خبير عسكري: السودان يواجه أكبر خطر منذ استقلاله و"الجزيرة" لا يمكن تجاوزها (خاص)

a year ago

12

طباعة

مشاركة

تتحدث تقارير عديدة عن أن وقوع مدينة "ودمدني"، عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، تحت سيطرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يخلط حسابات الحرب، ما قد يفتح الباب أمام احتمال سقوط البلاد بالكامل في قبضة هذه المليشيا المدعومة إماراتيا.

وفي هذا الإطار يؤكد الخبير العسكري والأمني السوداني عامر حسن عباس، أن سيطرة مليشيا الدعم السريع على "ودمدني" ستشل حركة الجيش السوداني، وستؤثر على اقتصاد البلاد الصناعي والزراعي، لكنها في الوقت ذاته أقنعت الشعب السوداني بضرورة المقاومة.

وفي حوار مع صحيفة "الاستقلال"، شرح عباس مصادر قوة مليشيا الدعم السريع، وفي مقدمتها الدعم الخارجي، لا سيما من الإمارات، وعرج على الدوافع الكامنة وراء دعم الأخيرة المتمردين على الدولة السودانية.

وأوضح عباس أن الإمارات ترى أن تفكيك بنية الدولة السودانية وخلق حالة من الفوضى تشبه الموجودة في اليمن وليبيا وسوريا، يسهل تحقيق طموحها في السيطرة على مرافق السودان بالبحر الأحمر، فضلا عن شراء مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة التي تم رفض مطالبها بالسيطرة عليها لسنوات.

كذلك شرح الخبير العسكري خريطة السيطرة والانتشار الميدانيين لكل من قوات الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع بمختلف الولايات، موضحا في الوقت ذاته الفروق بينهما. 

تطور مؤثر

في البداية كيف ترى هذا التطور الميداني على الأرض؟

لا شك أن دخول قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة في وسط السودان وعاصمتها مدينة "ودمدني" يعد تطورا لافتا وكبيرا في الحرب الدائرة منذ 15 أبريل/ نيسان 2023 في السودان. 

وقد بدأت هذه المعركة في مركز الدولة السودانية في العاصمة الخرطوم، ثم توالت الأحداث العسكرية لاحقا في الولايات المختلفة. 

وأبرز تجليات هذه الحرب كانت في ولايات دارفور الخمس، حيث شهدت ولاية غرب دارفور وعاصمتها مدينة الجنينة القريبة من الحدود التشادية، مذبحة كبيرة جدا على يد قوات الدعم السريع في مواجهة قبيلة المساليت، وهي المكون السكاني الأساسي.

ثم انتشرت هذه الحرب في مناطق دارفور المختلفة، وكذلك في مناطق ومدن مختلفة من ولاية شمال كردفان وعاصمتها الأبيض، التي شهدت أيضا قتالا رغم تمسك القوات المسلحة بمواقعها وبمقر رئاسة الفرقة العسكرية في مدينة الأبيض. 

إلا أن مدن ولاية شمال كردفان شهدت تحركات من الدعم السريع، أسفرت عن نهب أموال المواطنين والدخول إلى القرى والمدن الصغيرة والمتوسطة في الولاية. 

كل ذلك كان سابقا لأحداث ولاية الجزيرة وعاصمتها "ودمدني"، والتي أدت إلى سيطرة الدعم السريع على المدينة. 

ودخول الدعم السريع إلى "ودمدني" كان له أثر كبير، لأن مدينة "ودمدني" كانت قد أصبحت الملاذ الآمن لحوالي 4 ملايين نازح من ولاية الخرطوم.

وولاية الجزيرة في عمومها استقبلت حوالي 7 ملايين نازح، بحسب الإحصاءات الرسمية التي أعلن عنها والي ولاية الجزيرة قبل أسابيع. 

والعدد الأكبر من هؤلاء المواطنين كانوا موجودين في مدينة "ودمدني" بصفتها عاصمة الولاية، وبصفتها الحاضنة للمرافق الخدمية الكبيرة من مساجد ومدارس وجامعات وغيرها، والتي تحولت جميعها إلى مراكز لإيواء النازحين. 

كيف تتأثر الدولة السودانية بسيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة وعاصمتها؟

ستتأثر السودان بسبب النزوح الكبير للمواطنين من ولاية الجزيرة وعاصمتها "ودمدني" بعد توغل الدعم السريع في ولاية الجزيرة.

إلى جانب ذلك، ستتأثر الدولة السودانية بشكل كبير بعد سيطرة الدعم السريع على ولاية الجزيرة، حيث إنها تعد الرابط الرئيس لكل الطرق القومية التي تتحرك عليها إمدادات الغذاء والصحة وغيرها. 

كما أنها تعد هي الحاضنة الأساسية للاقتصاد السوداني، لأن بها مشروع الجزيرة؛ وهو المشروع الزراعي الأكبر في السودان، وبها كذلك رئاسة هذا المشروع. 

فضلا عن أن هذه الولاية تحوي ما لا يقل عن 20 بالمئة من قاعدة الصناعة في السودان.

فدخول الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة تطور كبير ومؤثر للغاية على بنية الدولة السودانية من النواحي العسكرية والسياسية والاجتماعية، وبالتأكيد من الناحية الاقتصادية.

فتحرك العربات والشاحنات التي تنقل الإمدادات لولاية سنار الملاصقة لولاية الجزيرة، وكذلك ولايات النيل الأزرق والنيل الأبيض وشمال كردفان وجنوب كردفان وغرب كرفان، التي يتواجد بها الجيش السوداني، كل هذه الولايات ستتأثر بسيطرة الدعم السريع على ولاية الجزيرة.

وذلك لأن جميع إمدادات الوقود والغذاء والدواء التي تتحرك من الميناء الرئيس في بورتسودان إلى هذه الولايات، يمر بطرق ولاية الجزيرة، وفي القلب منها "ودمدني" عاصمة الولاية.

وبالتالي، فإن دخول قوات الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة يعد حدثا كبيرا لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.

لكن في إطار هذه الحرب المستمرة، التي قاربت على الدخول إلى شهرها التاسع، لا بد من الالتفات إلى أن هذه الحرب لم تعد حربا داخلية تهم السودان، ولا ينبغي النظر إليها بوصفها  حرب تمرد لقوات الدعم السريع على الجيش السوداني فقط، لكنها أصبحت حربا ومهددا وجوديا لدولة السودان. 

لأن الدعم السريع يقاتل تحت لوائه الآن عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب من ليبيا وتشاد والنيجر ومالي وإفريقيا الوسطى. 

وهؤلاء موجودون وقادتهم ظهروا في الإعلام في مدن السودان المختلفة، وأعلنوا عملهم تحت قيادة الدعم السريع بقواتهم التي كانت تتواجد في الأزمة الليبية، وكانت تتواجد كذلك في حركات التمرد على الدولة التشادية، وكانت تتواجد كذلك في الأحداث العسكرية المختلفة في إفريقيا الوسطى. 

وبالتالي، أصبحت هذه الحرب العسكرية تهديدا وجوديا للسودان. ولم يعد الصراع مجرد صراع داخلي بين الجيش السوداني وبين قوة كانت تتبع لهذا الجيش وتمردت عليه. 

نسمع بين آن وآخر عن تقديرات مختلفة لأعداد المقاتلين المنضوين تحت مليشيا الدعم السريع. فما حقيقة الأمر؟

الأمر الرئيس الذي يسبب تباين هذه التقديرات هو اختلاف أعداد مقاتلي الدعم السريع بعد المعركة عما كان عليه الوضع قبل بدئها.

فعند بدء المعركة، كان تعداد مقاتلي الدعم السريع على الأرض السودانية حوالي 100 أو 110 آلاف مقاتل. وهذه هي الأرقام التقريبية التي وصلت للإعلام من الجهات الحكومية. 

لكن الذين انضموا للدعم السريع وقاتلوا معه بعد بداية هذه المعركة بدافع السلب والنهب والغنيمة من المدن السودانية المختلفة، يتجاوز حاليا الـ150 ألف مقاتل، وقد يصل إلى 200 ألف مقاتل، حسب تقديرات خبراء عسكريين ومراقبين محليين. 

وهذا العدد الكبير من الأفراد الذين التحقوا بهذا القتال كانوا يحتاجون إلى عتاد وتسليح وذخائر وإعاشة، إضافة إلى مقابل مالي لقتالهم. وكل ذلك يتوفر بإمداد خارجي يتواصل عبر حدود السودان المختلفة، تارة بالتهريب عبر تشاد، وبدعم من دولة الإمارات.

وكانت قد أعلنت الحكومة السودانية على لسان مساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ياسر العطا، أن الإمارات تساعد هذا التمرد بالذخيرة والعتاد، فيما تساعد تشاد هذا التمرد بتمرير هذه الأسلحة. 

وبالتالي، فإن تسليح وتجهيز هذه الأعداد الكبيرة التي انضمت بعد بداية القتال يؤكدان أنها حرب واسعة ووجودية، يواجه فيها السودان أكبر خطر منذ استقلاله عام 1956. 

مناطق السيطرة

كونك خبيرا في الشؤون العسكرية والأمنية.. هل بإمكانك توضيح خريطة السيطرة الميدانية الحالية لكل من الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع؟

النظر إلى أحداث ولاية الجزيرة التي دخلها الدعم السريع، يجعل الناس يتساءلون عن خارطة السيطرة العسكرية لكل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة.  

الواضح أن القوات المسلحة السودانية مازالت تحتفظ بمواقعها العسكرية الرئيسة في ولاية الخرطوم، وأقصد بذلك القيادة العامة، ومنطقة أم درمان العسكرية ورئاستها في سلاح المهندسين بجانب السلاح الطبي في مدينة أم درمان.

وتحتفظ كذلك بمنطقة كرري العسكرية ورئاستها في وادي سيدنا، ومطار وادي سيدنا، وتحتفظ أيضا بقيادة منطقة بحري العسكري ورئاستها في سلاح الإشارة في بحري.

ولها وحدات تابعة لها في الكدرو ومعسكر حطاب وغيره، وقد بقيت هذه المعسكرات موجودة وصامدة. 

إلى جانب سلاح المدرعات الذي يتواجد في جنوب مقر رئاسة القوات المسلحة والقيادة العامة بحوالي 8 كيلومترات في منطقة الشجرة العسكرية.  

هذه الوحدات لا زالت تقاتل لتسعة أشهر، ولم يستطع التمرد الدخول إليها، وخسرت مليشيا الدعم السريع غالب قواتها المحترفة المجندة بشكل رسمي في قتاله على هذه الوحدات.

من ناحية أخرى، استطاع الدعم السريع الدخول إلى مصنع اليرموك، وهو مصنع للتصنيع الحربي موجود في جنوب الخرطوم. 

وتمكن أخيرا الدخول إلى معسكر جبل أولياء، وهو يبعد حوالي 40 كيلو جنوب الخرطوم. إلى جانب معسكر آخر تابع للشرطة، وهو معسكر الاحتياطي المركزي المتواجد كذلك جنوب الخرطوم.  

ولعل من المهم هنا إيضاح مصطلحين مهمين لقراءة المشهد العسكري، وهما الانتشار والسيطرة. فهناك فارق بين المصطلحين رغم خلط البعض بينهما، ولكل منهما مدلوله الخاص.

فالانتشار -والذي هو الآن سمة قوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم وفي كثير من أماكن تواجدها في الولايات المختلفة- يعني وجود القوات العسكرية على أكبر رقعة جغرافية في المحيط. 

ففي ولاية الخرطوم، الانتشار الأكبر لقوات الدعم السريع لأنها متواجدة في منازل المواطنين، ومتواجدة في المراكز الحيوية للخدمات في محطات الكهرباء والطاقة، ومتواجدة في المستشفيات، ومتواجدة أيضا في المراكز الحساسة لتكرير النفط، وفي بيوت المواطنين والأحياء السكنية، لكنها ليست موجودة في معسكراتها المعروفة.  

حيث إن كل المعسكرات التابعة للدعم السريع في ولاية الخرطوم أو خارجها، استطاعت القوات المسلحة أن تحيد هذه المعسكرات؛ إما باحتلالها بالقوات كما حصل في معسكر سركاب أو معسكر كرري، والذي سُيطر عليه بعد تحييد ما لا يقل عن 4600 فرد يتبعون لقوات الدعم السريع، كما اعترف بذلك حميدتي، في أحد تصريحاته.

أما باقي المعسكرات التي لم تدخلها القوات المسلحة بنفسها، فاستطاعت أن تسيطر عليها بالنيران. والسيطرة بالنيران هي الأفضل والأقل كلفة، تعني أن تسيطر على المعسكر بالقوات الجوية أو بالمدفعية التي تضرب المعسكر.

وعليه، استطاعت القوات المسلحة تحييد قيادات الدعم السريع من كل معسكراتها.  

من حيث الانتشار، الدعم السريع ينتشر في الخرطوم على رقعة واسعة جدا. لكن من حيث السيطرة، فالقوات المسلحة تسيطر على معسكراتها، ولا تزال صامدة. 

وإذا ما طورت القوات المسلحة عمليتها الدفاعية في ولاية الخرطوم إلى عملية هجومية واستطاعت أن تطهر بقايا الدعم السريع في أحياء الخرطوم المختلفة، وتمكنت من السيطرة على مداخل ومخارج هذه المدن، يمكن حينها أن نقول إن القوات المسلحة في طريقها للانتصار في هذه المعركة والسيطرة على مركز الدولة في الخرطوم.  

وبالفعل، نرى الآن بوادر هذا التحرك العملياتي الذي يتحول من الدفاع إلى الهجوم من خلال تطوير استهداف قوات الدعم السريع داخل ولاية الخرطوم بالطيران المسير والمدفعية، وهناك نتائج واضحة لهذا الاستهداف. 

فهناك تحركات لقوات في مدن مختلفة تتحرك وتسيطر على مراكز مختلفة، وخاصة في مدينة أم درمان.  

وهذه الوتيرة رغم أنها ضعيفة حتى الآن، ولكن إذا ما وصلت إلى مدى غايتها العملياتية يمكن أن نقول إن القوات المسلحة بإمكانها استعادة انتشارها في ولاية الخرطوم، بجانب سيطرتها الموجودة على معسكراتها.  

وفي ولايات دارفور، يسيطر الدعم السريع على الولايات سيطرة كاملة، عدا مدينة الفاشر، لأن القوات المسلحة انسحبت من هذه المعسكرات. وبالتالي، تحوز قوات الدعم السريع الانتشار والسيطرة في دارفور. 

وفي ولاية الجزيرة، الدعم السريع هو المنتشر ويسيطر على مدينة "ودمدني". وتحتاج القوات المسلحة لعمل كبير جدا لاستعادة السيطرة والانتشار في ولاية الجزيرة.  

انتصار غير حقيقي

تتحدث عن انتشار واسع للدعم السريع في ولايات السودان المختلفة، لكنك تنفي في ذات الوقت سيطرته الميدانية. فما انعكاسات هذا الانتشار على سير الحرب؟

رغم أن هذا الانتشار الكبير والتحرك في مساحات واسعة للدعم السريع يظهر كانتصار بالنسبة لها، إلا أنه يوفر فرصة كبيرة جدا للقوات المسلحة السودانية في ضرب هذه القوات المتمردة.

لأن الانتشار على رقعة جغرافية واسعة يضعف قوات الدعم السريع في مواجهة القوات المسلحة، وهذا من باب الرؤية العسكرية الأكاديمية البحتة، وليس من باب الأحاديث الإعلامية.

أما من الناحية الإعلامية، فلا شك أن الانتشار الواسع لقوات الدعم  السريع أحبط الروح المعنوية للشعب السوداني، وجعل السودانيين يتساءلون عن دور قيادة القوات المسلحة في صد هذا التحرك الواسع لقوات الدعم السريع خاصة في ولاية الجزيرة.

و هذا الانتقاد الكبير والواسع لقيادة القوات المسلحة، وجه سهامه كلها تجاه الفريق البرهان، لأنه لم يقم بالإجراءات التي تساعد القوات المسلحة في القتال، مثل تكوين حكومة كفاءات تعمل على استجلاب السلاح من الأصدقاء وتقيم علاقات دولية، لتساهم في صد وإبطال هذا المخطط الكبير الذي يتجاوز السودان بحجمه. 

وكذلك لم يستعد لإدخال المواطنين في منظومة القتال والدفاع عن السودان في هذه المعركة التي سميت "معركة الكرامة" بشكل رسمي، وذلك بتأخير تسليح المواطنين الذين استنفروا وتدربوا في معسكرات الجيش في الولايات المختلفة لأكثر من أربعة شهور، ولم يتم تسليحهم، ما أدى إلى دخول هذه المليشيات على قرى و مدن فيها مواطنون عزل دون سلاح، وكان هذا هو الانتقاد الكبير للقيادة.

ورغم أن ذلك أضعف الثقة في قيادة القوات المسلحة السودانية، إلا أن الوحدات وأفراد وضباط الجيش مازالوا ينالون الثقة الكاملة من الشعب السوداني، ومازالت جماهير الشعب السوداني تقف خلفهم بدون أي تحفظات. 

ما الفوارق العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟ وما أثر هذه الفروقات على سير المعارك؟

عموما هناك قدرات للجيش السوداني لا تتوافر للدعم السريع، منها أن الجيش السوداني هو منظومة مكتملة؛ فيها القوات الجوية والقوات البحرية وقوات المشاة، وفيها كذلك الأسلحة الساندة من الدروع والمدفعية وغيرها. 

وهذا لا يتوفر للمليشيا التي تعتمد على القتال السريع على ظهر سيارات الدفع الرباعي وقوة الصدمة بكثافة النيران من الرشاشات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، وهذا النوع من القتال هو قتال غير متماثل. 

كما أن هذا النوع من القتال يتعب القوات النظامية كالجيش في مواجهة القوات المتمردة التي تقاتل قتالا خفيفا وتستهدف الأعيان المدنية وتحتمي بها.

فبالتالي تصعب المهمة على القوات النظامية التي تلتزم بأخلاقيات الحرب. لكن قوات الدعم السريع لا تلتزم بأخلاقيات الحرب وتنتهك أعراض الناس وتحتمي في البيوت والمرافق العامة، ولذلك تصعب المهمة على القوات المسلحة.  

بعد تجاوز الشهر التاسع من الحرب، ما مصادر قوة مليشيا الدعم السريع، التي تجعلها قادرة على مواصلة الحرب وتحقيق ما يبدو أنه تقدمات ميدانية؟

أبرز مصادر قوة الدعم السريع في العمليات المختلفة هو الدعم الكبير غير المنقطع لإمداداته في العتاد من حيث التسليح والذخائر، ومن حيث المركبات التي تساعد على تحريك القوات بخفة في محاور مختلفة. 

إلى جانب توفر الإسناد المالي الذي يجعل قوات الدعم السريع تجند المزيد من المقاتلين من داخل وخارج السودان للقتال معها خارج منظومة التجنيد الرسمية لقوات الدعم السريع. 

فالنسبة الأكبر من الذين يقاتلون الآن في صفوف الدعم السريع هي مليشيات و أفراد جاءوا للقتال كمرتزقة، ولم يكونوا تابعين لقوات الدعم السريع بصورة نظامية قبل بداية هذه الحرب في إبريل 2023.  

والعدد الأكبر الذي انضم لهذه القوات هو العدد الذي جاء من خارج الحدود، وكذلك من بعض القبائل التي رأى أفرادها أن الدعم السريع يمثل حاضنة لهم، فتوافدوا للقتال بدافع السلب والنهب في المدن المختلفة. 

ولذا، استُبيحت كل البنوك، وجميع منازل المواطنين، ونُهبت ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. وبالتالي فإن أحد أبرز الدوافع وراء قتال هؤلاء المرتزقة هو المقابل المادي الذي يُدفع لهم، أو المقابل المادي الذي يحوزونه نتيجة لعمليات السلب والنهب الواسعة. 

ولا شك أن سلوك هذه المليشيا هو سلوك خارج أخلاقيات القتال، حيث يقوم هذا السلوك بترويع المواطنين وطردهم من منازلهم، وعلى الولوغ في أعراض المواطنين.

وهذا السلوك قريب من ممارسات الحروب السابقة في السودان، الذي شهد عددا من حركات التمرد التي كانت تقاتل لأسباب مطلبية، ولكن قوات الدعم السريع تجاوزت الآن كل أخلاقيات القتال وفقا للعرف السوداني، أو حتى بمنطق قوانين الحرب.  

فبالتالي هذا النوع من السلوك شكل صدمة للمواطن السوداني، وجعله يهرب من أي مكان تتواجد فيه هذه المليشيا. 

وبالرغم من أن ذلك يمثل بالطبع نقطة ضعف أخلاقية، إلا أنها قد تمثل -في ذات الوقت- نقطة قوة عسكرية لهذه المليشيا التي لا تراعي الأخلاق، ولا هدف لها سوى الوصول إلى أموال الناس، والتحرك في مساحات واسعة للظهور وكأنها تسيطر على مدن وولايات السودان المختلفة.  

وبالتالي، قوات الدعم السريع تستمد قوتها من الدعم اللامحدود الذي يأتي من خارج الحدود، وتستمد قوتها من تتابع القوى البشرية التي تأتي للقتال معها بدافع السلب والنهب.

وكذلك بدافع الآصرة القبلية. هذا إلى جانب استفادتها من تجاوزها لأخلاق الحرب في ترويع المواطنين، وبالتالي تستطيع أن تتحرك وتنهب القرى التي ينزح منها المواطنون قبل وصول الدعم السريع. 

رفض شعبي

هذا الانتشار الذي تتحدث عنه للدعم السريع، وكذلك التجاوزات الأخلاقية بحق المواطنين، ما أثرها على الشعب السوداني؟

لعل من المهم هنا الإشارة إلى أن دخول هذه المليشيا إلى ولاية الجزيرة أنتج حسا وطنيا وشعبيا كبيرا بضرورة مقاومتها بإسناد القوات المسلحة وبتسليح المواطنين وبتحركهم، فرأينا تحرك القبائل والمواطنين في مناطق مختلفة واتجاههم لحيازة السلاح. 

وكانت أكبر نتائج هذه الهبة في ولاية شمال كردفان، حيث طُهرت مدينة الأبيض بعملية واسعة قامت بها القوات الهجانة، وهي الفرقة المسؤولة عن شمال كردفان بجانب المواطنين الذين استنفروا أنفسهم للقتال بجانب القوات المسلحة فتم تطهير مدينة الأبيض من كل وجود لقوات الدعم السريع.  

كذلك توجد محاولات كبيرة و حثيثة للتسلح والتجهز في ولايات ومدن نهر النيل والشمال والقضارف وسنار والنيل الأبيض، وهذه الهبة الشعبية الكبيرة يمكن أن تؤتي أكلها وتثمر، إذا ما استُغلت هذه الأعداد الكبيرة للمواطنين عبر تجهيزهم بالسلاح، وتعيين القيادة التي تقودهم في مواقع القتال بواسطة القوات المسلحة.  

ومن المهم إعادة التأكيد على أن دخول المواطنين على خط المواجهة يعزز من قدرة السودان كدولة في مواجهة هذا المخطط الكبير الذي يبغي تهجير المواطن السوداني وإحداث تغيير ديموغرافي كبير عبر استجلاب عائلات هؤلاء المقاتلين من خلف الحدود، واستلام المدن السودانية.

وهذا المخطط أكبر من جمهورية السودان، وأكبر من الجيش السوداني. هذا المخطط يقاتل فيه الجيش السوداني لوحده دون أي مؤازرة من جيرانه الجغرافيين، ولا حتى من مكون السودان الإفريقي والعربي.  

هذه الحرب الكبيرة والتحدي الكبير يحتاج من الدول التي تجاور السودان أن تنظر لانعكاسات وارتدادات هذه المشكلة مستقبلا.

فمصر سيكون أمنها القومي في خطر كبير، إذا ما لا قدر الله انتصرت هذه المليشيا، وسيطرت على السودان. ولا نستبعد أن يمتد هذا السيناريو إلى جنوب مصر.

الدور الإماراتي

خلال حديثك عن مصادر قوة الدعم السريع، أشرت إلى الدور الإماراتي، فما علاقة المليشيا بأبوظبي؟

هناك لبس كبير جدا لدى كثير جدا من المتابعين لملفات المنطقة، بحكم أن القواسم المشتركة بين الإمارات والسودان أكبر من هذه الحرب. والتاريخ المشترك بين البلدين ينبئ بأن السودان قدم للإمارات خدمات كبيرة جدا وجليلة في بداياتها. 

حيث كان السودان أول دولة تعترف باتحاد الإمارات، والرئيس السوداني جعفر النميري هو أول رئيس عربي تقريبا هبط إلى الإمارات، مهنئا بقيام هذا الاتحاد. 

وكذلك شارك السودانيون بمختلف إمكاناتهم ومناصبهم في ترتيب أوضاع الدولة الإماراتية في بداياتها وتأسيسها، من حيث التشريع والقانون، ومن حيث الهياكل الإدارية المختلفة. 

وكانت العلاقة الممتدة بين الدولتين جيدة ومتميزة للغاية، ليس فيها ما يشوبها الآن من توتر، سواء من الناحية الرسمية الحكومية أو من الناحية الشعبية.

ولبيان علاقة الإمارات بمليشيا حميدتي، نحتاج إلى العودة قليلا إلى الوراء.

حيث إن الحرب التي بدأت في السودان كان لها ترتيب سابق، فقد ضوعفت قوات الدعم السريع، التي أنشئت عام 2013 لتساند القوات المسلحة في مسارح العمليات المختلفة.

وقد تضخمت هذه القوة بشكل كبير، حيث تضاعفت أعدادها من 20,000 مقاتل إلى 120,000 مقاتل، وذلك كله حدث في الفترة ما بين رحيل الرئيس السابق عمر البشير، وحتى تاريخ انطلاق الحرب في إبريل 2023.

وهذا التضخم الكبير في القوات يحتاج إلى تكاليف كبيرة و يحتاج إلى عتاد، ويحتاج إلى عربات وغيرها، وهذه الإمكانات أكبر بكثير من إمكانات الدعم السريع، بل وأكبر من إمكانات الدولة السودانية كذلك. 

وفي هذا الإطار، من الجيد الإشارة إلى أن علاقة الدعم السريع بالحرب في اليمن ووجودها هناك، جعل قيادة الدعم السريع تتواصل مباشرة مع بعض الدول العربية، لا سيما السعودية والإمارات.

وتمكنت الإمارات من تكوين علاقة خاصة مع قوات الدعم السريع، ومررت لها كثيرا من التجهيزات والعتاد، الأمر الذي جعلها، قبل الحرب، أكثر جهوزية واستعدادا من القوات المسلحة السودانية.

وما مصلحة الإمارات من دعم مليشيا الدعم السريع في هذه الحرب؟

عندما نأتي لدوافع الإمارات في هذه الحرب، نجد أن أغلبها متعلقة بالسيطرة على الموارد الاقتصادية الهامة في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر. 

كلنا نسمع بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي المبادرة التي تستهدف توسيع طرق التجارة في العالم، وتقوم هذه المبادرة على بناء قاعدة من البنية التحتية الصلبة في مجالات الاتصالات والنقل على مستوى العالم، وفتح أسواق جديدة، بتقدير أن الصين من الدول الكبيرة المنتجة التي تتوقف مصلحتها على استقرار السوق العالمي وتوسعه وتنوعه. 

وهذه المبادرة اتجهت إلى  إفريقيا منذ عام 2015، ووظفت الصين لذلك مبالغ مليارية كبيرة جدا، كلها موظفة للبنية التحتية في بناء المطارات، والسكك الحديدية، وفي تأهيل وتطوير الموانئ وغيرها. 

وتوسيع هذه المبادرة لطرق التجارة عبر إنشاء طرق بديلة ومتنوعة للتجارة، يؤثر بلا شك على المراكز التجارية التقليدية الموجودة في المنطقة، والتي من بينها دولة الإمارات، التي تعد المركز التجاري الأول في منطقة الخليج. 

ونجاح مبادرة الحزام والطريق، ودخول السودان فيها، وتأسيس بنية تحتية كبيرة فيه، وذلك بتقدير أنه بلد مؤهل لذلك، عبر ساحل طويل على البحر الأحمر، ولأنه مطل على دول الساحل والصحراء والدول غير الساحلية المنغلقة في داخل وسط إفريقيا، فبالتالي السودان هو معبر كبير جدا للتجارة.

إلى جانب الميزة الأساسية للسودان، وهي أنه بلد زراعي منتج ولديه مساحات كبيرة جدا يمكن أن تستغل في الإنتاج الزراعي الذي يشكل ندرته تهديدا وجوديا للبشرية في الأعوام القادمة مع التحول المناخي.  

ومن يقرأ هذه المبادرات الكبيرة للصين، ويقرأ التحديات الاقتصادية، يعلم أن هناك احتياجا حقيقيا لدى الإمارات بأن يكون لديها وجود اقتصادي في المراكز الجديدة التي سوف تنمو في البحر الأحمر ووسط إفريقيا.

ولذلك سعت الإمارات للحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر، وسعت للدخول في شراكات لإدارة الموانئ السودانية. وهو ما ووجه باعتراض شعبي كبير جدا منذ حكومة عمر البشير، ومن بعد ذلك كل الحكومات التي جاءت تحت الضغط الشعبي.

ولم تستطع أن توقع اتفاقا مع الإمارات لإدارة الموانئ الرئيسة، وعلى رأسها ميناء بورتسودان وميناء سواكن، وعدد من الموانئ الصغيرة الموجودة في البحر الأحمر. 

كذلك هناك الأراضي الزراعية الوافرة والتي تتوفر في مناطق شرق ووسط وغرب السودان، وهي مناطق زراعية تُروى بالأمطار الطبيعية. وأفضل هذه المناطق هي منطقة الفشقة التي حُررت بواسطة الجيش السوداني من السيطرة الإثيوبية. 

وقد قدمت الإمارات، بخصوص هذه المنطقة، مبادرة للاستثمار المشترك. وتقضي المبادرة بأن تتنازل السودان للإمارات عن الأرض عبر تأجيرها لها، ومن ثم تستجلب الإمارات العمالة الإثيوبية للعمل فيها، وكل ذلك بتمويل إماراتي.

وقد ووجه هذه المشروع كذلك باعتراض كبير، حيث وجدت الإمارات لدى الدولة السودانية والبنية الشعبية السودانية معارضة كبيرة لسيطرتها ودخولها في هذه البنية الاقتصادية المهمة من المشاريع التي يمكن من خلالها أن تتجاوز تأثيرات مبادرات الصين في توسيع طرق التجارة، والتي ستؤثر بدورها على موانئ دبي والإمارات تأثيرا كبيرا، وستنقل الثقل الاقتصادي والتجاري وحركة التجارة من منطقة الخليج إلى منطقة البحر الأحمر، و إلى منطقة وسط إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي عموما. 

كل هذه الأحلام الاقتصادية للإمارات اصطدمت بمعارضة شعبية سودانية، وكذلك اصطدمت بتردد حكومي في توقيع اتفاق مع الإمارات يمنحها امتياز هذه المرافق الاقتصادية المهمة.

ولذلك يعتقد كثير من المراقبين أن الإمارات ترى أن تفكيك بنية الدولة السودانية وإعادة ترتيب الداخل السوداني عبر إضعاف مؤسسة القوات المسلحة، وخلق حالة من الفوضى التي تشابه الحالة الموجودة في كل من اليمن وليبيا وسوريا، يمكن أن يخدم مصالحها.

وكلنا يعلم أن الإمارات لديها الآن مليشيا تقاتل بتمويل منها في اليمن (المجلس الانتقالي الجنوبي)، وتسيطر على مناطق واسعة من اليمن، وتدير الإمارات المشهد الاقتصادي هناك بشكل كامل بعيدا عن الحكومة الشرعية. وقد يكون المراد هو استنساخ هذه التجربة في السودان.