طارق بيطار.. قاض "فك" ألغاز انفجار مرفأ بيروت وفضح فساد ساسة لبنان

12

طباعة

مشاركة

يكاد يكون القاضي اللبناني، طارق بيطار، المعروف بنزاهته واستقلاليته والذي يقود التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الدموي عام 2020، الرجل الذي أسقط القناع عن الطبقة السياسية الفاسدة "المتورطة في ملابساته".

وما يزال بيطار (49 عاما) ثابتا على موقفه القضائي، وفي محاولته منع تلك الطبقة السياسية المتجذرة في السلطة، من عرقلة تحقيق العدالة رغبة منها في إبقاء "شريعة الغاب" السائدة في لبنان.

ووقع انفجار ضخم في مرفأ بيروت 4 أغسطس/ آب 2020، أسفر عن مقتل نحو 220 شخص، وإصابة نحو 7 آلاف آخرين بجروح، فضلا عن دمار مادي هائل في الأبنية السكنية والمؤسسات التجارية.

وبعيد ساعات قليلة على وقوعه، عزت السلطات الانفجار إلى 2750 طنا من مادة نيترات الأمونيوم مخزنة بشكل عشوائي في العنبر رقم 12 في المرفأ.

وتبين لاحقا أن مسؤولين على مستويات عدة في لبنان كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكنا.

التحقيق الأكبر

وتظاهر آلاف اللبنانيين ضد المسؤولين السياسيين، بعدما حملوهم مسؤولية المأساة، مما دفع بعدد من الوزراء للإعلان تباعا استقالتهم، إلى أن أعلن رئيس الحكومة وقتها حسان دياب في 10 أغسطس/آب 2020 استقالة حكومته.

وأمام ذلك، تولى بداية المحقق العدلي فادي صوان التحقيق في الانفجار في 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، وادعى على دياب وثلاثة وزراء سابقين بتهمة "الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة" وإصابة الآلاف.

لكن نتيجة انتماء تلك الأسماء إلى الطبقة الحاكمة في لبنان، وأحزاب ذات تأثير قوي في المشهد، جرى في 18 فبراير/شباط 2021، تنحية صوان من منصبه، وعين طارق بيطار خلفا له في اليوم التالي.

ومنذ البداية، كان بيطار يعي تماما أنه لا يحقق مع مسؤولين عن انفجار يعد من بين أضخم الانفجارات غير النووية في العالم، بقدر ما أنه يقترب من "عش الدبابير" لأكبر طبقة سياسية تتحكم في هذا البلد الذي ما يزال يغرق بأزمة اقتصادية منذ عام 2019 يقف خلفها هؤلاء.

فكانت ضربة المواجهة مع هؤلاء، بإعلان بيطار في 2 يوليو/تموز 2021، عزمه استجواب دياب، تزامنا مع إطلاقه مسار الادعاء على عدد من الوزراء السابقين ومسؤولين أمنيين وعسكريين.

ومنذ ذلك الحين، غرق التحقيق في متاهات السياسة ثم في فوضى قضائية بعدما حاصرت عشرات الدعاوى عمل المحقق العدلي بيطار، تقدم بغالبيتها مسؤولون مدعى عليهم.

ووصل الحال وتحديدا في نهاية يناير/كانون الثاني 2023، لتقديم النائبين والوزيرين السابقين علي حسن خليل، وغازي زعيتر، وهما ضمن المتهمين في ملف انفجار مرفأ بيروت، إلى النيابة العامة التمييزية، "بطلب نقل دعوى للارتياب المشروع بحياد المحقق العدلي بيطار".

كما تقدم خليل بشكايتين ضد بيطار أمام النيابة العامة التمييزية والتفتيش القضائي، بينما قدمت دعوى ثالثة تتضمن طلب نقل ملف انفجار مرفأ بيروت من يد القاضي بيطار.

وسبق ذلك ادعاء النائب العام التمييزي غسان عويدات الذي تربطه صلة قرابة بأحد المتهمين وهو النائب غازي زعيتر، بتاريخ 25 يناير 2023، على المحقق بيطار.

وقرر عويدات إطلاق سراح الموقوفين كافة في قضية انفجار مرفأ بيروت، عقب يومين على إعلان بيطار استئناف تحقيقاته بعد 13 شهرا على تعليقها، رغم رفض النيابة العامة التمييزية.

ومن بين الأشخاص الذين ادعى عليهم بيطار إلى جانب القضاة، المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم الذي تربطه علاقة جيدة بالقوى السياسية خصوصا "حزب الله"، اللاعب السياسي والعسكري الأبرز في لبنان، ومدير جهاز أمن الدولة طوني صليبا المقرب من الرئيس السابق ميشال عون.

وللمفارقة، فإن مجموع الدعاوى التي رفعت ضد القاضي بيطار وصلت إلى أكثر من 44، وهذا رقم قياسي بالمعنى القضائي اللبناني، وكل ذلك من أجل إجباره على ترك التحقيق في الملف وتعيين قاض بديل يصدر أحكاما توافق هوى المتورطين في الانفجار، وفق مراقبين.

وفي جرأة قضائية ضمن معركة حامية، حدد بيطار مواعيد لاستجواب 13 شخصا مدعى عليهم، خلال شهر فبراير/شباط 2023 في إطار دعاوى حق عام "بجرائم القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي".

لكن النيابة العامة التمييزية برئاسة عويدات سارعت إلى إعلان رفض جميع قرارات بيطار الجديدة، وضمنها استئناف التحقيقات.

النشأة والتكوين

ولد طارق بيطار في بلدة عيدمون بمحافظة عكار اللبنانية عام 1974، وحصل على شهادة في القانون من الجامعة اللبنانية، والتحق بمعهد الدروس القضائية عام 1999.

وتدرج في المناصب القضائية أكثر من 20 عاما، بينها ثلاث سنوات في المعهد القضائي و19 سنة قاضيا أصيلا.

وشغل بيطار منصب قاض منفرد جزائي في طرابلس بين عامي 2004 و2010، حيث تولى النظر في قضايا جرائم مالية.

وعين مدعيا عاما استئنافيا في شمال لبنان حتى عام 2017، وتولى التحقيق في جرائم نالت بعض الشخصيات السياسية والإعلامية.

وهو حاليا رئيس محكمة جنايات بيروت منذ عام 2017 إضافة إلى مهمته كمحقق عدلي في انفجار مرفأ بيروت.

ونقل موقع "درج" اللبناني، عن نائب رئيس بلدية عيدمون السابق، شفيق حداد، قوله في 27 يوليو/تموز 2021، إن "بيطار لا يملك شققا ولا سيارات فخمة، ولا يشبه القضاة أو أيا من المسؤولين الذين اغتنوا من المال العام".

جرأة قضائية

خلال تولي بيطار رئاسة محكمة جنايات بيروت، نظر في عدد من القضايا الجنائية الكبيرة التي شغلت الرأي العام، بينها جرائم قتل والاتجار بالمخدرات والبشر.

وتوصف بعض القرارات التي أصدرها بيطار في محكمة جنايات بيروت بأنها "الأكثر جرأة" في بلد يرى التدخل السياسي هو الفصيل في صدور الأحكام القضائية.

ومن أشهر تلك القضايا، إصدار بيطار في مايو/أيار 2021، حكما في قضية طفلة لبنانية بترت أصابعها نتيجة خطأ طبي، حيث أصدر حكما بدفع الجهات المتسببة بالضرر مبلغ مليار ليرة (حوالي 650 ألف دولار) لعائلة الطفلة، إضافة إلى راتب شهري مدى الحياة لها، ما أثار غضبا داخل القطاع الطبي.

كما أنه عندما كان بيطار رئيسا لمحكمة جنايات بيروت، تعرض لمحاولة اغتيال في يوليو/تموز 2020، ذلك أن شخصا دخل إلى قصر العدل في بيروت مخترقا الإجراءات الأمنية.

وحاول حينها فتح قنبلتين أمام مكتب بيطار، إلا أن رجال الأمن تمكنوا من منعه، ليتبين لاحقا أن الشخص مدعى عليه في ملف مخدرات يتابعه بيطار.

ويعد بيطار، الذي يحقق في أكبر قضية تشهدها البلاد منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005، شخصية غامضة إلى حد ما بالنسبة للبنانيين، فهو لا يتحدث كثيرا للصحافة ولا يظهر في مناسبات عامة.

ولذلك، فإن تاريخ بيطار القضائي المهني، دفعه لأن يتولى التحقيق في أعقد ملف في تاريخ لبنان، وإصراره على إمساك الهاربين من وجه العدالة والذين يمتلكون صلاحيات خفية لتشتيت التحقيق.

ولهذا أمضى بيطار الأشهر الخمس الأولى من تعيينه كقاض للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت في دراسة ملف القضية والاستماع للشهود، كما أصدر قرارات بإخلاء سبيل بعض الأشخاص الذين قد تم حجزهم على ذمة القضية.

كما ألقى بقنبلة قضائية، حينما طلب في يوليو/ تموز 2021 برفع الحصانة النيابية عن الوزير السابق والنائب نهاد المشنوق إضافة إلى الوزير السابق والنائب غازي زعيتر؛ تمهيدا للادعاء عليهما، وطالب كذلك باستجواب عدد من المسؤولين بينهم قادة أمن حاليون وسابقون.

وفي أغسطس/آب 2021 أصدر مذكرة إحضار بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال آنذاك دياب المدعوم من "حزب الله" المهيمن على لبنان بقوة السلاح الإيراني، قبل موعد جلسة استجوابه التي حددها حينها في 20 سبتمبر/أيلول من العام المذكور.

"أمل ذوي الضحايا"

دفعت "شجاعة بيطار القضائية"، لأن يبقى أمل الأهالي لإنصاف ضحايا المرفأ، كونه ليس له انتماء سياسي في بلد مليء بالمحسوبية.

ويرى أقران بيطار من قضاة لبنان الرافضين للطبقة الحاكمة، أن المعركة التي يخوضها ستحفظ ماء وجه النظام القضائي.

ويحظى بيطار بدعم من أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، الذين اعتصموا في محيط قصر العدل وداخله ببيروت في 26 يناير/كانون الثاني 2023، دعما لمسار التحقيق الذي يقوده.

وعائلات تفجير المرفأ تثق بالقاضي بيطار ثقة كاملة، لذلك يطلبون منه إصدار القرار مهما كان مضمونه.

ومنذ البداية، رفضت السلطات اللبنانية تحقيقا دوليا في انفجار المرفأ، فيما تطالب المنظمات الدولية الأمم المتحدة بإرسال بعثة تقصي حقائق مستقلة، أمام تعثر التحقيق المحلي.

وقالت مديرة الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، لما فقيه، في بيان مشترك مع منظمة العفو الدولية نشر بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2023 إن "التقصير الفادح في توفير العدالة لضحايا انفجار مرفأ بيروت لن يؤدي إلا إلى تقويض الاستقرار وسيادة القانون في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ لبنان".

اللافت أن بيطار، كلما بدأ يتقدم ويقترب من "فكفكة" ألغاز هذا الانفجار، تزداد الضغوط عليه، كون كشف المتورطين الحقيقيين لا يهدد فقط أصحاب المصالح المحلية، بل له امتدادات تنال بعض الدول الإقليمية.

واصطدم عمله بتدخلات سياسية عرقلت مهمته، مع اعتراض قوى سياسية عدة أبرزها حزب الله، على أدائه واتهامه بـ"تسييس" الملف، وصولا إلى المطالبة بتنحيه.

ورفع مدعى عليهم تباعا عشرات الدعاوى لكف يده عن القضية، حتى جرى بضغط سياسي، تعليق التحقيق أربع مرات آخرها في ديسمبر/كانون الأول/ديسمبر 2021.

لكن بيطار لم ترعبه التهديدات والضغوط حتى من زعيم "حزب الله"، حسن نصر الله، الذي هدده شخصيا في خطاب تلفزيوني في 8 أغسطس/آب 2021، حينما قال: "التحقيق مسيس...إما يجب أن يعمل... بطريقة واضحة، أو على القضاء أن يجد قاض آخر".

وفي 25 يناير/كانون الثاني 2023، وصف رئيس حزب "التوحيد العربي"، وئام وهاب، المقرب من حزب الله، القاضي بيطار، "أداة لتفجير حرب أهلية"، مضيفا في لقاء على قناة "الميادين" المدعومة من إيران قائلا: "وكأن هناك من نصبه حاكما عرفيا على لبنان".

ويشار إلى أن بيطار استند في استئناف التحقيق إلى مطالعة قانونية تفيد بأن لا وجود لأي نص قانوني يجيز كف يد المحقق العدلي عن عمله في قضية مماثلة، ويمكن له أن يدعي على أي شخص دون إذن من أي إدارة أو وزارة.

ولدى المحقق العدلي بيطار صلاحيات واسعة بناء على القانون، ويستطيع اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات حتى صدور القرار الظني في التحقيق.

وكانت مجموعات لبنانية ومنظمات دولية نشرت بيانا في 31 يناير 2023، أكدوا فيه أن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، واجه "عدة عراقيل من قبل مختلف الجهات السياسية الفاعلة في البلاد، وتشمل محاولات ترهيب وإسقاط بيطار، تهديدات بالقتل وحظر السفر واتهامات مضادة".

ونشر البيان قائمة غير شاملة للأفراد الذين اتخذوا إجراءات لعرقلة العدالة، بما في ذلك رفض الامتثال لاستدعاء بيطار في التحقيق، بينهم رئيس الوزراء الأسبق دياب، والمدير العام لأمن الدولة صليبا، والمدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، المدعي العام عويدات.