ترامب بالخلفية.. كيف صارت علاقات أميركا وجنوب إفريقيا الأسوأ منذ 1986؟

"إذا كان المطلوب هو التخلي عن قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية فسيكون أمرا صعبا"
يزج هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب على جنوب إفريقيا، بالعلاقات بين واشنطن وبريتوريا إلى أسوأ حالاتها منذ عقوبات 1986 على نظام الفصل العنصري.
وفي مقال نشرته مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية، قال السياسي جون ماتيسون: إن "ترامب وجنوب إفريقيا على مسار تصادمي، حيث يدور الخلاف حول قانون جديد لمصادرة الأراضي، مما دفع البيت الأبيض إلى قطع المساعدات".
وأضاف: "من المرجح أيضا أن يقلص البيت الأبيض مشاركته في قمة مجموعة العشرين لهذا العام، التي يستضيفها الرئيس الجنوب إفريقي، سيريل رامافوزا، في جوهانسبرغ في نوفمبر/تشرين الثاني 2025".
وأعلن ترامب، في 8 فبراير، إيقاف كل المساعدات الأميركية لجنوب إفريقيا، قائلا: "لا يمكن أن ندعم حكومة جنوب إفريقيا عندما تقوّض سياستنا الخارجية".
في إشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه جنوب إفريقيا في محاكمة إسرائيل على إبادتها الجماعية في غزة، فضلا عن دورها في تكتل "بريكس".
اختبار للائتلاف الحاكم
ويأتي هذا الخلاف بعد سبعة أشهر من تشكيل حكومة ائتلافية تختبر قدرة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) -الذي قاد حركة التحرير سابقا- على العمل مع شريكه، التحالف الديمقراطي (DA) المؤيد بشدة للغرب، والذي يمثل نحو 90 بالمئة من الناخبين ذوي البشرة البيضاء.
واختار حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" بقيادة "رامافوزا"، الائتلاف مع "التحالف الديمقراطي" بدلا من ثالث ورابع أكبر حزبين، وهما حزبان منشقان عن "المؤتمر الوطني الإفريقي" يمثلان الناخبين ذوي البشرة السمراء، ويتبنيان مواقف مناهضة للغرب.
حيث يتهمان الرئيس بعدم معالجة مطالب السود التاريخية بشأن الأراضي، وفي ظل هذا الضغط السياسي الشديد، قدم "المؤتمر الوطني الإفريقي" قانون المصادرة على أمل إرضاء جميع الأطراف.
ووفق "ماتيسون"، يعتمد نجاح الحكومة الائتلافية على قدرتها على استعادة النمو الاقتصادي والحد من ارتفاع معدلات البطالة بعد 15 عاما من الركود.
وبدأ الخلاف عندما صرّح ترامب بأن "أمورا مروعة تحدث في جنوب إفريقيا، فهم يصادرون الأراضي، بل ويفعلون ما قد يكون أسوأ من ذلك".

وفي الوقت ذاته، فإن الملياردير الأميركي ورئيس وكالة الكفاءة الحكومية في إدارة ترامب، إيلون ماسك، المولود في جنوب إفريقيا، اتّهم بريتوريا بعدم بذل جهد كافٍ لوقف ما وصفه بـ "إبادة جماعية" تستهدف المزارعين البيض.
أعقب ترامب ذلك بإصدار أمر تنفيذي في 7 فبراير/شباط، زاعما أن القانون الجديد يسمح للحكومة "بمصادرة ممتلكات المزارعين الأفريكانيين، وهم أقلية عرقية، دون تعويض".
ونتيجة لهذه "الممارسات الجائرة وغير الأخلاقية" -وفق وصف ترامب- جمّد الأمر جميع المساعدات الأميركية لجنوب إفريقيا، وتعهد بـ "دعم إعادة توطين اللاجئين الأفريكانيين الفارين من التمييز العرقي الذي ترعاه الحكومة".
بدوره، نفى رامافوزا أن تكون حكومته تمارس أي تمييز. وقال أمام البرلمان: "لا توجد مجموعة واحدة تواجه الاضطهاد".
وأضاف: "نحن نشهد تصاعد النزعة القومية والحمائية، والسعي وراء المصالح الضيقة، وتراجع التضامن المشترك. لكننا لا نشعر بالرهبة. لن نتراجع. لن نخضع للترهيب. نحن شعب صامد".
وقال ماتيسون: "يبدو أن هجوم ترامب جاء ردا على القانون الجديد، رغم أنه لم يُنفَّذ أي إجراء بموجبه حتى الآن، واستشهدت مجموعة ضغط تعارضه بحالة واحدة فقط تعود إلى عام 2018، حيث استولى مسؤول محلي على مزرعة لكنه أجبر على إعادتها بعد أمر قضائي".
من جانبه، لجأ "التحالف الديمقراطي" إلى المحكمة لمراجعة دستورية القانون، وهو يتمتع بسجل قوي في كسب معظم الطعون القانونية.
ومع ذلك، وقفت جميع الأحزاب الكبرى إلى جانب الحكومة في مواجهتها مع ترامب، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن قراره جاء مباشرة بعد تجميد برنامج "بيبفار" التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الذي يدعم علاج فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز.
وتتحمل جنوب إفريقيا تكلفة علاج ستة ملايين مريض، لكن برنامج "بيبفار" يساهم بنسبة حيوية تبلغ 17 بالمئة، تغطي تكاليف الطاقم التمريضي، ومراقبة الجودة، وعناصر أساسية أخرى.
وبعد فترة وجيزة من احتجاج الكوادر الطبية، التي حذرت من أن مرضى الإيدز قد يواجهون خطر الوفاة إذا توقفوا عن تناول أدويتهم بانتظام، أعلن روبيو عن منح استثناء. ومع ذلك، تؤكد مصادر من الجهات المنفذة للبرنامج أنه لم يُستأنف بعد.
نظام ملكية الأراضي
ويكمن وراء هذه المواجهة الخطابية أحد أخطر المعضلات التي لم تُعالج بعد من إرث الفصل العنصري.
فكما هو الحال في جارتها الشمالية زيمبابوي، كان استعادة الأراضي التي استولت عليها الحكومات البيضاء أحد الأهداف الرئيسة لحركة مناهضة الفصل العنصري.
لكن كلا من زيمبابوي وجنوب إفريقيا بعد التحرر لم تبذلا جهدا كافيا لتنفيذ تلك السياسات، إلى أن فرضت موجة من المشاعر الشعبية نفسها سياسيا، وفق المقال.
وفي زيمبابوي، أُجبرت الحكومة على الاستجابة لمطالب شعبية باستعادة الأراضي عبر إقرار اجتياحات للمزارع، أسفرت عن مقتل نحو ثمانية مزارعين. وبعد ربع قرن، لا يزال اقتصاد زيمبابوي يعاني من تبعات تلك السياسات.
وتُجمع معظم الأحزاب السياسية والمجموعات ذات المصالح في جنوب إفريقيا على أن إصلاح نظام ملكية الأراضي ضرورة ملحة.

ويحل قانون المصادرة الجديد محل قانون يعود إلى حقبة الفصل العنصري، حيث يجيز القانون الجديد المصادرة للمنفعة العامة.
لكنه يهدف أيضا إلى تصحيح قرون من التمييز، لا سيما قانون الأراضي لعام 1913، الذي حرم السكان السود في جنوب إفريقيا من الوصول إلى معظم الأراضي الزراعية.
وينص القانون على تحديد التعويض وفق معايير محددة، وإذا كانت الأرض غير مستغلة أو جرت حيازتها بطرق غير مشروعة أو كانت مملوكة للدولة، فقد يكون التعويض أقل. وفي بعض الحالات، قد تُنقل الملكية دون تعويض.
وسمع ترامب عن الجدل لأول مرة خلال ولايته الأولى، بعد حملة ضغط قادتها مجموعة المزارعين البيض في جنوب إفريقيا "أفري فورم"، التي التقت بالسيناتور تيد كروز (جمهوري عن ولاية تكساس) وظهرت في برنامج الإعلامي، تاكر كارلسون.
وفي عام 2025، لا يزال نحو 70 بالمئة من الأراضي بيد السكان البيض، الذين يشكلون 7 بالمئة من إجمالي السكان.
وبعد وقت قصير من انتقادات ترامب، أوضحت منظمة "أفري فورم" أنها تعارض الإجراءات العقابية التي اتخذها، وانضمت إلى معظم منظمات المزارعين في التأكيد على رغبتها في البقاء في جنوب إفريقيا وخوض هذه المعركة للحفاظ على أراضيها.
دعم غزة
وأفاد المقال بأن "رامافوزا حاول التواصل مع ترامب وأعلن أن وفدا سيتوجه قريبا إلى واشنطن في محاولة لتهدئة التوترات، لكن الجدل حول المزارعين البيض قد يكون أسهل حلا مقارنة بمصدر آخر لاستياء ترامب".
حيث اتهم الأمر التنفيذي جنوب إفريقيا باتخاذ "مواقف عدائية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك اتهام إسرائيل -وليس حركة حماس- بارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، وإعادة تنشيط علاقاتها مع إيران لتطوير ترتيبات تجارية وعسكرية ونووية".
وقال الكاتب: "يُعرف رامافوزا بمهاراته التفاوضية منذ أيامه كزعيم نقابي، وخلال مفاوضاته مع الحكومة البيضاء التي أفضت إلى دستور ديمقراطي".

واستدرك: "لكن إذا كان المطلوب منه التخلي عن قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، فقد يكون ذلك سياسيا صعبا، نظرا لجذور التعاطف التاريخي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع فلسطين، منذ أن كان هو الآخر في موقع المستضعف".
ولم يتوصل الائتلاف الحاكم بعد إلى سياسة خارجية متفق عليها، في حين يُعرف حزب "التحالف الديمقراطي" بمواقفه المؤيدة لإسرائيل تاريخيا. لكن بعض قادة حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" يعدون قضية فلسطين خطا أحمر قد يهدد استقرار الائتلاف.
وختم قائلا: "لا يزال رامافوزا يأمل في تسوية الخلاف مع واشنطن. فقبل هذا التصعيد، أعلن عن دعوته لترامب للقيام بزيارة رسمية قبل قمة العشرين، ولا يزال يسعى لإقناعه بالحضور، لكن ذلك يبدو صعبا في ظل التوبيخ الذي يطلقه ترامب وروبيو".