حقوقي مصري: تعديلات قانون الإجراءات الجنائية تكريس للقمع لا إصلاح للعدالة (خاص)

داود علي | منذ شهر واحد

12

طباعة

مشاركة

قال مدير مؤسسة عدالة لحقوق الإنسان الحقوقي المصري محمود جابر: "إن اعتراض رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، على ثماني مواد فقط من مشروع قانون الإجراءات الجنائية، يعكس رؤية جزئية للغاية، لا تقترب من جوهر الأزمة الكامنة في فلسفة القانون ذاته". 

في حوار مع “الاستقلال” أوضح جابر  أن "الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في بعض المواد التي تتعلق بالحبس الاحتياطي أو إجراءات الاستجواب دون حضور محامٍ، بل في مجمل البنية التشريعية التي تمنح السلطة التنفيذية اليد العليا وتوسع صلاحيات سلطات التحقيق على حساب ضمانات المحاكمة العادلة".

وعرض مشروع القانون على البرلمان في 28 سبتمبر/ أيلول 2025، فيما شملت اعتراضات السيسي مواد جوهرية تتعلق بحرمة المساكن، وتنظيم الحبس الاحتياطي، والإعلانات القضائية، واستجواب المتهمين في حالات الضرورة؛ إذ رأى أن المشروع لم يمنح النيابة العامة صلاحيات كافية مقارنة بما هو مقرر لمأموري الضبط القضائي، أي أجهزة الأمن بالأساس.

كما رفض النص الذي يقيد إمكانية إيداع المتهم في بعض القضايا دون أمر قضائي مسبب أو تحديد مدة قصوى للحبس، وهو ما يعد، وفق مختصين، محاولة لإبقاء الباب مفتوحا أمام الحبس المفتوح بلا محاكمة، تحت ذريعة ضرورات الأمن.

وأضاف جابر أن "التعديلات الشكلية التي يتحدثون عنها لن تعالج الثغرات الجوهرية، فنحن أمام نصوص تقيد حق الدفاع وعلنية المحاكمات". 

وتابع: "كما أنها تضفي حصانة ضمنية على ممارسات التعذيب، فضلا عن التوسع في مبررات الحبس الاحتياطي بمسوغات فضفاضة من قبيل الإخلال الجسيم بالنظام العام'".

وأكد مدير مؤسسة عدالة أن "أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يتم عبر قرارات فوقية أو مقترحات جزئية، بل يجب أن يبنى على حوار مجتمعي تشارك فيه منظمات المجتمع المدني ونقابات المحامين وخبراء القانون، لصياغة نصوص متوازنة تعيد التقدير لقرينة البراءة وتضمن المساواة بين الادعاء والدفاع".

وحذر من أن "تمرير مشروع القانون بصورته الحالية لن يكون تحديثا لمنظومة العدالة، بل مجرد تثبيت للسياسات القمعية التي دفعت آلاف المحتجزين تعسفيا إلى السجون المصرية على مدى سنوات".

ومحمود جابر، حقوقي مصري من مواليد 1975، تخرج في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، ونشط في المجال الحقوقي المصري، ويشغل حاليا منصب مدير مؤسسة عدالة لحقوق الإنسان (JHR ) والمتحدث الرسمي باسمها. 

وهي مؤسسة تُعرّف نفسها بأنها حقوقية مستقلة غير حكومية، لا تهدف إلى الربح، وتهتم بالشأن المصري، وهي في هذا تنطلق من الواجب المُلقى على عاتقها في وضع حالة حقوق الإنسان في مصر.

أسباب إعادة القانون

لماذا أعادت رئاسة النظام طرح مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب الآن؟

منذ اللحظة الأولى لخروج المشروع للعلن وهو محمل بملاحظات دستورية وقانونية على صياغة عدد من مواده، وهو ما أثار بطبيعة الحال ضغوطا حقوقية داخلية وأخرى دولية. 

وبالتالي، فإن قرار إعادته إلى البرلمان لا يمكن فصله عن محاولة النظام احتواء هذه الانتقادات داخليا وخارجيا قبل تمريره بشكل نهائي.

صحيح أن الدستور يمنح رئيس الجمهورية الحق في رد القوانين خلال ثلاثين يوما من تاريخ تسلمها، وربما كانت هناك بالفعل مخاوف دستورية حقيقية، لكن لا يمكن تجاهل أن الدوافع السياسية حاضرة بقوة، خصوصا في ظل التوترات الحقوقية والضغوط الأوروبية والأميركية المتزايدة. 

بل إنني أرى أن البعد السياسي يطغى على أي بعد قانوني، خاصة أننا نتعامل مع نظام لم يلتزم في الأساس بتطبيق القانون أو احترام الدستور.

هل ترون أن هذه الخطوة جيدة وسيكون لها ما بعدها فيما يتعلق بالملف الحقوقي المتدهور؟ 

إذا استُغِلّت الخطوة بشكل جاد، لا شك فإنها قد تشكل بداية لتحسين الملف الحقوقي في مصر، لكن إذا كانت مجرد تعديلات شكلية فلن يكون لها أي أثر على أرض الواقع. 

وبالنظر إلى السياق الحقوقي الحالي، من المرجح أن يبقى التقدير السياسي هو الغالب، وأن يمرر القانون بصياغات متحفظة دون أن يترتب على ذلك أي تغيير في الممارسات القمعية القائمة.

لكن الأكثر أهمية، هو أن ندرك أن النظام نفسه أصل الأزمة؛ فهو من صاغ القانون، وهو من يعيد تعديله، ويرسخه أو يعيده للبرلمان، وبالتالي فنحن أمام حالة عوار كامل. 

مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يفترض أنه الضمانة الأساسية لأي عدالة حقيقية، يعاني من خلل عميق؛ إذ تطغى السلطة التنفيذية على التشريعية بشكل فجّ، ما يُحوّل كل هذه الإجراءات إلى مسرحية لا علاقة لها بإصلاح حقيقي للعدالة أو للملف الحقوقي.

مواد مفخخة

أي المواد في مسودة القانون تراها الأكثر خطورة على حقوق المواطن ولماذا؟

أخطر ما في مشروع قانون الإجراءات الجنائية هو المواد المرتبطة بالحبس الاحتياطي؛ لأنها تمس جوهر ضمانات المحاكمة العادلة. 

أي نص يسمح بالحبس الاحتياطي طويل الأمد، أو مصادرة الممتلكات، أو التتبع، أو منع السفر، أو المحاكمات عن بُعد دون رقابة قضائية صارمة، يتحول عمليا إلى أداة لانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين.

نحن نتحدث عن أكثر من 540 مادة تحمل كوارث حقيقية، تبدأ من التوسع في القيود على الحريات وزيادة القمع بحق المعتقلين، وصولا إلى إجراءات تمس طبيعة القضاء الطبيعي نفسه.

وذلك مثل حرمان المتهم من المثول أمام المحكمة، والاكتفاء بمحاكمات افتراضية عبر الإنترنت؛ حيث يجلس القاضي خلف شاشة والمتهم ومحاموه داخل أسوار السجن.

هذا وحده يمثل تقويضا صريحا لفكرة العدالة، ويهدم مبدأ علنية المحاكمات وحق الدفاع.

والأخطر أن القانون يمنح النيابة العسكرية صلاحيات مساوية للنيابة المدنية، وهو ما يعني عسكرة القضاء وتوسيع نفوذ الجيش داخل المنظومة القضائية.

وهذا فضلا عن إطلاق يد النيابة العامة والشرطة في اقتحام البيوت وتفتيشها دون إذن قضائي، وهو أمر يناقض أبسط الضمانات الدستورية.

وبمنح النيابة مثل هذه الصلاحيات الواسعة، يصبح دور القضاء في الرقابة على التحقيقات شكليا وضعيفا، ما يخلّ بالتوازن بين السلطات، ويحول النيابة إلى جهة أقرب للسلطة التنفيذية منها إلى جهاز قضائي مستقل.

في النهاية، نحن أمام منظومة تقنن القمع وتجهض أي فرصة لقيام محاكمة عادلة في مصر.

الضبطية القضائية

ما رؤيتكم للتعامل مع بنود توسيع الضبطية القضائية ومنح ضباط وأطراف جديدة صلاحيات ضبط قد تستغل للتعسف؟

إذا كان النظام جادا في أي إصلاح حقيقي؛ فالأمر يبدأ أولا بتحديد الجهات المخولة بمباشرة سلطات الضبط القضائي بشكل دقيق، وربط تلك الصلاحيات برقابة قضائية مباشرة وفعّالة، مع منع منحها لضباط أو جهات لا تخضع للسلطة القضائية.

فغياب هذا الضبط يفتح الباب واسعا أمام تجاوزات وانتهاكات بلا رقيب.

الأولوية الثانية هي تفعيل رقابة النائب العام ووكلائه على السجون ومقرات الاحتجاز، وهو أمر يكاد يكون غائبا تماما في مصر، رغم أنه من أبسط الضمانات في أي نظام قضائي يحترم نفسه.

ويجب أن يلزم القانون النيابة العامة بزيارات مفاجئة ودورية، مع إلزام إدارات السجون بتقديم تقارير شفافة عن أوضاع المحتجزين.

كما ينبغي إدخال أدوات رقابية تقنية معروفة على مستوى العالم، مثل تركيب كاميرات مراقبة في أماكن الاحتجاز، وتسجيل التحقيقات بالصوت والصورة بشكل كامل، بحيث لا تترك فرصة لأي تجاوز أو تعذيب أو ضغوط على المتهمين بعيدا عن أعين القضاء.

هذه الآليات معمول بها في العديد من الدول ولا تتطلب تعديلات تشريعية كبرى، بل إرادة سياسية فقط.

إلى جانب ذلك، يجب أن يمنح المجلس القومي لحقوق الإنسان صلاحيات رقابية ميدانية فعلية، لا شكلية، على أماكن الاحتجاز والسجون.

والأكثر أهمية هو أن يفتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني المستقلة، والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، لممارسة دورها كمراقب وضامن حقيقي.

فهذه المؤسسات ليست خصما للدولة بل شريكا في ضمان العدالة والشفافية.

وأخيرا، لا يمكن الحديث عن إصلاح عدالة أو منظومة قانونية متوازنة دون تفعيل مبدأ المحاسبة ومنع الإفلات من العقاب. 

وما لم يحاسب المتورطون في الانتهاكات، فستظل كل التعديلات مجرد حبر على ورق، وستبقى الانتهاكات تتكرر بلا نهاية.

الاحتفاء الإعلامي

كيف تفسرون الاحتفاء الإعلامي والحقوقي (المحسوب على الدولة) بمشروع القانون في بدايته؟

هذا يعيدنا إلى النقطة الجوهرية، هل قرار إعادة قانون الإجراءات الجنائية للبرلمان كان بدافع قانوني حقيقي أم سياسي بحت؟ في تقديري، الغالب هو الدافع السياسي. 

فالاحتفاء الإعلامي والبرلماني الذي رافق الخطوة لم يكن سوى محاولة لإظهار أن الدولة بصدد تنفيذ إصلاحات قانونية، في وقت تتعرض فيه لضغوط خارجية وحقوقية متزايدة. 

لكن الحقيقة أن شيئا جوهريا لن يتغير على الأرض، ونستند في ذلك مثلا إلى تصريحات رئيس مجلس النواب، حنفي جبالي، في أبريل/ نيسان 2025، بعد إقرار القانون لأول مرة.

فقد خرج ليقول: إن البرلمان "أصدر تشريعا حديثا يليق بمكانة مصر وطموحات شعبها"، ورافق ذلك موجة احتفاء إعلامي ضخمة.

ثم، وبعد 5 أشهر، عندما أعاد السيسي القانون إلى البرلمان في سبتمبر، خرج الرجل ذاته ليقول: إن قرار الرئيس “يعكس الحرص على أن يكون التشريع قائما على أسس متينة من الوضوح والإحكام، من دون أن تتغلب مقتضيات العدالة الناجزة على ضمانات الحرية”، ورافق ذلك أيضا موجة جديدة من الاحتفاء.

كيف يمكن تفسير تناقض مجلس النواب وسيره مع التيار السلطوي في مصر؟

هذا التناقض الصارخ يلخص طبيعة المشهد السياسي والتشريعي في مصر؛ فنحن أمام برلمان يدور في فلك السلطة، تماما كما نقول "عاش الملك مات الملك". 

بمعنى أن المواقف لا تبنى على تقييم قانوني مستقل أو رقابة حقيقية، بل على ما يريده رأس السلطة التنفيذية. 

وبالتالي، فالحديث عن إصلاح قانوني جاد يظل وهما، ما دام النظام هو من يضع القانون، وهو من يعيده، وهو من يحتفي به، بينما تغيب المؤسسات المستقلة تماما عن أي دور مؤثر.

أين الحل؟ 

برأيكم، هل سيكتفي البرلمان بتعديلات شكلية أم سيتجرأ على إجراء تعديل جوهري يحترم الدستور وحقوق الإنسان؟

الاحتمال الأكبر أن نشهد تعديلات شكلية فقط، إلا إذا وجدت ضغوط شعبية أو تدخلات قوية من جهات دولية وقضائية وحقوقية مستقلة، تستطيع أن تفرض تغييرات حقيقية. 

أما السيناريو المتوقع فهو إعادة إحالة اعتراض الرئيس إلى اللجنة العامة بمجلس النواب، والتي تضم رؤساء اللجان النوعية وهيئات الأحزاب، لدراسة المواد محل الاعتراض، ثم إعداد تقرير سريع لعرضه على الجلسة العامة.

لكن جوهر الأزمة يظل في طريقة التعاطي مع القانون ذاته، فإقراره بعد الاعتراض يستلزم موافقة ثلثي عدد النواب، وبعد تشكيل لجنة خاصة لإعادة دراسته وصياغة بعض النصوص، سيعرض مرة أخرى وكأن هناك مسارا تشريعيا طبيعيا. 

في الحقيقة، نحن أمام ما يسمى بـ"الدستور الأصغر"، أي الترجمة العملية لأحكام الدستور في مجال الحقوق والحريات، لكن بصياغات فضفاضة ومطاطية تفتح الباب لانتهاكات واسعة.

خذ مثلا النصوص التي تسمح باستجواب المتهم في غياب محاميه بذريعة الضرورة والاستعجال، هذه ليست ضمانة عدالة، بل ثغرة قانونية خطيرة تشرعن تجاوز أبسط حقوق الدفاع. 

لذلك، لا أرى أن هناك إرادة حقيقية للإصلاح، بل محاولة لإخراج القانون في صورة أكثر قبولا شكليا أمام الداخل والخارج، بينما يظل محتواه مصمما لتقييد الحريات وتوسيع سلطات الدولة على حساب حقوق الأفراد.

أخيرا، كيف يمكن الحكم على أي تعديل جديد للقانون على أنه إصلاح حقيقي؟

أولا، يجب أن نؤكد أن قانون الإجراءات الجنائية، من أخطر وأهم القوانين في أي دولة؛ لأنه يمثل صمام الأمان الحقيقي للمحاكمات العادلة. 

تجاوزه أو صياغته بشكل معيب يعني عمليا هدم منظومة التقاضي من أساسها؛ لأنه القانون الذي ينظم كل ما يتعلق بحق الدفاع والاحتجاز والتحقيق والمحاكمة.

من ثم، فإن أي إصلاح جاد يجب أن ينطلق من احترام الحقوق الدستورية للمواطنين وضمان محاكمات عادلة وشفافة، وإشراك منظمات المجتمع المدني المستقلة، ونقابات المحامين، وخبراء القانون في صياغة النصوص.

ولا بد أن يكون القانون منسجما مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وليس مجرد غطاء قانوني لممارسات قمعية.

لكن للأسف، الواقع يقول غير ذلك، لدينا عشرات الآلاف من المعتقلين يقبعون في السجون منذ سنوات طويلة بلا محاكمات عادلة أو إجراءات تقاض طبيعية، بل هم رهائن لانتقام سياسي مستمر منذ عقود.

في كل شهر تصلنا في مؤسسة عدالة رسائل من داخل السجون، مثل سجن بدر 3، تصف أوضاعا مروعة، حرمان من الرعاية الصحية، عزل مطول، وتعذيب نفسي وجسدي، حتى إن كثيرا من المعتقلين مهددون بالموت في أي لحظة.

هذه الوقائع وحدها تمثل أبلغ دليل على أن النظام لا يسعى لحل الأزمة الحقوقية، لا عبر تعديلات قانون الإجراءات الجنائية ولا غيرها؛ وذلك لأن من صاغ القانون هو ذاته من ينفذ هذه السياسات، ومن يملك السلطة لتعديله أو إعادته هو ذاته من يرسخ منظومة القمع.

لذلك، ما لم يكن هناك تغيير جذري يضمن استقلال القضاء، ويعيد التوازن بين السلطات، ويوقف الانتقام السياسي، فستظل أي تعديلات مجرد شكل بلا مضمون.