الموجة الفاشية والموجة الخضراء
يتحكم حزبا العمال والمحافظين بالحياة السياسية والبرلمانية في بريطانيا. في الشهور الماضية آل مجلس العموم البريطاني إلى مسرح مفتوح، وتحدث الساسة من الحزبين باستعلاء نادر كما لو أنهما قدر بريطانيا الحتمي. خاضا صراعاً رهيباً حول مشاريع "البريكسيت" تحت سقف البرلمان، وأحدثا إرباكاً خطراً في عموم أوروبا مع اقتراب موعد الخروج. رفض الحزبان كل مقترحات إعادة الاستفتاء، وتحدثت ماي وكوربن مراراً عن "خيانة الناخبين" في حال وافقا على استفتاء ثانٍ.
حملت الانتخابات الأوروبية الأخيرة للحزبين ما لم يتوقعاه قط. فقد حصدا، معاً، أقل من أربعة ملايين صوت. كانت النتيجة مروعة، على وجه الخصوص بالنسبة لرئيسة الوزارء المستقيلة "ماي"، التي تلبست شخصية تاتشر في السنوات الثلاث الماضية. تعادل هذه النسبة ١١٪ من إجمالي من يملكون الحق في التصويت "٤٦ مليون بريطانيا"، و٢٢٪ من إجمالي عدد المقترعين. حصل المحافظون، حزب رئيسة الوزراء المستقيلة ماي، على أقل من ٩٪ من إجمالي عدد المقترعين، و٣٪ فقط من إجمالي من لهم الحق في التصويت.
لم يسبق أن مني المحافظون بمثل هذه الهزيمة منذ العام ١٨٣٢، بحسب الكاتبة تويبني في الغارديان. حزب العمال، هو الآخر، خسر نصف مقاعده في البرلمان الأوروبي، وبالكاد جاء متقدماً على الخضر، حتى إنه حصل على أقل من ٥٠٪ من المقاعد التي حصدها حزب البريكسيت حديث التأسيس. تقتضي القواعد الديموقراطية السارية في انجلترا أن يخلف ماي سياسي من حزبها ليكون رئيساً للوزراء، أي من الحزب الذي حصل على ٣٪ فقط من إجمالي من لهم الحق في التصويت! وهي تلم أوراقها قالت ماي إن ما حدث لحزبها كان إذلالاً. سيواصل الحزب المُذل قيادة بريطانيا وسيمضي بها في الطريق المغلق نفسه الذي أطاح بماي، معتقداً كالعادة أن ٣٪ من الأصوات تفويض مطلق.
تتغير مواقف الناخبين خلال دقائق، وربما خلال ثوانِ. فقد حدث لي شيء مشابه عندما أمسكت بالورقة وأردت أن أضع علامة إلى جانب الاشتراكي الديموقراطي، الألماني، ثم فجأة وجدتني مرتبكاً ومحتاراً: أليس من الأفضل أن أدلي بصوتي لصالح الخضر. فالأغلبية النسبية التي تتمتع بها ماي في البرلمان لم تعد أغلبية منذ زمن طويل، إلى أن وقفت هي على الحقيقة "المذلة" التي رفضت الاطلاع عليها في الوقت المناسب.
في ألمانيا مني الحزب المسيحي الديموقراطي، يمين الوسط، بهزيمة أقل ضراوة من نظيره البريطاني، حزب ماي، لكنها كانت كافية لتأخذ درجة الإذلال. قبل الانتخابات بأيام قليلة ظهر اليوتيوبر الشاب "ريزا" على قناته في يوتيوب ليتحدث إلى متابعيه عن الأسباب الكافية للتصويت بعيداً عن الحزبين الحاكمين "المسيحي الديموقراطي، الاشتراكي الديموقراطي". خلال ساعات التحق به ٧٠ يوتيوبر، من أشهر المؤثرين على الشبكة.
واصل الـ"مؤثرون" العزف على الموال نفسه، ويُعتقد على نحو واسع أن أولئك الشباب المؤثرين ساهموا على نحو مباشر في صناعة "الإذلال" الذي مني به الحزبان الكبيران في ألمانيا. عزت كرامب كارنباور، خليفة ميركل في رئاسة الحزب، إن المؤثرين السبعين كانوا سبباً مباشراً في "هندسة رأي Meinungsmache" مناهض لحزبها، معتبرة ذلك عنصراً غير قانوني وغير أخلاقي في اللعبة الانتخابية.
إشارة كارنباور إلى إمكانية سن قوانين لتحديد مدى حرية المؤثرين على الشبكة قوبل بموجة استنكار رهيبة تجاوزت الـ ٨٠ ألف تدوينه على تويتر خلال ساعات قليلة. علق موقع "إن تي ڤي"، التابع لشبكة RTL الشهيرة، على تصريحات كارنباور بالقول إنها ليست فقط طفلة مراهقة جعلها حزبها تقفز إلى البئر، بل أسوأ من ذلك: لقد انهالوا عليها، وهي في قاع البئر، بالحجارة.
لعبت الأجيال الجديدة الجزء الأهم من اللعبة. فقد قال استطلاع رأي في انجلترا إن حوالي ثلثي الناخبين بين ١٨ ـ ٢٤ عاماً يعتقدون أن كوربن، رئيس حزب العمال، يعنى بمصلحة حزبه أكثر من عنايته بمصالح الأمة الانجليزية. تشير أرقام كثيرة إلى أن الميلينيالس/ الألفيين، المولودين بعد عام ١٩٨٠، هم الذين جعلوا الأحزاب الأوروبية الكبيرة تدفع ثمن استهتارها وتعاليها على الحقائق.
ثمة أرقام لافتة أيضاً شهدتها الانتخابات الأوروبية. فلم يحدث أن فاز حزب واحد، في أي بلد أوروبي، بنسبة تتجاوز ٥٠٪ سوى في هنغاريا، حيث أوربان. في الأعوام الأخيرة استطاع أوربان إعادة هندسة الديموقراطية في بلده بطريقة أمكنته من تفريغها من ليبراليتها. وعبر سلسلة من الإصلاحات القضائية والتعليمية، فضلاً عن تعديلات جوهرية طالت قوانين الصحافة والحريات الفردية، استطاع حزب أوربان إنتاج نسخة بوتينية من الديموقراطية، وتصميم حياة عامة تمثلاً خطراً على حرية التعبير. فقد تورط أوربان نفسه أكثر من مرة في مهاجمة السامية والمسلمين، كما سبق لحكومته أن وصفت المهاجرين، في بيان رسمي، بالمخلوقات الفضائية الشريرة.
النشاط الشعبوي الدؤوب لحزب أوربان جعله يهيمن على الحياة السياسية في بلاده بأغلبية مطلقة. الشكل الديموقراطي المعادي للديموقراطية في هنغاريا يوضح خطر تجاهل التعديلات البنيوية التي يلحقها الشعبويون بالديموقراطية، ويدفع إلى أخذ وعودهم على محمل الجد.
في الأيام الماضية نشرت، لأول مرة، مذكرات موظف حكومي اسمه " فريدريش كيلنر" كتبها أثناء الحرب العالمية الثانية. كان "كيلنر" ناشطاً في الاشتراكي الديموقراطي، وقد لاحظ كيف أحدث النازيون تغييرات جوهرية في النظام الديموقراطي أدت أن الحياة، بكلمات كيلنر، لم تعُد تحتمل. فقد أصبح المواطن الألماني مسلوب الحرية كليا، مطلوب منه في نهاية المطاف أن يموت دفاعاً عن طاغية. اللافت في تلك المذكرات [٩٠٠ صفحة] أن هذه الفقرات كتبها الرجل قبل انفجار الحرب، وفيها رصد عملياتي لتحولات المجتمع والحياة تحت ضغط البروباغاندا والتعديلات النازية.
في جنوب أوروبا، في إيطاليا، قفز الليغا، حزب اليميني المتطرف سالڤيني، إلى ٣٤٪، محققاً نسبة زيادة مقدارها ٥٠٠٪ مقارنة بنتائجه في العام ٢٠١٤. يطلق سالڤيني على نفسه اسم "ترامب إيطاليا"، ويتصرف على طريقة موسوليني. تهندس الحياة العامة في إيطاليا باستراتيجية صارمة ستفضي في النهاية، كما يتوقع مثقفون إيطاليون كثيرون، إلى الموسولينية. بالنسبة للروائي الإيطالي أندريا كاميلليري، صار أعمى ويبلغ ٩٣ عاماً، فإن سالڤيني هو الحاكم المطلق لإيطالي وهو يملك التعالي الفاشي وغرور القوة اللذين ميزا موسولويني من قبل.
يواصل كاميلليري حديثه للغارديان قائلاً "لا أؤمن بوجود الخالق، ولكنه إن وجد وكان يملك ناراً فلا بد أنه قد أعدها للرجال الذين يشبهون سالڤيني". في الواقع يقدم سالڤيني نفسه بوصفه قائد اليمين الراديكالي في أوروبا، ويتوعد بتغيير القارة، وقد استطاع جلب قادة ١٣ حزبا يمينياً إلى روما من أجل تدشين الكتلة اليمينية التي ستكون مهمتها "استعادة أوروبا المسيحية"، كما قال بيان الاجتماع. عقب إعلان النتائج الانتخابية خرج موسوليني أمام الكاميرات وقبل صليباً صغيراً يحمله معه. أما الروائي الأعمى كاميلليري فقد تذكر ذلك اليوم من عام ١٩٤٥ حين أعدم موسوليني في روما. فقد علقت صحيفة واشنطون بوست على تلك المحاكمة قائلة: لقد أعدمتم موسوليني ولكنكم لم تقتلوه.
من الملاحظ أن التقدم الملحوظ الذي أحرزته الأحزاب المتطرفة قابله تقدم آخر للموجة الخضراء المنادية بالعدالة والحرية والبيئة النظيفة. تحركت الموجتان إلى الأمام وطردتا الأحزاب العريقة من الوسط. أما غاولاند، رئيس حزب البديل الألماني المتطرف، فقد حدد طبيعة معركة حزبه القادمة: "من الآن وصاعداً فإن الخضر هم خصوم حزبنا".
وإذا ما استعدنا الكثير من الأرقام التي نشرت فقد صوت ٦٪ فقط من الشباب تحت الـ ٣٠ عاماً لصالح البديل المتطرف، مقابل ٣٣٪ لصالح الخضر. الإشارة التي نتلقاها هنا تقول إن الوثبة التي حققها الراديكاليون ستجد معاوقة كبيرة مستقبلاً مع دخول موجات جديدة من اليافعين إلى سن التصويت، وخروج الأجيال القديمة من مرحلة "القدرة على التصويت". وهو ما يدركه الفاشيون وقد حددوا معركتهم المستقبلية بوصفها الصراع مع الخضر، أي مع الألفيين.