر ببقاء الوضع على ما هو عليه، بالشكل الذي سيدفع ثمنه الجميع بلا استثناء، وذلك ما حدث تحديدا في التراشق بين بعض الرموز السياسية والإعلامية بالتذكير بمواقفهم من لحظات معينة في مسار الأحداث منذ سنوات في شكل حملات إعلامية؛ وبطبيعة الحال كان هناك على الجانب الآخر بلورة خطاب في مقابل ذلك.. الأمر الذي شغل الطرفين -بشكل تلقائي- عن الحديث عن أولويات المرحلة الصعبة التي تعيشها مصر والمصريون.
وعودة لقصة "شاس"، ليس من نافلة القول ذكر أن الحراك الذي تحرك به اليهودي بين أفراد الصحابة رضوان الله عليهم، كان صدقا في الرواية خبيثا في التوجه، فالرجل لم يختلق وقائع، بل تحدّث في واقعة محددة ثابتة الجميع شهد عليها، وهو يوم "بعاث" فقط قام باستحضار التاريخ المرير، وأنشد الأشعار القديمة، التي قالها الأوس والخزرج بألسنتهم، ولم يفتئت عليهم. فإشعال الفتن لا يستلزم ذكر ادعاءات باطلة بالضرورة؛ ولكن البعض يستطيع إشعالها فقط باستحضار وقائع حقيقية سابقة..
جدير بالذكر أيضا أن ما دفع شاس لفعل ما كان يفعله هو الخوف من أثر توحّد الأوس والخزرج على مصلحته المباشرة -كما ذكر في كلماته- وليس فكرة توحّدهم في حد ذاتها. وهنا لابد أن نتفهم دوافع من يمارس ممارسات الفتنة -أبواق النظام العسكري ورجالهم مثلا- لأنهم متضررون بشكل مباشر من توحد القوى والتيارات السياسية؛ وإنما غير متفهم أبدا أن يشارك البعض في استمرار فتنة هو نفسه أحد ضحاياها!!
وفوق كل ذلك، نحن الآن في غنى عن المعارك التفصيلية في الزاوية الضيقة، بعد أن أغلق النظام الفاشي علينا الميدان الواسع، فمن الخطأ الفكري والسياسي استدعاء الخلافات في ظل دواعي ومحاولات الاصطفاف الحثيثة -والمتعثرة حتى الآن- فإننا بذلك نفتح بابا لا يمكن إغلاقه، إذا تتبعنا مسار كل فرد وفكرة لحظة بلحظة، سطرا بسطر.
فمصر رغم فداحة وصعوبة حالتها، وجريمة العسكر الكبرى، في تفرقة المجتمع، وخلق تفسخ مجتمعي حاد، لكن وضعها أفضل من تجارب كثيرة، أبرزها الحرب الأهلية الرواندية التي اندلعت عام 1994، بين الهوتو والتوتسي، وراح ضحيتها قرابة مليون إنسان، أو حرب "الشتاء الأحمر في فنلندا" عام 1918، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف في المعارك أو معسكرات الاعتقال، أو الفتنة الطائفية في لبنان عام 1975، ومن أسوأ نتائجها التهجير والفرز الديني، وقدّرت ضحاياها بأكثر من 150 ألف قتيل!
كل هذه الدول تجاوزت الحدث، وبعضها يشهد نهضة اقتصادية هائلة مثل فنلندا، ورواندا، وتصالح الجميع هناك وأسسوا حقبة جديدة.
ومصر دولة لم تشهد اقتتالا طائفيا، أو تفرقة إثنية، بل انقلابا عسكريا حدث مثله في العنف والدموية في العديد من الدول، وخاصة تركيا عام 1960 و1980، وقد تجاوزت تركيا ذلك الآن بما تمر به من تجربة ديمقراطية تعددية، وانتخابات نزيهة، كما وصلت إلى كونها تعد من أبرز 20 اقتصاد في العالم.
القاهرة كذلك قادرة على تجاوز ما حل بها، وأن تعود من جديد، لكن بالاستفادة من رصيد وخبرات التجارب السابقة المشابهة والقريبة، وأهمها تجاوز الشرخ المجتمعي، والتوحّد من أجل لأم الجرح، وإخراج آلاف المعتقلين السياسيين، والبدء من لحظة 25 يناير من جديد.
من أجل ذلك لا تكونوا "شاس بن قيس" الذي فرّق الجمع، وأشاع الفرقة والتناحر، وتجاوزوا عن الماضي بآلامه وقساوته.. اسموا على الصغائر والضغائن ووحدوا الصفوف، كي تأتوا بالخير على البلاد والعباد.