لماذا تهتم "بي بي سي" باغتيالات الإمارات في عدن وتتجاهلها بمناطق أخرى؟
التحقيق الذي نشرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في 23 يناير/ كانون الثاني 2024، تحت عنوان "الحرب في اليمن: الاغتيالات السياسية الممولة من قبل الإمارات" تسبب في إزعاج الدولة الخليجية وغضبها.
ورغم نفي "أبوظبي" ما جاء في التحقيق البريطاني عن وقوفها وراء موجة من الاغتيالات بدوافع سياسية في جنوب اليمن، تحديدا مدينة عدن.
لكن كثيرا من الأدلة تؤكد تورط الإمارات في جرائم الاغتيالات السياسية في عدن، خاصة وأن تحقيق "بي بي سي" ليس الأول من نوعه، وسبقته كثير من وسائل الإعلام في رصد وتحقيق تلك الاغتيالات.
ليطرح السؤال نفسه، لماذا نشرت "بي بي سي" هذا التقرير في هذا التوقيت تحديدا؟ ولماذا اختصت عدن عن غيرها من أماكن الصراع الأخرى التي تورطت فيها الإمارات سواء في ليبيا أو السودان أو أريتريا أو غيرها من الدول؟
مجموعة "سبير"
وذكر التحقيق البريطاني أن الإمارات لعبت دورا كبيرا في "تمويل اغتيالات بدوافع سياسية في اليمن"، ما أسهم في تفاقم النزاع بين الفصائل المتناحرة هناك.
وأورد أن تدريبات مكافحة الإرهاب التي وفرها مرتزقة أميركيون لوحدات إماراتية عاملة في اليمن، استخدمت في تدريب عناصر محليين بتستر، وهو ما أدى إلى زيادة ظاهرة الاغتيالات السياسية المقصودة.
وحصل التحقيق على مشاهد مسربة من تسجيلات أول عملية اغتيال، فكانت نقطة انطلاق في شأن عمليات القتل الغامضة في عدن.
وكشف أن تلك المشاهد تعود إلى ديسمبر/ كانون الأول سنة 2015، وباقتفاء آثارها، تم التوصل إلى شركة أمنية خاصة أميركية تدعى Spear Operations Group (مجموعة عمليات سبير).
وتمكنت "بي بي سي" من الوصول إلى أحد الأشخاص الذين كانوا خلف العملية المصورة في تلك المشاهد، وتم الالتقاء به في أحد مطاعم لندن عام 2020.
كان اسمه "إسحاق جيلمور"، وهو عنصر سابق في وحدة غطاسي البحرية الأميركية. وقد أصبح الرجل الثاني في مجموعة "سبير"، وهو من بين العناصر الأميركيين الذين يقولون إنهم "وظفوا لتنفيذ عمليات الاغتيال في عدن بتكليف إماراتي".
وقال التحقيق البريطاني: "إنه بنظر المحققون في 160 عملية اغتيال نفذت في عدن بين عامي 2015 و2018، وجدوا أن غالبيّتها وقعت بعد عام 2016".
وذكر أن جميعها نفذت تبعا للتكتيك ذاته الذي تتبعه مجموعة "سبير" الممولة إماراتيا، بتفجير عبوة ناسفة بهدف صرف الانتباه، يتبعه قتل الهدف بإطلاق النار.
لكن التطور المهم الذي أظهره التحقيق أنه عندما انكشفت أدوار المرتزقة الأميركيين وأصبحوا أكثر وضوحا في عدن، وفي وضع مكشوف وخطر، أدخل تعديل على المهمة التي تحولت إلى التدريب.
حيث عمد الضباط الإماراتيون بدورهم إلى تدريب مجموعات يمنية من أجل أن يتولوا هم تنفيذ الاغتيالات، وفقا لما كشفه مسؤول عسكري يمني.
وأتبع أنه بحلول عام 2017، ساهمت الإمارات في بناء مليشيا مسلحة، تحت اسم "المجلس الانتقالي الجنوبي"، كانت تعمل على تنظيم شبكة من المجموعات المقاتلة في جنوب اليمن.
وأوضح أن تلك القوة كانت تعمل بصورة مستقلة عن الحكومة اليمنية، ولا تتلقى الأوامر إلا من الإمارات.
وأنه لم يكن تدريبها مقتصرا على القتال في الجبهات الأمامية، فواحدة من تلك الوحدات على وجه الخصوص، تم تشكيلها كقوة نخبة تحت غطاء مكافحة الإرهاب، لكنها دربت على الاغتيالات التي تحددها الإمارات في عدن.
وختم تحقيق "بي بي سي" الاستقصائي بالقول: "إن الاغتيالات التي انتشرت على نطاق واسع خلقت جوا من الذعر أدى إلى شعور بالخوف من المضي في طلب العدالة في القضايا التي تتعلق بالقوات المدعومة إماراتيا المتورطة في الاغتيالات".
غضب إماراتي
وردا على التحقيق، قالت الإمارات في بيان بتاريخ 24 يناير 2024، إن "تلك الادعاءات غير صحيحة، وإنها لم تستهدف أفرادا لا علاقة لهم بالإرهاب، بالإضافة إلى أنها كانت تدعم عمليات مكافحة الإرهاب في اليمن بطلب من الحكومة اليمنية وحلفائها الدوليين".
وأضافت أن "الإمارات تصرفت بموجب القوانين الدولية مرعية الإجراء خلال تلك العمليات".
كما قال الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، المعروف بقربه من الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، إنه: "تقرير مريب وغريب في توقيته ومضمونه وهدفه، يستند لمزاعم مغلوطة وسردية انتقائية بثته قناة بي بي سي هدفه الأول والأخير تشويه مواقف الإمارات".
وأضاف: "لقد أسقطت بي بي سي المهنية والحرفية بتقرير سطحي لا يختلف عن النباح الإلكتروني الذي يطال الإمارات حاليا.. معدة التقرير صحفية تبحث عن الإثارة".
وفي إطار تلك التحقيقات لا يمكن إغفال حادثة قصف الإمارات للجيش اليمني في عدن في 29 أغسطس/ آب 2019.
وقتها شن سلاح الجو الإماراتي هجوما على تجمعات تابعة للقوات المسلحة اليمنية، كانت تعد لاستعادة عدن من سيطرة القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي التي أنشأتها ومولتها الإمارات.
الأمر الذي أسفر عن مقتل 300 ضابط وجندي يمني على الأقل، بحسب بيان وزارة الدفاع اليمنية. وبررت الخارجية الإماراتية آنذاك الضربة العسكرية أنها كانت "عملية وقائية" استهدفت "مليشيات إرهابية".
بعد تاريخي
وانتشرت جدليات حول التحقيق ودلالة نشره، ومما ورد أن بريطانيا تعد جنوب اليمن وتحديدا عدن من مناطق نفوذها التاريخية، حيث حكمتها تارة تحت نفوذ الهند البريطانية، وتارة كولاية منفصلة.
لذلك فقد رأت أن أبوظبي بمحاولة السيطرة الكاملة على عدن والتحكم في مضايق البحر الأحمر والمحيط الهندي، تعديا على نفوذها.
وبالعودة إلى السياق التاريخي للدولتين في اليمن، فإنه ما بين الأعوام 1835 و2015 حدث كثير من الدلالات والفواصل الزمنية المتقاطعة التي طرأت على تاريخ عدن اليمنية.
فما بين استعمار وملكية وجمهورية ثم انفصال واتحاد وصولا إلى الاضطرابات والاغتيالات وصراعات السيطرة على المنطقة المحورية، تجلى مستقبل المدينة العريقة.
ففي 1835 أرسلت الإمبراطورية البريطانية التي وصفت بأنها (لا تغيب عنها الشمس) الكابتن "كوماندر هينز" القائد بالبحرية البريطانية إلى منطقة خليج عدن لمعرفة مدى صلاحية المنطقة أن تكون قاعدة بحرية ومستودعا للسفن.
حينها أشار "هينز" في تقريره إلى ضرورة احتلال عدن لأهميتها الإستراتيجية البالغة، وهو ما كان عام 1839 عندما اجتاحت القوات البريطانية المدينة بعد معركة غير متكافئة، وبقيت هناك قرابة 124 سنة.
وفي عام 1963 قامت ثورة (14 أكتوبر) التي سطرت كفاح الشعب اليمني، وتسببت في إجلاء بريطانيا عن المنطقة بعدما ارتكبت جرائم مروعة واتبعت سياسة (الأرض المحروقة)، لكن في النهاية تحرر اليمن من المستعمر.
مضت السنوات وحل عام 2015 عندما اندلعت عمليات عاصفة الحزم على اليمن بقيادة التحالف الخليجي وتحديدا (السعودية والإمارات)، ووجهت ضربات عسكرية إلى عديد من المدن والقرى.
لكن الإمارات أخذت نصيبها بالسيطرة على عدن من خلال إنشاء وتمويل ما يعرف بـ "المجلس الانتقالي الجنوبي" التابع والموالي لها.
وكان هدف "أبوظبي" التحكم الكامل في عدن كنقطة إستراتيجية وبصفتها العاصمة الاقتصادية لليمن، وأهم منفذ طبيعي على بحر العرب والمحيط الهندي، فضلا عن تحكمها بطريق البحر الأحمر.
وهو ما اصطدم بشكل قاطع بالنفوذ البريطاني القديم المتجدد، لذلك سعت إلى الكشف عبر الـ "بي بي سي" عن جرائم أبو ظبي في عدن تحديدا.
مكاشفات سابقة
ولم يكن تحقيق "بي بي سي" عن اغتيالات الإمارات السياسية في عدن جديدا، إذ سبقته عدة وسائل إعلامية، نقلت تفاصيل متطابقة.
منها وكالة "باز فيد نيوز" الأميركية، التي نشرت في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تحقيقا عن تورط الإمارات في اغتيال 23 شخصية يمنية في مدينة عدن، ينتمي معظمهم إلى حزب الإصلاح إضافة إلى شخصيات بارزة أخرى.
ونقلت الوكالة شهادة ضابط البحرية المتقاعد إسحاق غيلمور (نفس الشخص الذي استشهد به في تحقيق بي بي سي)، حيث قال: " توجهنا من قاعدة عسكرية إماراتية في الصحراء، إلى قاعدة أخرى في عصب في أريتريا، عبر طائرة نقل تابعة للقوات الجوية الإماراتية، وخلال الرحلة قام ضابط إماراتي، يرتدي الزي الرسمي، بإطلاعنا على قائمة اغتيالات".
وأضاف: "أن القائمة تضمنت صور بعض الأسماء، مرفق مع كل اسم بطاقة تحمل صورة الهدف، ومعلومات عنه، ومكان إقامته، ودوره في الحياة السياسية اليمنية.. كان بعضهم أعضاء في حزب الإصلاح، وآخرون من رجال الدين".
ومما ذكره الضابط: "وصلنا القاعدة العسكرية، وكان في استقبالنا المسؤول السابق في السلطة الفلسطينية محمد دحلان، كان يرتدي بدلة مصممة بشكل جيد، (يعمل محمد دحلان حاليا مستشارا لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد)".
وأكمل: "أبرمت الصفقة على مأدبة غداء في مطعم إيطالي في نادي الضباط الإماراتيين، ووقع على الصفقة قائد الفريق أبراهام غوالان، و محمد دحلان ممثلا عن الجانب الإماراتي، وبدأت مجموعة عمليات (الرمح) العمل".
وبحسب غيلمور، فقد نص العقد على "إعطاء الفريق 1.5 مليون دولار شهريا، بالإضافة إلى مكافآت مقابل عمليات الاغتيال الناجحة".
وكان تحقيق "باز فيد نيوز" يشير بشكل صريح، وبدون أي مواربة إلى تورط الإمارات، وبالطبع شكك البعض في مصداقية هذا التحقيق ، لكن أدلة أخرى كفيلة بدحض هذه الشكوك.
فالصحفي المقرب من حزب الإصلاح عبدالله دوبلة، كان قد أفاد في تصريح خاص بـ"الاستقلال" بأنه " كان أحد الحاضرين في ذلك الاجتماع، وأن تفاصيل العملية تتطابق مع ما ورد في التحقيق من حيث المكان والزمان وتفاصيل عدة".
المصادر
- تحقيق لبي بي سي يكشف أن الإمارات العربية المتحدة موّلت اغتيالات سياسية في اليمن
- احتلوا عدن وخاضوا حرباً سرية في الشمال.. التاريخ الاستعماري البريطاني في اليمن
- الإمارات ترد على تقرير "الاغتيالات السياسية" في اليمن
- A Middle East Monarchy Hired American Ex-Soldiers To Kill Its Political Enemies. This Could Be The Future Of War.