"قرن تركيا".. هل يدشن فوز أردوغان جمهورية المئوية الثانية ومرحلة ما بعد أتاتورك؟

12

طباعة

مشاركة

مفارقات عدة لاختيار يوم 28 مايو/أيار 2023 لجولة الإعادة للانتخابات الرئاسية التركية، والتي تتوقع تحليلات عدة أن يحسمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لصالحه.

ويخوض الجولة الثانية أردوغان في مواجهة مرشح تحالف الأمة المعارض كمال كليتشدار أوغلو بعد عدم حسم الانتخابات في 14 مايو.

وحصل أردوغان في الجولة الأولى على 49.51 بالمئة من أصوات الناخبين، بينما حصل كليتشدار أوغلو على 44.88 بالمئة.

قصة "قرن تركيا"

ومن المفارقات أن الجولة الثانية سيسبقها الذكرى السنوية الـ 63 لأول انقلاب عسكري على الديمقراطية شهدته تركيا في 27 مايو 1960، ما يحمل دلالات الانتصار أيضا على الانقلابيين.

كما يليها في اليوم التالي 29 مايو 2023 ذكرى فتح القسطنطينية (إسطنبول حاليا) عام 1453م، والتي تحمل دلالات الفخر والفتح الإسلامي وعودة البلاد لجذروها الإسلامية في عهد أردوغان، كما يقول أنصاره عبر مواقع التواصل.

لذا عدها أردوغان، في تصريحات له 16 مايو 2023، بمثابة بشرى لـ "رؤية قرن تركيا"، أو "مئوية تركيا"، وهي رؤية أعلنها في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وتتضمن برامج وأهداف الجمهورية الثانية له.

فما هي هذه الرؤية؟ وهل فوز أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) في انتخابات 2023 وهزيمة المشروع الغربي الساعي لإسقاط حكمه، سيكون حافزا على السير في تطبيق هذه الرؤية للاستقلال الذاتي؟

في 28 أكتوبر 2022، كشف الرئيس أردوغان عما أسماه "رؤية قرن تركيا" لحزبه، والمتعلقة بالبرامج وأهداف الجمهورية في مئويتها الجديدة، وفق وكالة "الأناضول".

أكد أن من الأهداف الأولى لرؤية "قرن تركيا" إكساب البلاد دستورا جديدا يكون نتاج الإرادة الوطنية، و"جعل بلادنا واحدة من أكبر عشر دول في العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والدبلوماسية".

أردوغان وصف "قرن تركيا" بأنه "استبدال سياسة الهوية بسياسة الوحدة، والاستقطاب بالتكامل، والإنكار بالاحتضان، والهيمنة بالحرية، والكره بالمحبة".

ولفت إلى أن "قرن تركيا" هو اسم بداية جديدة للجمع بين الأعمال الحقيقية بقبول صادق، ووضع القيم الإنسانية قبل التعصب الأيديولوجي، وتفضيل الحق على التعصب، وإظهار الحقيقة للذين يديرون ظهورهم لها.

وقد أجمل أردوغان هذه الرؤية في 16 بندا تعد سمات المئوية أو القرن الثاني.

وهي: "قرن القيم" لإثراء قيم تركيا العريقة ونقلها إلى الأجيال القادمة، و"قرن الاستدامة" لنظام بيئي يواكب مسير العالم.

و"قرن السلام"، لتحقيق الاستقرار في منطقتها الجغرافية والعالم انطلاقا من مفهوم "العالم أكبر من خمسة"، في إشارة لرفض هيمنة الدول الخمس الكبرى على مجلس الأمن.

و"قرن الإنتاج" بهدف بلوغ حجم تجارة تركيا الخارجية تريليون دولار، والعائدات السياحية 100 مليار دولار، والمنافسة في كل المجالات من الصناعة إلى الزراعة وتحويل البلاد إلى مركز إنتاج وتوريد عالمي.

و"قرن العلم"، من خلال دعم الأبحاث العلمية، ودخول 10 جامعات تركية على الأقل في الترتيب العالمي لأول 500 جامعة في العالم.

و"قرن النجاح" أي أن تكون تركيا هي "الأولى" و"الأفضل" والملهمة في جميع أنحاء العالم، و"القرن الرقمي"، برفع البلاد إلى أعلى مستوى في كل مجالات التكنولوجيا.

و"قرن الكفاءة"، بزيادة الإنتاج والصادرات والمساهمة في ثورة التنمية الخضراء وفق مبادئ الكفاءة، و"قرن التنمية" بتحقيق قفزات في الاقتصاد الوطني.

و"قرن المستقبل"، بالمشاريع الجديدة التي ستحققها تركيا، و"قرن الاستقرار"، من أجل مواصلة بناء المشاريع وتوفير الخدمات لبناء المستقبل.

و"قرن الرخاء" بتحقيق خطط الأمن القومي والنجاح رغم موقع تركيا الجيوسياسي الصعب، و"قرن الرأفة" بتوفير الخدمات للمواطنين والدعم الاجتماعي.

و"قرن الاتصال"، برسم خريطة للابتكار في تكنولوجيا المعلومات والأمن وإستراتيجيات العلاقات الدولية.

و"قرن أصحاب الحق"، بإجراء تعديلات من شأنها صون حق، وحقوق ومستقبل كل فرد. وأخيرا "قرن القوة"، بمواصلة صعود تركيا سياسيا واقتصاديا على الصعيد الدولي.

رسائل ودلالات

ويقول الخبير في الشؤون التركية "سعيد الحاج" لموقع "الجزيرة" 13 نوفمبر/تشرين ثان 2023 إن أردوغان حين قدم هذه الرؤية عن قرن تركيا "أراد إرسال رسالة ثقة بأنه متأكد من الفوز في الانتخابات".

كما حرص على إرسال رسالة ضمنية بأن حزبه هو الوحيد الذي يملك رؤية بعيدة المدى للبلاد، على عكس المعارضة التي يتهمها بـ"عدم النظر أبعد من الأنف".

أوضح أيضا أن إشارة أردوغان إلى قرن تركيا تذكّر بمصطلح "الجمهورية الثانية" الذي يحيل إلى فكرة أن مصطفى كمال أتاتورك أسس الجمهورية الأولى عام 1923 على أسس معينة.

بينما أردوغان سيؤسس الثانية بدءا من العام الـ 100 من عمر الجمهورية، وفق أسس ومبادئ مختلفة.

الأمر ذاته أشار له الكاتب التونسي "محمد بشير ساسي" في مقال بموقع "بوابة تونس" 11 مايو 2023.

أكد أن أردوغان حرص خلال افتتاحه العديد من المشروعات قبل الانتخابات، وخاصة في مجال الصناعات الدفاعية على توصيل رسالة للشعب التركي، بأن "ما تم القيام به هو ضمان لما سيُفعل في المستقبل".

وكذا توليد انطباع مباشر بأن المسار الموجود الآن "هو طريق لا يُمكن لتركيا العودة عنه"، وهو الذي يصلح في هذه الفترة.

قال إن "أردوغان لعب بمهارة سياسية ورقة الصناعات الدفاعية من أجل تتويج مسيرة حكمه الممتدة لنحو 21 عاما بانتصار جديد يُبقيه في السلطة".

لفت إلى أن الملف الأبرز الذي تصدر أولويات رؤية حزبه العدالة والتنمية للمئة عام المقبلة تحت عنوان "قرن تركيا" في نوفمبر 2022 هو نقل رسالة بأنه إن كانت المئوية الأولى هي مئوية الاستقلال، فلتكن الثانية مئوية المستقبل".

وهي إشارة واضحة إلى تأكيد الارتباط بين مسار التقدم التركي بشخصية أردوغان وحقبة حزب العدالة والتنمية الحاكم.

وبين الكاتب ساسي أن أردوغان، رفع ميزانية الصناعات الدفاعية في بلاده إلى 75 مليار دولار، كما تمّت زيادة مخصصات البحث والتطوير لهذا المجال من 49 مليون دولار إلى 1.5 مليار دولار، وبلغ عدد مشاريع هذا القطاع 750 مشروعا.

كما تشير إعلانات الحكومة التركية إلى أن الاكتفاء الذاتي على صعيد الصناعات الدفاعية من الإنتاج المحلي بلغ نحو 80 بالمئة بعد أن كان دون 20 بالمئة.

وارتفعت قيمة صادرات الصناعات الدفاعية التركية من 248 مليون دولار إلى 4 مليارات و400 مليون دولار خلال عام 2022.

 ومن المتوقع أن تصل إلى 6 مليارات خلال العام 2023 بفضل امتلاك تركيا 7 شركات ضمن قائمة أفضل 100 شركة رائدة في مجال الصناعات الدفاعية، وفق قوله.

ويشير تحليل لهذه البنود العامة الـ 16 للكاتب سعيد الحاج نشره في موقع الجزيرة في نوفمبر 2022، إلى أن تركيا تستهدف تحقيق ثلاثة أمور عقب فوز أردوغان في الانتخابات هي: 

أولا: دستور مدني يحل مكان دستور 1982 المعمول به، إذ إن دستور 1982 (جرى تعديله عدة مرات آخرها 2017) وضعه جنرالات الجيش عقب انقلاب 1980.

إذ أشرف عليه الجنرال الانقلابي كنعان إيفيرين، الذي تولى مهمة تسيير شؤون تركيا عقب الانقلاب، ثم تولى إجراء انتخابات رئاسية مزورة أسفرت عن انتخابه رئيسا في نوفمبر 1982 بنسبة 90 بالمئة من الأصوات.

وعزز هذا الدستور، الذي صاغه العسكر، دور الجيش في الحياة المدنية بذريعة حماية الجمهورية والعلمانية في المادتين 35 و85 من الدستور التركي.

وأعطى حصانة لجنرالات الانقلاب من المحاكمة في المادة 15، وبعد مرور 30 عاما على هذا الحدث، تمكن حزب العدالة والتنمية من تعديل عشرات المواد من ذلك الدستور، بما فيها حصانة العسكر، لكنه ظل مرقعا.

فقد خضع دستور 1982 إلى 19 تعديلا منذ ذلك الوقت، 10 منها في عهد العدالة والتنمية، لذلك، قال أردوغان إن أولوية بلاده في المئوية المقبلة ينبغي أن تكون صياغة دستور جديد.

ثانيا: السعي لـ "تركيا الجديدة" أو "القوية" وهي فكرة حاضرة دائما في خطاب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بدلا من  نظيرتها "القديمة" الضعيفة وغير الفاعلة والمنشغلة بأزمات عديدة داخليا وخارجيا.

وهو ما عمل عليه أردوغان بتوفير كل عناصر القوة المادية من العلم والصناعة والصحة والسلاح وغير ذلك، وتحويل تركيا لدولة كبرى مؤثرة.

ثالثا: التركيز على فكرة التفوق الأخلاقي، وانتصار "صاحب الحق"، وليس "صاحب القوة" في القرن المقبل.

الغرب والانقلاب

كانت الانتخابات التي فاز فيها رئيس الوزراء التركي الراحل عدنان مندريس عام 1950 وفوزه بأغلبية ساحقة شكل على إثرها حكومة جديدة، أول هزيمة لحزب كمال أتاتورك الحاكم وقتها (حزب الشعب) ولهيمنته، لذا أخفى له الجنرالات شرا.

حينها حصل الحزب الديمقراطي، بزعامة مندريس، الذي انشق عن حزب أتاتورك، على 53 بالمئة في انتخابات شارك فيها 7 أحزاب، وحصد 416 مقعدا برلمانيا، بينما حصل حزب الشعب (نفس حزب كليتشدار أوغلوا الحالي) على 69 مقعدا.

كان من أهم إنجازات "مندريس" إعادة الأذان باللغة العربية، بعد أن ظل لسنوات يُرفع باللغة التركية، وتعظيمه التعليم الديني.

لذا واجه معارضة شديدة من الجناحين العسكري والمدني العلماني منذ بداية حكمه حتى الانقلاب عليه، بتهمة اعتزام قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

خلال انقلاب 27 مايو 1960، الذي نفذه عسكريون أتراك، جرى حل البرلمان وتعطيل العمل بالدستور، وإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس واثنين من وزرائه، وسجن مسؤولين آخرين، وتولي الجيش الحكم.

وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول 1960، بدأت محاكمات للمعتقلين في جزيرة "ياسي أدا"، وطالب الادعاء بإعدام 288 شخصا من إجمالي 592، وقررت المحكمة، في 15 سبتمبر/أيلول 1961، إعدام 15.

وكان في مقدمتهم مندريس ووزيرا الخارجية فاتح روشتو زورلو والمالية حسن بولاتكان، بينما خُفف الحكم على رئيس الجمهورية آنذاك جلال بايار بالسجن المؤبد لتقدمه في السن.

برغم أن تركيا أعادت التقدير لمندريس ورفيقيه عام 1990 بقرار من الرئيس تورغوت أوزال، الذي كان أول رئيس يصلي الجمعة علنا، فقد تولى أردوغان مهمة إعادة التقدير له وتكريمه عبر إحياء ذكراه سنويا.

أطلق عدة تصريحات في مناسبات مختلفة تشيد به وتنتقد الجنرالات الانقلابيين الذين قتلوه عمدا، وأكد أنه "لن يزول العار عمن أعدم مندريس (الجنرالات والعلمانيين) حتى بعد 600 عام"، وفق وكالة "الأناضول" 27 مايو 2022.

وأبدى أردوغان تفاؤله بحلول ذكرى تتويجه رئيسا لفترة جديدة في جولة الإعادة يوم 28 مايو مع ذكرى أول انقلاب، ليرسل إشارة للانقلابيين، ومعهم مرشح "حزب الشعب" أن مشروعهم قد هُزم. 

قال في تغريدة على حسابه في تويتر: "سنجعل يوم 28 مايو بأذن الله بشرى لرؤية قرن تركيا"، ووجه الشكر "لشعبنا الذي دعمنا وتحدى الدبابات من أجل هذه القضية".

وأوضح ناشطون أن حلول ذكرى فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، في اليوم الثاني لتتويج أردوغان، المتوقع، بالرئاسة الثانية، له دلالة أخرى بالانتصار على التيار العلماني والغرب، و"فتح جديد"، وفق وصفهم.

ولفتوا أن محمد الفاتح، فتح القسطنطينية 29 مايو 1453م، ورجب طيب أردوغان سيفتح إسطنبول 29 مايو 2023، بحسب قولهم.

يعترف كثير من الكتاب والصحف الغربية أن لدى أردوغان رؤية مختلفة لتركيا ذات أبعاد تنموية مهمة لذلك صدرت دعوات لمساندة أنقرة حتى ولو هزم الرئيس الحالي.

لكن هذه الدعوات هي في حقيقتها محاولة لحرف الرؤية، حال سقط أردوغان، بالتركيز على الجانب الاقتصادي منها الذي يهم مصلحة الغرب، دون جانبها الأيديولوجي.

صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية كتبت في 8 مايو 2023: "إذا هُزم أردوغان، يجب على الغرب مساعدة حكام تركيا (العلمانيين) على النجاح".

اعترفت بأن أردوغان بنى صناعات عدة في تركيا تهم أوروبا مثل السيارات والأثاث والإسمنت والأحذية وأجهزة التلفزيون وغيرها حتى إنه يمكن أن يطلق عليها "الصين الأوروبية"، وفق قولها.

ولكنها تحدثت عن كيفية دعم المعارضة التي ستستولي على هذه الإنجازات التي حققها أردوغان لو هُزم، وتنسبها لنفسها، ما يشكل اعترافا أن هناك رؤية قوية متقدمة وضعها الرئيس الحالي لتركيا، قد تفيد أوروبا، ويخشى الغرب أن تنهار لو هُزم.

قالت إن السؤال المهم هو: ما الذي يمكن أن تعنيه تركيا ما بعد أردوغان بالنسبة لاقتصاد النظام العالمي؟

وأكدت أنه "يمكن لتركيا التي جرى تنشيطها اقتصاديا أن تصبح شريكا مهما للغرب الذي يسعى إلى إعادة ضبط اعتماده على الصين".

أوضحت أن تركيا قوة إقليمية واقتصادية ولديها قاعدة صناعية ومناخ أعمال متطور، وعلى أعتاب أوروبا، وبالتالي يمكن أن يستفيد منها الغرب "إذا هُزم أردوغان".

الأمر ذاته، أي سعي الغرب للاستفادة من الجانب الاقتصادي الذي بناه أردوغان لرؤية قرن تركيا، أشار له تقرير نشره "معهد واشنطن" 11 مايو 2023.

وفي التقرير الذي جاء تحت عنوان: "حتى لو هُزم أردوغان، تبقى تركيا لقمة سائغة"، تحدث عن ضرورة تحرك الشركاء الغربيين وانتهاز الفرصة "للمساعدة في توجيه أنقرة ما بعد الرئيس الحالي في الاتجاه الصحيح"، أي التوجه الذي يخدمهم لا الاستقلال الذاتي.

أوضح أنه بالنسبة للحسابات الجيوسياسية، عمد أردوغان على مدى العقد الماضي إلى إبعاد تركيا شيئا فشيئا عن الولايات المتحدة وأوروبا، وأقام علاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وهو ما يتوقع أن يفعل كمال كليتشدار أوغلو عكسه حال فوزه.