مبادرة “ميثاق البناء الأسري”.. لماذا انقسم الشارع الموريتاني تجاهها؟
“تكاليف حفل الزفاف تصل في الغالب إلى 13 ألف دولار”
بين مؤيد ومنتقد، انقسم الشارع الموريتاني في تفاعله مع مبادرة رجال المال والأعمال بالبلاد، والمتعلقة بالدعوة إلى خفض تكاليف الزواج، وتغيير تقاليده وعادته.
وأصدر الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، وثيقة أطلقوا عليها اسم "ميثاق البناء الأسري"، في 27 أغسطس/آب 2024، تعهدوا فيه بمحاربة مظاهر البذخ والتبذير، خلال مناسبات الزواج.
ظواهر سلبية
وتضمنت ديباجة الميثاق أن "البذخ والتبذير قد تفشيا بشكل غير مقبول في مناسبات عقود الزواج الشرعية"، وهو ما يتعارض مع أهداف الشرع في تعزيز المجتمع وزيادة عدد أفراده وسعادة الأطراف المعنية.
كما دعا الميثاق إلى تجنب الاستعراضات في الحضور، والاقتصار على عدد محدود من المدعوين، وتفضيل إبرام عقود الزواج في المساجد، مع الامتناع عن البذخ والإسراف والمباهاة في الهدايا والعطاءات بين الطرفين.
ويسعى الميثاق إلى "المساهمة في إصلاح المجتمع وبنائه ومواجهة الفساد المالي والاجتماعي".
وتصل تكاليف الزواج في موريتانيا إلى نحو 15 ألف دولار، وهو مبلغ لا يمكن لمعظم الشباب توفيره مع تدهور القدرة الشرائية للموريتانيين، في بلد تتجاوز فيه نسبة البطالة 40 بالمئة، وهو معدل من بين الأعلى في العالم.
ويرى باحثون اجتماعيون أن عادات المجتمع المرتبطة بالبذخ في مراسم الزواج أدت إلى تراجع الزيجات.
وقال المكلف بالإعلام بالاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، سيدي محمد ولد اجيوان، إن "مبادرة ميثاق الأسرة" جاءت استجابة لتفاقم ظاهرة غلاء المهور في المجتمع.
وأشار إلى أنها "تهدف إلى معالجة هذه المشكلة الاجتماعية وليس لتحقيق مصالح شخصية".
وأوضح ولد اجيوان، خلال تصريح صحفي في 30 أغسطس 2024، أن المبادرة “تضع المجتمع أولا وتسعى للتصدي للظواهر السلبية التي أصبحت تتفاقم، في ظل تهميش القضايا الأساسية والتركيز على القشور”.
وذكر أن المبادرة ستقدم دعما ماليا قدره مليون أوقية قديمة (2600 دولار)، منها 50 ألفا مهرا و950 ألفا للمصاريف الأخرى، بالإضافة إلى تقديم مساعدات لدعم الحياة الزوجية وتوفير فرص عمل في المؤسسات الخاصة لضمان استقرار الأسر الجديدة، وذلك في ظل تزايد معدلات الطلاق التي وصلت إلى الآلاف في الفترة الأخيرة.
مؤسسات داعمة
وأعلنت رابطة العمد الموريتانيين، عن تبنيها لـ"ميثاق البناء الأسري"، الذي أطلقه رجال الأعمال، معتبرة أنه “سيسهم في تعزيز قيم الدين الحنيف والتضامن الاجتماعي”.
وأكدت الرابطة خلال اجتماع عقدته مع رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، محمد زين العابدين ولد الشيخ أحمد، التزامها الكامل بتطبيق بنود الميثاق على أعضائها وأسرهم، وفق موقع "صحراء ميديا" في 29 أغسطس.
ودعت الرابطة إلى نشر الميثاق بين المواطنين، وجعله تقليدا محترما في المجتمع، كما تعهدت بـ"العمل على تسهيل تنفيذه في دوائرها الشعبية ودعم هذه المبادرة القيمة".
من جانبه، اجتمع الأمين العام لهيئة العلماء الموريتانيين الشيخ ولد صالح، مع رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل ولد الشيخ أحمد، بالمقر الجديد للهيئة حول ميثاق البناء الأسري الذي أطلقه رجال الأعمال ومواءمته مع الشرع.
وبحسب موقع "الوئام الوطني"، في 30 أغسطس، ناقش الاجتماع تأصيل وتوصيل الميثاق الذي أطلقه الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين.
وأكد الأمين العام للهيئة مطابقة الميثاق للشرع وتبنيه من العلماء والمشايخ المنضوين تحت يافطة الهيئة، وأن الموقعين على الميثاق الواجب الشرعي في الوفاء بالالتزام والتعهد.
بدوره، أعلن المكتب التنفيذي للهيئة الوطنية للمحامين الموريتانيين برئاسة النقيب بونا الحسن، عن عقد لقاء مع رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل، بشأن ميثاق البناء الأسري.
وقال رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل في اللقاء المنعقد في 29 أغسطس 2024، إن "المبادرة هي محاولة لإصلاح المجتمع وبنائه ومحاربة مظاهر وموجبات الفساد المالي والاجتماعي، والوقوف في وجه البذخ والتبذير الشنيع الذي فشا بشكل منكر في مجتمعنا الطيب أثناء عقود الزواج الشرعي.
وطالب المتحدث ذاته من الهيئة الوطنية للمحامين تقديم اقتراحاتها، بما فيها صياغة مشروع قانون، يسهم في محاربة ظاهرة التبذير في المناسبات الاجتماعية، التي أصبحت ظاهرة تشكل عبئا اقتصاديا واجتماعيا على المجتمع، وأمنه القومي.
كما أشاد أعضاء الوطنية للمحامين بالفكرة وأهمية تجسيدها على أرض الواقع، حيث إن "التبذير في المناسبات الاجتماعية لا تقتصر أضراره فقط على الأثر الاقتصادي، بل تمتد إلى تأثيرات اجتماعية وثقافية، لكونه قد يؤدي إلى خلق ضغوط على الأسر ودفعهم إلى اتباع مسلكيات سلبية نتيجة الضغوطات الاجتماعية".
وعبر النقيب بونا ولد الحسن عن دعم الهيئة الوطنية للمحامين للميثاق واستعدادها للتوقيع عليه، والمساهمة بكل ما هو متاح من أجل محاربة هذه الظاهرة المشينة، التي تضر بالأمن المجتمعي، وتخالف مقتضيات الشرع.
وأكد أن المكتب التنفيذي سيقدم اقتراحاته حول محاربة هذه الظاهرة، وسيواكب أرباب العمل من أجل تنفيذ بنود الميثاق الأسري، والتحسيس بأهميته.
كما عبر عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ محمد الحسن ولد الددو، أن ميثاق البناء الأسري الذي تواثق عليه بعض رجال الأعمال والنواب “سيكون خطوة مهمة إن كتب له النجاح نحو بناء مجتمع صالح”.
وأضاف الشيخ ولد الددو عبر تسجيل صوتي له، في 28 أغسطس، أنه "اطلع على الميثاق ورأى أن المجتمع يحتاج مثل هذا النوع من المبادرات التي ستسهم في تغيير عقلياته نحو الأفضل، خاصة أنه شاع فيه الكثير من العادات المخالفة للشرع، كالإسراف في المناسبات الاجتماعية وحتى التعازي والعقائق وغيرها.
وشدد على ضرورة أن تسهم النخبة في بناء عادات صالحة للمجتمع تحل محل عاداته السيئة.
مواقف رافضة
وقالت المدونة الدهمة ريم، إن المطلوب من رجال الأعمال هو تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل، دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الجهة، وليس التوسط في موضوع الزواج.
وأضافت الدهمة في منشور عبر فيسبوك، في 30 أغسطس 2024، إن الشباب يحتاج أولا لمبادرات تشبع مقومات يومه، كما يحتاج إلى مواجهة تغطرس المؤسسات والشركات وتغولها، واستنزافها للصفقات العمومية.
واسترسلت: "حيث مؤسسات النفوذ الوهمية هذه، ريعها لا يُستثمر في الدورة الاقتصادية المتجددة، ولا يعود بالنفع على المواطن العاطل، لأنه منفعة يجنيها شخص واحد عن طريق مؤسسة مُختلقة، لا تملك مقرا ولا محاسبة، ولا تُشغِّل كائنا، وحصادها سيذهب فورا في الفلل وقطعان المواشي والحلي والسياحة الناعمة..".
وخلصت الدهمة إلى أن "تصحيح هذا الخلل البنيوي، بتشييد مؤسسات على أسس سليمة، ستمتص البطالة، ودون تمييز..".
في الاتجاه نفسه، قال الناشط السياسي نور الدين احمدو، 27 أغسطس 2024، إن مبادرة الاتحاد جيدة، لكن الأجود لو أضاف إليها ميثاقا لمُحاربة إفساد الصفقات وتقويض المُنافسة الشريفة العادلة في السوق، ومحاربة الاحتكار وشراء الذمم بالمال السياسي المشبوه، ومنح العمولات وأخذها بالباطل على حساب الشعب وحكومته وجودة البُنى التحتية والخدمات.
واسترسل احمدو، ولو عمل الاتحاد على "مُحاربة استغلال الشباب وطاقات العمال مقابل رواتب زهيدة، واحترام قوانين ونُظم الشغل والتشغيل، ومُحاربة التهرب من الضرائب، والغش في السلع والبضائع، وتوريد المواد والأدوية المُضرة بحياة الناس… لكان ذلك أفضل".
أما النائب البرلماني المرتضى ولد اطفيل، فكتب على فيسبوك، في 30 أغسطس 2024، "الذي يحتاجه الشباب حقيقة ويريده من رجال الأعمال هو مبادرات التشغيل برواتب معقولة، وبعقود عمل دائمة، وتأمين صحي وضمان اجتماعي، وتسهيل القروض الحسنة، وتخفيض أسعار القطع الأرضية ومواد البناء".
وقال ولد أطفيل في تدوينات أخرى، إن مشاكل الشباب الحقيقية كثيرة، ومنها وجود مئات الشباب من خريجي كليات الطب والتمريض في حالة بطالة، ومئات حملة الدكتوراه من مختلف التخصصات عاطلين عن العمل..
وأردف، مشاكل الشباب تتلخص في غياب التكوين والبطالة والفقر وترك الدولة لهم على قارعة الطريق، مشددا أن البطالة هي من أخطر الأمراض الاقتصادية الاجتماعية في أي مجتمع، وينجم عنها الكثير من الآثار السلبية على المجتمع اقتصادية واجتماعية وسياسية.
في السياق ذاته، قال المحامي والناشط السياسي معمر محمد سالم، 29 أغسطس 2024، إن جهود رجال الأعمال يجب أن تنصب على نقل مؤسساتهم من محلات عائلية إلى مؤسسات قطاع خاص قوية، تستقطب الكفاءات وتمتص البطالة.
وأضاف محمد سالم، "ثم إن السعي للتربح يجب أن يكون سمحا، والاحتكار يجب أن يكون لمصلحة المستهلك صاحب الدخل الضعيف، وليس امتيازا وحظوة منحت لأصحابها من دون العالمين".
وخلص إلى أن "جهودهم في سبيل الحد من غلاء المهور، هي شنشنة في غير محلها، فليسوا هم من يتكفلون بدفعها وليسوا هم من تدفع لهم".
أما الصحفية خديجة سيدينا، فدعت في منشور عبر فيسبوك، 29 أغسطس 2024، اتحاد أرباب العمل إلى وضع ميثاق شرف لإتقان المشاريع والمسؤوليات، ولأجل المنافسة الحرة، واستيراد المواد الجيدة والأدوية المفيدة وتنمية القطاع الخاص ونبذ الاحتكار، وتشغيل العاطلين عن العمل.
وأضافت: "أما وقد عجزتم فلن يكون ميثاق الأسرة بديلا مقبولا".
قراءة نقدية
ويرى الباحث في الشأن الإعلامي والاجتماعي، عبد الباقي ولد محمد، أن "ميثاق البناء الأسري" خطوة مهمة في طريق ترشيد موارد الأسرة، وفي حال تطبيقه سيكون له الأثر الإيجابي في محاربة الفساد.
وذكر ولد محمد لـ"الاستقلال"، أنه اطلع على حجم الاختلاف بين مؤيدي ومعارضي المبادرة الجديدة التي أطلقها رجال الأعمال، معبرا عن استغرابه وتأسفه للحملة الشعواء التي قابل بها الكثير من المدونين هذه المبادرة.
ورأى أنه "من المفترض بنا جميعا أن نتلقف المبادرة بالتشجيع والتثمين، وأن يتبناها جميع قادة الفكر من كتاب وأدباء ومفكرين وأئمة ومدونين وغيرهم..".
وقال ولد محمد إن "هذا الميثاق يفترض أن يكون بلسما وعلاجا لنزيف غير منقطع، يتجذر في تصرفاتنا وسلوكنا ويسري داخل جهاز اقتصادنا الوطني، يوشك من بين أمور أخرى أن يفضي بوطننا ومجتمعنا -لا قدر الله- إلى الزوال والاضمحلال".
ونبه الناشط الاجتماعي إلى أن العديد من التقاليد يتم العمل بها من باب الضرورة الاجتماعية وليس عن قناعة بجدواها أو قيمتها على المستفيد أو على غيره.
كما انتقد عادات الزواج والمبالغة فيها، خاصة ارتفاع المهور وعادات تجهيز العروس وقريباتها ونساء أسرة العريس، والهدايات المقدمة، والتي هي عبارة عن ديون مسجلة وليست هدايا بمعناها المعروف.
وأضاف: "نحن -وللأسف- مجتمع مجبول على التقليد والتنافس الأعمى في المسلكيات الشاذة والغريبة، تحكمنا عدوى فساد متجذرة وعميقة في شتى مجالات حياتنا".
ورأى ولد محمد، أن "المتمعن في هذه الظاهرة السلبية والمتخلفة والفاسدة، يدرك بجلاء حجم الجهل والسذاجة والبداوة المتجذرة في العقلية الجماعية لمجتمعنا، بما في ذلك نخبتنا المثقفة".
ودعا إلى أن "جعل الميثاق منعرجا جماعيا لتغيير العادات السلبية، وتثمين مبادرة رجال الأعمال، بصرف النظر عن الغايات الذاتية منها، سواء أكانت صادقة أو للتمظهر والتفاخر".
أما الباحث الأكاديمي عبد الرحمن بن عثمان الشنقيطي، فينتقد البعد المادي في النظر لمؤسسة الزواج، مشددا على أن الأخيرة ليست جمعا بين رجل وامرأة، بل مؤسسة ذات مواثيق وعهود وطقوس، ولذلك وصف المولى تعالى رابط الزوجية بـ"الميثاق الغليظ".
وقال الشنقيطي لـ"الاستقلال"، إن أصحاب المبادرة كان الأحرى بهم تمويل مؤسسة تربوية إرشادية تحافظ على الروابط الأسرية التي يتفكك نسيجها كل يوم شيئا فشيئا، على غرار مؤسسات الإصلاح الاجتماعي في بعض الدول الخليجية، أو توظيف مرشدين في المحاكم وأماكن النزاع والخصام.
واسترسل: "ولا ضير عندي بل يستحسن حل بعض المشاكل بالمال، ومن طريف ما يؤثر في ذلك ما ينقل عن أبي المكارم الشيخ سيدي الكبير من أن رجلا جاء يشكو زوجته فسأله عن حالها، فذكر أن لها إبلا وبقرا وحميرا فأعطاه مثل ما عندها فصلح شأنهما".
وأما بخصوص ترشيد هذه المبادرة، يقول الشنقيطي، "فأقترح صرفها لأماكن الفطرة كالبوادي والأرياف لأناس بسطاء متعففين، وليكن طرفا العقد أقارب؛ لأن ذلك أدوم للزواج في ظل إشراف الأهل".
وعبرت الحكومة عن سعيها لمعالجة مشكلة "البذخ في المناسبات الاجتماعية"، وذلك إثر وضع البلاد خطة عمل وطنية للوقاية والتصدي لهذه الظاهرة التي عارضتها أصوات كثيرة على منصات التواصل.
وفي هذا الصدد، عقدت اللجنة الوزارية المكلفة بالتصدي لظاهرة "البذخ في المناسبات الاجتماعية"، اجتماعا ترأسه الوزير الأول حينها محمد ولد بلال مسعود، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خُصص لوضع خطوات عملية لمواجهة هذه الممارسات.
وترى أن ظاهرة البذخ في المناسبات الاجتماعية "خطيرة ودخيلة على منظومة قيمنا وأخلاقنا، ومنافية لتعاليم ومقتضيات الشرع"، وترى أن "تداول مثل هذه الممارسات من خلال وسائط التواصل الاجتماعي زاد منها".
وتكررت بموريتانيا دعوات عدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتخلي عن "إهدار الأموال" في المناسبات الاجتماعية، والتي تطورت إلى حملة تحت شعار "نعم للحد من غلاء المهور".
وتشير الحملة إلى أن "الإسراف" الذي أصبح طاغيا في مراسم الزفاف دفع الشباب إلى "العزوف عن تكوين أسر"، لعدم قدرتهم على توفير تلك المبالغ "الضخمة التي يتطلبها الزواج في بعض فئات المجتمع.
وقالت الناشطة في الحملة الداعية للحد من غلاء المهور، فنفونة بوبة جدو، آنذاك لموقع "أصوات مغاربية"، في 18 أكتوبر 2023، إن تكاليف حفل الزفاف تصل في الغالب إلى 5 ملايين أوقية قديمة أي ما يقارب (13 ألف دولار).
وذكرت المتحدثة، أن "غلاء المهور هو السبب الرئيس في عزوف الشباب عن تكوين أسر، لأن أغلب الشباب يعجز عن ذلك بسبب ضعف الإمكانات والشروط التعجيزية التي يضعها المجتمع".