صفقة يوروفايتر لتركيا.. إلى أي مدى تضبط التوازنات العسكرية في الشرق الأوسط؟

منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بعد تردّد لأسباب سياسية، منحت ألمانيا الضوء الأخضر في 23 يوليو/ تموز 2025 لتصدير 40 مقاتلة متطورة من طراز "يوروفايتر تايفون" إلى تركيا، في خطوة عُدّت تحولا كبيرا في موقف برلين بعد أكثر من عام ونصف العام على تقديم أنقرة طلب الشراء.

وبالتوازي مع ذلك، شهدت إسطنبول توقيع مذكرة تفاهم بين وزير الدفاع يشار غولر ونظيره البريطاني جون هيلي -على هامش معرض الصناعات الدفاعية الدولي (آيدف 2025)- تمهد الطريق أمام انضمام تركيا رسميا إلى نادي مشغلي مقاتلات "تايفون".

ويوروفايتر تايفون طائرة قتالية متعددة المهام، ذات محرّكين، وبقدرة عالية على المناورة، صممت وبُنِيت من قِبل شركة يوروفايتر المحدودة وهو تكتل يضم شركات من أربع دول أوروبية (المملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا) تأسس في عام 1986.

وفي السياق، نشر معهد التفكير الإستراتيجي التركي مقالا للكاتب التركي "مدحت إيشيك"، ذكر فيه أن هذه الخطوة الإستراتيجية يمكن أن تعيد رسم ملامح التوازنات العسكرية في المنطقة.

بداية مرحلة جديدة

وأردف الكاتب التركي: هذا التطور لا يمثل مجرد صفقة تسليحية عادية، بل هو تتويج لتحولات أعمق في السياسة الدفاعية التركية، وتحالفاتها الإقليمية والدولية، خاصة في ظل السياقات الجيوسياسية المتغيرة في أوروبا والشرق الأوسط. 

وتُعد طائرات يوروفايتر تايفون من أكثر الطائرات المقاتلة تطورا في العالم، وقد تمّ تطويرها في إطار كونسورتيوم يضم أربع دول أوروبية: ألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا. 

وبحسب الاتفاق بين هذه الدول، فإن بيع هذه الطائرات لأي دولة خارج لكونسورتيوم يتطلب موافقة جماعية من جميع الأطراف. وقد شكل هذا الشرط عائقا أمام طموحات تركيا لامتلاك هذه الطائرات؛ حيث كانت ألمانيا، لأسباب سياسية تتعلق بملف حقوق الإنسان والتوترات الإقليمية، تعارض بيعها لأنقرة.

غير أن تغير المناخ الأمني العالمي، لا سيما بعد غزو روسيا لأوكرانيا، والسياسات الدفاعية المترددة لإدارة ترامب تجاه أمن أوروبا، دفعت برلين إلى إعادة تقييم موقفها. ومع موافقتها الأخيرة انفتحت أمام تركيا آفاق جديدة لتعزيز قدراتها القتالية الجوية، بالتوازي مع تعزيز شراكاتها الدفاعية الغربية، وخاصة مع بريطانيا.

أهمية الصفقة

وتمثل هذه الصفقة نقطة تحول في مسار تطوير سلاح الجو التركي، فهي تأتي في وقت تواجه فيه أنقرة تحديات كبيرة في ملف تحديث قواتها الجوية. 

حيث تعاني تركيا من توتر في علاقاتها مع واشنطن بسبب مقاتلات F-35، وقد حصل ذلك على خلفية شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، ما أدى إلى تأخير خطط التحديث الضرورية. 

لذلك تسعى أنقرة إلى سد الفراغ الناتج عن تأخر دخول طائرات الجيل الخامس المحلية "كان" إلى الخدمة.

ويعدّ شراء 40 طائرة من طراز يوروفايتر تايفون حلا مؤقتا وفعّالا في الوقت ذاته، وذلك ريثما تكتمل مراحل تصنيع واختبار واعتماد الطائرات التركية من الجيل الخامس. 

كما أن الصفقة تتكامل مع جهود أنقرة لشراء طائرات F-16 المطورة من الولايات المتحدة، ما يعكس إستراتيجية مزدوجة لتحديث الأسطول الجوي من جهة، وتقليل الاعتماد على شريك واحد من جهة أخرى.

وربما تكون إحدى أبرز دلالات الصفقة هي تقارب تركيا وبريطانيا في المجال الدفاعي. 

فإلى جانب التعاون في مجال الصناعات الدفاعية، فإن الاتفاق بشأن يوروفايتر قد يفتح الباب أمام شراكات أوسع تشمل تبادل التكنولوجيا، والتدريب، وحتى المشاريع المشتركة في إنتاج أنظمة الجيل القادم. 

في هذا السياق، يُنظر إلى بريطانيا كحليف غربي مرن وأكثر براغماتية مقارنة ببعض دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يناسب مقاربة أنقرة الإستراتيجية التي تبحث عن موازنة بين مصالحها ومصادر التهديد.

وتعزز الصفقة أيضا موقع تركيا ضمن منظومة الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، حيث إن طائرات يوروفايتر ستُسهم في زيادة جاهزية وقدرة الحلف الجوية، لا سيما في الجناح الجنوبي له، الذي يشمل مناطق البلقان والبحر المتوسط والشرق الأوسط.

من جانب آخر، أثارت الصفقة استياء اليونان، التي أعربت عن مخاوفها من اختلال ميزان القوى الجوية في بحر إيجه لصالح تركيا. 

وعلى إثر ذلك فقد قدّمت أثينا اعتراضا رسميا لدى الاتحاد الأوروبي، في محاولة لوقف الصفقة أو على الأقل إبطائها. 

غير أن هذه المخاوف تبدو مبالغا فيها، خاصة أن الهدف من حيازة تركيا لطائرات حديثة ليس العدوان، بل تعزيز أمنها القومي وردع التهديدات، لا سيما في محيطها الجغرافي المضطرب.

وأشار الكاتب التركي إلى أن المفارقة في هذا الموقف هي أن اليونان، بدلا من السعي إلى إقامة علاقات أكثر توازنا وتعاونا مع أنقرة، اختارت طريق التصعيد السياسي والارتهان العسكري للولايات المتحدة، من خلال السماح بإنشاء قواعد أميركية جديدة على أراضيها، واستضافة مئات الجنود الأميركيين. 

وهي سياسات لا تخدم المصلحة الوطنية اليونانية، بل تزيد من حدة الاستقطاب في شرق المتوسط.

العقيدة الدفاعية التركية

وتعكس هذه الصفقة تحولا تدريجيا في العقيدة الدفاعية التركية، وذلك من الاعتماد شبه الكامل على الولايات المتحدة إلى تبنّي سياسة "تنويع مصادر التسليح" و"الاستقلال الإستراتيجي"، دون الخروج من الإطار الغربي أو مواجهة الحلفاء التقليديين. 

فالقيادة التركية باتت تدرك أن التبعية لمصدر واحد قد يُضعف قدرتها على المناورة والردع، خاصة في ظل التغيرات السريعة في التحالفات الدولية.

كما تُظهر الصفقة التزام تركيا بمواصلة تطوير قدراتها الذاتية، من خلال مواصلة مشروع المقاتلة المحلية "كان"، بالتوازي مع الحصول على طائرات جاهزة لتلبية الاحتياجات الفورية. 

وهذا الجمع بين الإنتاج المحلي والاستيراد يُجسد مقاربة واقعية تراعي متطلبات الأمن القومي على المدى القصير والطويل.

ولفت الكاتب التركي النظر إلى أن فوائد الصفقة لا تقتصر على الجانب التركي فقط، بل تنعكس أيضا على الاقتصاد البريطاني. 

فتوريد 40 طائرة يوروفايتر سيؤمن آلاف فرص العمل في المصانع البريطانية، خاصة في ظل ظروف اقتصادية صعبة تمر بها أوروبا. 

كما يُعزز هذا التعاون دور بريطانيا كمصدر موثوق للتكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، ما يفتح أمامها أسواقا جديدة في المنطقة.

وتشير الموافقة الألمانية على بيع طائرات يوروفايتر لتركيا إلى بداية مرحلة جديدة في العلاقات الدفاعية بين أنقرة وشركائها الأوروبيين، وتُعد هذه الصفقة تتويجا لجهود دبلوماسية طويلة واتجاها إستراتيجيا واضحا نحو تحديث القوات المسلحة التركية.

في ظل بيئة إقليمية غير مستقرة، وصراعات مفتوحة في أكثر من ساحة، يبدو أن أنقرة اختارت طريق الاعتماد على الذات، مع الانفتاح المدروس على الشراكات الإستراتيجية. 

من هذا المنطلق، يُمكن عدّ صفقة يوروفايتر خطوة ذكية، تلبي الاحتياجات العسكرية، وتعزز المكانة الجيوسياسية لتركيا، وتعيد التوازن إلى علاقاتها الدفاعية الدولية.

إنها ليست مجرد صفقة أسلحة، بل انعكاس لتحول أعمق في موازين القوى الإقليمية والعالمية، وتركيا تُدير هذا التحول بثقة وواقعية.