بليز ميتروويلي.. مديرة استخبارات بريطانية تتقن العربية وتعرف دهاليز الصحراء

داود علي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

 مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2025 نشرت صحيفة "التايمز" البريطانية، تقريرا موسعا للصحفية لاريسا براون قدم صورة مركبة عن بليز ميتروويلي، القائدة الجديدة لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6). 

التقرير لم يتوقف عند دلالة التعيين التاريخي كأول امرأة تتبوأ المنصب، بل مضى ليقرأ اللحظة الاستخباراتية والسياسية التي تأتي فيها هذه الخطوة، على مفترق طرق بين الحرب والسلام، صراع غزة الذي همش لندن دبلوماسيا، وتحولٍ مطلوب في أدوات النفوذ البريطاني، مع اتجاه الثقل لصالح واشنطن في التأثير على قرارات تل أبيب. 

وتبرز "التايمز" أن ميتروويلي تحمل إلى مكتبها خبرة ميدانية عربية وقدرة لغوية وثقافية، وتوجها تقنيا صلدا ترسخ خلال قيادتها لقطاع التكنولوجيا والابتكار في MI6، ما يجعل رئاستها مرشحة لأن تكون لحظة إعادة تموضع بريطاني عبر بوابة الاستخبارات الدبلوماسية في المنطقة.

بطاقة تعريف

ولدت بليز فلورنس ميتروويلي في 30 يوليو/ تموز 1977، ونشأت بين لندن وهونغ كونغ بحكم عمل والدها الطبيب الأكاديمي هناك. 

التحقت بمدرسة شلتنهام للبنات ثم مدرسة وستمنستر المرموقة في لندن حيث تولت قيادة المنظمة الطلابية داخل المدرسة بين أعوام 1994 - 1995، قبل أن تنتقل إلى كلية "بمبروك" في جامعة كامبريدج لدراسة الأنثروبولوجيا وتتخرج عام 1998.

في كامبريدج لمع اسمها رياضيا في التجديف، فكانت ضمن طاقم Blue Boat الذي فاز بسباق 1997 ضد أكسفورد، وأسهمت في تتويج كلية بمبروك ببطولة May Bumps في العام نفسه. 

لكن مع ذلك فإن حياتها العائلية حملت تفصيلات أثارت جدلا صاخبًا ففي أول يوليو/ تموز 2025، كشفت تقارير صحفية أن جدها البيولوجي من جهة الأب، كونستانتين دوبروفولسكي، كان متعاونا مع النازيين وعمل جاسوسا خلال الحرب العالمية الثانية، بل نسبت إليه ألقاب قاسية من الأرشيف الألماني.

الحكومة البريطانية سارعت حينها إلى النأي بميتروويلي عن تلك الخلفية والتأكيد على أنها لم تعرف جدها قط، وأن تاريخها العائلي المعقد لا يحملها إرثا أخلاقيا، بل شكل لديها وعيا صارما بمهمة منع الصراعات وحماية الجمهور البريطاني من تهديدات الدول العدائية. 

وهكذا أغلقت دائرة الجدل رسميا، وبقيت الواقعة شاهدا على هشاشة الحدود بين السير الشخصي والحروب المعلوماتية في زمن الشائعات العابرة للمنصات.

مسيرة الصعود

انضمت ميتروويلي إلى الاستخبارات البريطانية "MI6" عام 1999 كضابطة عمليات، ثم أمضت بين 2000 و2003 مهمة دبلوماسية استخباراتية في مدينة دبي الإماراتية، سكرتيرة ثانية للشؤون الاقتصادية باسم وزارة الخارجية، وهي صيغة مألوفة لتغطية المهام الاستخباراتية في بعثات الخارج. 

بعد ذلك توالت التكليفات الميدانية في الشرق الأوسط وأوروبا في أجواء ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وغزوي أفغانستان والعراق، وتداخلت مسارات مكافحة الإرهاب بالتجسس المضاد ورصد تهديدات الدول في ملفات روسية وصينية وإيرانية. 

وفي محطات لاحقة انتقلت ميتروويلي إلى جهاز MI5 وهو "جهاز الاستخبارات الداخلية في المملكة المتحدة"، في دور رفيع خاص بملف "الدول المعادية"، وقد ظهرت للعلن لاحقا في مقابلات صحفية تحت الاسم الرمزي Director K. 

هذه التجربة المزدوجة لـ ميتروويلي بين MI6 الخارجي وMI5 جعلت منها ضابطة عمليات تتكئ على قاعدة عريضة من فهم الأمن القومي البريطاني داخل الحدود وخارجها. 

ابتداء من عام 2021 تقربت ميتروويلي أكثر من قلب ماكينة الاستخبارات الحديثة حين صارت المديرة العامة للتكنولوجيا والابتكار في MI6، وهو المنصب المعروف داخل الجهاز بـ "Q". 

هناك دفعت نحو رقمنة الأدوات وتحديث قدرات جمع البيانات والتحليل واعتماد الذكاء الاصطناعي ورفع الجاهزية السيبرانية. 

هذه النقلة لم تكن تقنية بحتة، بل سياسية مؤسسية أيضا، إذ نقلتها إلى ما يعرف بـ "دائرة الثقة" التنفيذية ومهدت لتسمية اسمها علنا لرئاسة الجهاز. 

وحين أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر تعيينها في 15 يونيو/ حزيران 2025، رئيسة لجهاز الاستخبارات البريطانية، كان لافتا تأكيد البيان الرسمي على أنها ستكون الرئيس الثامن عشر وأول امرأة، والعضو الوحيد المعلن اسمه في MI6، وأنها مسؤولة عملياتيا أمام وزير الخارجية ومساءلة أمامه مباشرة.

لماذا ميتروويلي؟

حين تقال الجملة في لندن، بليز ميتروويلي أصبحت "C"، فالمعنى ببساطة أنها صارت رئيسة جهاز MI6. 

لكن حرف C ليس اختصارا لكلمة "Chief"، إنه توقيع تاريخي يعود إلى أول من ترأس الجهاز عام 1909، الضابط البحري مانسفيلد سميث كينغ، الذي كان يوقع مراسلاته بحرف C بالحبر الأخضر. 

ومنذ ذلك الحين ظل اللقب تقليدا ملزما، وكذلك عادة الحبر الأخضر التي أكد الرئيس السابق ريتشارد مور استمرارها في مقابلة إذاعية عام 2021.

في التقليد المؤسسي للندن، تصبح "C" علامة هوية بقدر ما هي صفة وظيفية، توقيع أخضر يحكم شبكة عالمية من المحطات الاستخباراتية وتدفق الأسرار، ويذكر دائما بأن الجهاز ولد من طينة الخداع البحري البريطاني القديم لكنه يتنفس اليوم بوسائل العصر الرقمي. 

بحسب تقرير صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في 30 يونيو 2025، فإن توقيت التعيين جاء في ذروة ثلاث موجات متوازية، صراع غزة الذي كسر الكثير من المسلمات الإقليمية. 

وحرب أوكرانيا التي ثبتت روسيا كتهديد هيكلي لأوروبا، وصعود الصين كخطر أول وفق إعلان الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية، ريتشارد مور عام 2021. 

وفي هذا السياق، تقول "التايمز" في تقريرها المنشور يوم 2 أكتوبر 2025، إن ميتروويلي مرشحة لإعادة هندسة دور MI6 الشرق أوسطي، من جمع معلومات خلف الستار إلى دبلوماسية استخباراتية، تمكن لندن من استعادة نفوذ تآكل في العقد الأخير. 

وتضيف أن خبرتها العربية، ونشأتها جزئيا في السعودية، وعملها في دبي، وقدرتها على العمل داخل بيئات محلية معقدة، تجعلها قادرة على لعب أدوار الوساطة الهادئة. 

خصوصا مع امتلاك بريطانيا قنوات متينة مع الدوحة والقاهرة، لذلك فإن الرهان هنا ليس على البيانات وحدها، بل على القدرة على تحويل المعلومة إلى نفوذ سياسي في اللحظة المناسبة.

مهمة ميتروويلي

وفي 15 يونيو 2025 وصفت سكاي نيوز التعيين بأنه تاريخي، لكن القراءة الأهم في تقريرها كانت نظرته إلى الملف المهني المتكامل لميتروويلي، ضابطة عمليات قضت حياتها المهنية كلها في الاستخبارات منذ 1999، تعرف الشرق الأوسط بلغته وثقافته. 

وعبرت مدرسة MI5 الداخلية بما وفر لها من حساسية عالية لفهم التهديدات عبر الحدود، ثم قادت قلب الابتكار التقني في MI6 حيث تدار اليوم معركة البيانات والاختراقات. 

هذا المزج بحسب التقرير، يمنحها أفضلية في عصر تختلط فيه الحدود بين المعلومة والأثر السياسي، وبين التجنيد التقليدي والهندسة الاجتماعية الرقمية، وبين العمليات السرية والدبلوماسية الهادئة. 

ومن هنا تبدو أهليتها لتكون العضو الوحيد المعلن اسمه في جهاز يفضل الغموض، قادرة على مخاطبة الجمهور حين يلزم، وعلى الحفاظ على الأسوار العالية حين يجب. 

هكذا صاغت سكاي نيوز عناصر قوة شخصية مؤسسية تتجاوز الرمز الجندري إلى معيار الكفاءة التي يحتاجها MI6 في نسخته المقبلة.

وكانت "التايمز" قد أشارت في تقريرها أنه منذ سنوات، تراجعت لندن إلى مقعد ثان في حرب غزة فيما ظلت واشنطن الممر الإجباري لأي ضغط على تل أبيب. وتقول "التايمز" إن زملاء سابقين لميتروويلي، يرون أن وقف إطلاق النار المحتمل حين ينضج سيفتح بوابات لعودة الدور البريطاني، وأن مساهمة MI6 قد تكون في قياس جدية الأطراف، وتوفير الذكاء الحاسم وقت التفاوض، مستندة إلى علاقة لندن التاريخية ببعض الوسطاء العرب. 

وفي ضوء تصاعد المخاوف من موجات عداء تغذيها صور غزة، يصبح لعمل ميتروويلي بعدان، الأول حماية الداخل بقراءات أكثر دقة لمخاطر العنف، وتفعيل شراكات ثقة في قطر ومصر للمساعدة في تمرير تسويات ممكنة. 

وهنا تحديد تظهر قيمة الخبرة العربية لميتروويلي وقدرتها على قراءة اللهجات السياسية المحلية دون وسطاء مفلترين. 

في المقابل، العلاقة مع إسرائيل تمر بمنعطف بارد سياسيا، لكن التعاون الاستخباراتي لم ينقطع، خصوصا في ملفات الرهائن والغموض الضروري حول البرنامج النووي الإيراني. 

وهنا ستحتاج ميتروويلي إلى أن تمسك العصا من المنتصف، الحفاظ على شراكات أمنية لازمة، والمداراة السياسية في قضايا حقوق الإنسان والحرب، وتجنب ما قد يفهم على أنه انحياز يفقد لندن ما تبقى من قدرتها على الوساطة. هذه المعادلة الدقيقة تتطلب لغة استخباراتية تفصل بين ما يقال للعامة وما يدار في السر.

دبلوماسية ميتروويلي 

وفي 27 يونيو/حزيران 2025، أوردت صحيفة "دي فيلت" الألمانية، في تقريرها عن تولي ميتروويلي مهمة رئاسة الاستخبارات البريطانية، قائلة إنه منذ ما قبل الغزو، كانت التقديرات البريطانية من أوضح التحذيرات لنية موسكو عبور الحدود. 

ولكن اليوم تتسع ساحات المواجهة إلى الفضاء السيبراني وعمليات التأثير، وتستشعر العواصم الأوروبية أن الهجمات الهجينة الروسية ازدادت خشونة واتساعا.

وأن هذا الملف لم يغادر مكتب رئاسة الاستخبارات مع ريتشارد مور، والآن يتضخم مع ميتروويلي التي ورثت جهازا يوازن بين توفير العقل التحليلي للمؤسسة السياسية وبين إدارة عمليات سرية عبر أوروبا الشرقية وحوض البحر الأسود. 

وهنا يعمل قطاع "Q" الذي قادته ميتروويلي سابقا كرافعة تقنية لتسريع الاستشعار والاستجابة. 

إضافة إلى ذلك فإنه حين قال ريتشارد مور عام 2021 إن الصين هي الأولوية العظمى، لم يكن يبالغ، وإن كانت حرب أوكرانيا سرقت الصدارة الإعلامية، فإن مسار المراقبة البيومترية والتجسس الصناعي وسلاسل التوريد التكنولوجية يجعل الملف الصيني اختبارا دائما لقدرة MI6 على حماية التفوق التكنولوجي البريطاني والغربي. 

ومع ميتروويلي الجديدة التي جاءت من المدرسة التقنية، يتوقع أن يتواصل التشدد في تتبع الشبكات الصينية العابرة للحدود، وأن تعامل قضايا الملكية الفكرية والتوريد كملفات أمن قومي بامتياز.

وبحسب "دي فيلت" فإنه إذا تم توصيف مشروع ميتروويلي لقيادة جهاز المخابرات في المرحلة المقبلة على نحو عملي، فربما يكون التأثير عبر المعلومة عنوانا جامعا. 

في غزة، ستكون المساهمة في قياس نوايا الأطراف واختبار جدية عروض وقف إطلاق النار، وتغذية الوسطاء العرب والأوروبيين بذكاء قابل للاستخدام السياسي. 

في لبنان وسوريا، حيث تتقاطع خطوط النار مع مسارات تهريب وتدخلات إقليمية، ستحتاج MI6 إلى مروحة شركاء محليين وقدرة على العمل في مساحات رمادية لالتقاط إشارات التصعيد المبكر. 

في إيران، سيظل البرنامج النووي ملفا لوجستيا تحليليا بامتياز يتطلب تنسيقا وثيقا مع الحلفاء. 

وفي الخليج، حيث تبني بريطانيا تقليديا جسور تجارة وتسليح، يمكن لـ ميتروويلي أن تستثمر رصيد العلاقات في ملفات الطاقة والأمن البحري الممتدة من المتوسط إلى بحر العرب. 

هذه كلها أدوار تحت السطح، لكنها تترك آثارا ملموسة على الطاولة.

أما على الصعيد الداخلي فلم يعد ينظر إلى MI6 كصندوق أسود بعيد عن الرأي العام. 

منذ سنوات بدأ الجهاز يتجه إلى قدر مدروس من الشفافية عبر منصات التواصل والظهور العلني لرئيس الاستخبارات. 

ميتروويلي التي شاركت سابقا في مقابلات نادرة تحت أسماء رمزية، تعرف حدود اللعبة، ما يقال لتبرير الكلفة السياسية والمالية للأمن القومي، وما يحتفظ به داخل الجدران.

في عهدها، يتوقع توسع تجارب الاستقطاب غير التقليدي للمواهب ومنها قنوات على "الدارك ويب"، وتطوير برامج تحاكي بيئات الهجوم السيبراني لاجتذاب العقول التي تفضل تحديات التقنية على الروتين البيروقراطي. 

هذه الوصفة تختصر فهمها لأن الاستخبارات الحديثة ليست رجالا بمعاطف ثقيلة بقدر ما هي منصات وخوارزميات وأمن سحابي.