"جيش جديد".. هل تعيد تركيا هيكلة الفصائل المسلحة للمعارضة السورية؟
بعد اقتتال "جزئي" بين فصائل الجيش الوطني السوري المعارض الذي تشرف عليه تركيا في الشمال السوري، ومساندة هيئة تحرير الشام لبعض تلك الفصائل، عمدت أنقرة إلى اتخاذ خطوات لضبط المشهد عسكريا واقتصاديا وأمنيا هناك.
فعلى الرغم من انضواء فيالق وتشكيلات عسكرية تحت لواء الجيش الوطني، إلا أنها تعيش حالة "تضارب مصالح داخلية"، تترجم على شكل مناوشات عسكرية في مناطق سيطرتها بريفي حلب وإدلب.
وشهد شهر أكتوبر 2022، أحداثا عسكرية متسارعة بريف حلب عقب اغتيال الناشط البارز محمد أبو غنوم وزوجته الحامل بإطلاق النار عليهما في مدينة الباب شرقي حلب في السابع من الشهر ذاته على يد عناصر من "فرقة الحمزة".
ودفعت حادثة الاغتيال إلى حدوث صدامات عسكرية عبر قيام "الفيلق الثالث" بإخراج "فرقة الحمزة" من بعض مقراته في مدينة الباب، ليمتد القتال إلى مناطق ثانية عقب حدوث اصطفافات من تشكيلات أخرى.
وحينها كان مفاجئا تمركز كل من فرقة سليمان شاه، وهيئة تحرير الشام التي عرفت بصدامها الطويل مع الفصائل، في خندق واحد مع فرقة الحمزة ضد "الفيلق الثالث".
و"فرقة الحمزة" و"فرقة سليمان شاه" ينضويان ضمن صفوف "الفيلق الثاني" التابع للجيش الوطني السوري المعارض.
وبضغط تركي توصلت "تحرير الشام" التي استغلت الاقتتال وتقدمت إلى مناطق جديدة يسيطر عليها الجيش الوطني قرب مدينة عفرين الإستراتيجية، مع "الفيلق الثالث" في 14 أكتوبر، إلى اتفاق ينهي التوتر.
ودفعت الخروقات لذلك الاتفاق لاحقا، أنقرة إلى نشر "قوات فصل" لمنع تجدد القتال، تتألف من حركة "ثائرون" وكذلك عزز الجيش التركي انتشاره في ريف حلب.
وفتحت هذه التحالفات داخل فصائل الجيش الوطني المعارض، ولجوء بعض الفصائل للاستعانة بـ "تحرير الشام" التي يقودها أبو محمد الجولاني، الباب واسعا أمام تركيا لإحداث مراجعة شاملة لطبيعة عمل تلك الفصائل في الشمال السوري وتحديد أدوارها من جديد و"ضبط حالة الفصائل المنفلتة".
مراجعة تركية
ومن أجل ذلك دعت أنقرة قادة فصائل الجيش الوطني إلى اجتماع مغلق في مدينة غازي عنتاب التركية بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وفق إعلام تركي ومصادر سورية متطابقة.
وأكد القيادي في الجيش الوطني السوري المعارض، العميد زياد حاج عبيد، لـ "الاستقلال"، أنه في الاجتماع أكد "الضباط الأتراك على ضرورة منع التعدي والتحشيد من قبل الفصائل ضد بعضها في الشمال السوري".
وأضاف حاج عبيد أنه جرى "التأكيد على ضرورة سحب الفصائل حواجزها وأن تحل عوضا عنها الشرطة العسكرية، وكذلك إلغاء السجون (غير الشرعية) والأمنيات التابعة للفصائل".
ولفت القيادي إلى أن "الأتراك حذروا خلال الاجتماع من تواصل فصائل المعارضة مع جهات دولية تعمل على زعزعة المنطقة، ومنع التعامل مع هيئة تحرير الشام".
ولفت حاج عبيد إلى أنه جرى "الاتفاق خلال الاجتماع على تشكيل لجنة من الفيالق الثلاثة التابعة للجيش الوطني، لمتابعة الأمور في الشمال المحرر وضبط الأمن وترتيب أمور المعابر بما يخدم المنطقة".
وأشار حاج عبيد إلى أنه "لم يجر خلال الاجتماع الحديث عن موضوع قيادة عسكرية للفصائل أو تشكيل مجلس عسكري موحد في الشمال السوري".
من جهتها، ذكرت صحيفة "تركيا" المقربة من الحكومة التركية، أن مخرجات اجتماع الجانب التركي مع فصائل المعارضة السورية ركز على إبلاغهم بأن الفصائل العسكرية لن تستمر بوضعها الحالي، مع التأكيد على استمرار دعم أنقرة لها.
وأوضح المسؤولون الأتراك في الاجتماع الذي استمر لأربع ساعات أنه "من الضروري تحويل المنظمات القائمة على الأفراد والمنظمات المحلية إلى جيش نظامي".
كما سيجري "تضمين الجماعات المسلحة التي تركز على الأفراد في الجيش المركزي وستخضع لنظام الفيلق والتسلسل الهرمي الأعلى المرؤوس"، وفق الصحيفة.
ويضم الشمال السوري نحو 5 ملايين إنسان نزحوا من مختلف المدن السورية جراء بطش قوات الأسد وقصف بيوتهم بالطيران، ويحكمه اليوم قطبان عسكريان.
الأول يتبع وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة (معارضة)، ويوجد في ريف حلب وبعض بلدات إدلب، والثاني يتبع معظمه لـ"هيئة تحرير الشام" ويتركز في إدلب.
صراع أجنحة
ولا زالت تواجه فصائل الجيش الوطني السوري تحديا كبيرا متمثلا في أن تصبح أكثر تنظيما من الناحية الهيكلية، وخاصة أن الجيش الوطني مؤلف من سبعة فيالق ويحتوي على نحو 80 ألف مقاتل.
ويطالب الأهالي في الشمال السوري بدعم وتمكين المؤسسات الرسمية التابعة للحكومة المؤقتة كوزارة الدفاع، والشرطة العسكرية، والقضاء العسكري، والشرطة المدنية، بما يخدم النهوض بواقع المناطق المحررة ويضبط الأمن هناك ويمنع تغول وتعدي عناصر وقادة الفصائل على المدنيين "بقوة السلاح".
وقالت مصادر قريبة من المجتمعين لـ"الاستقلال"، إن هناك صراع أجنحة بين من يريد تشكيل جيش واحد، وبين من يريد أن يبقى وضع الفصائل على حاله.
وخاصة أنها تجني أموالا طائلة من المعابر بين المدن، دون أن تصب تلك العوائد في صندوق واحد يسهم في تحسين واقعها وواقع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.
وأضافت المصادر ذاتها أن طرح خطوة تشكيل "جيش جديد" في الشمال السوري "خطوة هامة"، لكنها غير مكتملة الأركان في الوقت الراهن.
ومضت تقول: وخاصة أن قرار إنهاء الحالة الفصائلية له مقدمات لم تظهر على الساحة بعد، وأولها إحالة مهمة التشكيل لقيادة عسكرية تكون قراراتها نافذة.
وفي هذا الإطار، يؤكد عسكريون سوريون أن أولى خطوات تشكيل "جيش واحد" لفصائل المعارضة في الشمال السوري هو صدور قرار بحل تلك الفصائل بقرار من وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة.
وكذلك إخراج مقرات تلك الفصائل من المدن، وسحب سيطرتها على المعابر وتسليمها لإدارة مدنية.
وواقع مناطق المعارضة لم يعد خافيا على أحد، والتي تشهد انفلاتا للسلاح، وتفش للمخدرات وتجارتها، ولهذا فإن الاجتماع التركي حمل مراجعات كبيرة لممارسات الفصائل هناك.
وأمام ذلك، فإن الحديث عن خطوة إعادة تنظيم فصائل الجيش الوطني من الصفر بطلب تركي، يتقاطع مع إدارة جهاز المخابرات التركي لعبة متوازنة بدقة في شمال غربي سوريا وخاصة بعد توسع نفوذ هيئة تحرير الشام في المنطقة.
إذ إن اقتراب "تحرير الشام" من مدينة عفرين التي سبق أن دخلتها القوات التركية في يناير/ كانون الثاني 2018 كجزء من عملية عسكرية أطلقتها بدعم من الجيش الوطني تحت اسم غصن الزيتون" وتمكنت حينها من طرد عناصر حزب العمال الكردستاني "بي كا كا"، يضعها في مواجهة مع أنقرة.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول 2022، نشرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات، تقريرا عدت فيه أن "تحرير الشام، المصنفة على أنها (جماعة إرهابية)، بهذه الخطوة خاطرت بإثارة غضب تركيا".
وفي 14 أكتوبر 2022، نظمت المخابرات التركية جلسة تفاوضية عند معبر باب الهوى الحدودي بين المتنازعين، جمعت فيه زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني وزعيم فصيل الجبهة الشامية أبو أحمد نور ممثلا عن الجيش الوطني.
ووضعت هذه المحادثات حدا للقتال لكنها لم تعد الهدوء للمنطقة، ففي 16 أكتوبر خرجت مظاهرات في مدينة أعزاز ترفض وجود تحرير الشام في المدينة، واعتقلت تحرير الشام العديد من الأفراد.
واشنطن تراقب
وأمام تلك التطورات فإن السفارة الأميركية في سوريا أبدت قلقها البالغ من توسع تحرير الشام في ريف حلب، مشيرة بوضوح إلى أن موقف أنقرة الغامض تجاه "تحرير الشام" سيتبعه رد أميركي إذا ما استمر ذلك.
لا سيما أن الولايات المتحدة تنفذ ضربات بشكل متكرر بطائرات مسيرة تستهدف عناصر من تحرير الشام في إدلب وريفها.
وضمن هذه الجزئية، أشار معهد "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، في تقرير له نشره في 19 أكتوبر 2022، إلى أن الولايات المتحدة ضغطت على تركيا للتدخل وإيقاف تمدد "هيئة تحرير الشام" في شمال غربي سوريا.
وغياب الاستقرار والأمان، وغياب الدور الحقيقي لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف السوري المعارض، يضع الأتراك في موقف حرج.
وخاصة أن الاقتتال الأخير أفرز معطيات جديدة حول "سهولة التحالفات العسكرية"، الأمر الذي يجعل المناطق التي تعد تحت النفوذ التركي عرضة لتغير خارطة السيطرة فيها، وفق مراقبين.
ومن هنا فإن أنقرة، وفق كثير من المراقبين، ضاقت ذرعا من الخلافات المستمرة بين الفصائل التي تشرف عليها، ومن حالة الانقسام الحاصلة في الشمال السوري.
ولا سيما أن تركيا ترفع لواء تحويل ذاك الشمال المحاذي لحدودها الجنوبية إلى "مناطق آمنة"، وتروج لذلك على الصعيد المحلي السوري والمحلي التركي وعلى الصعيد الدولي وتطالب بدعم لإعادة تأهيل تلك المناطق.
حتى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كشف في 3 مايو/ أيار 2022 عن تحضير أنقرة لمشروع يتيح العودة الطوعية لمليون سوري تستضيفهم تركيا إلى بلادهم "بدعم من منظمات تركية ودولية".
وضمن هذا السياق، يرى المحلل والخبير العسكري والإستراتيجي العقيد أحمد حمادة، أن "الأحداث الأخيرة في الشمال السوري خاصة والحالة الفصائلية المترسخة كافية لأن تكون هناك وقفة للتقييم".
وقال حمادة لـ "الاستقلال"، إن "دخول هيئة تحرير الشام والاقتتال الذي حصل والاستقطابات التي نشأت تدعو بإلحاح لوضع حد لذلك من خلال تفعيل المؤسسات وإعادة هيكلة للجيش الوطني، وكذلك تصحيح أخطاء كانت موجودة من خلال خطط يجري إعدادها".