مواجهة المقاومة والاحتلال في "وحدة الساحات".. إنجازات ودلالات
المحتويات
مقدمة
أولا: أهداف إسرائيل وما تحقق منها
ثانيا: تحفظ "حماس" حيال المشاركة
ثالثا: دلالات دخول الجهاد الإسلامي
خاتمة
المقدمة
تصاعد التوتر بعد إقدام قوات الاحتلال الإسرائيلي على اعتقال الشيخ "بسام السعدي" أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية.
ووصل الأمر إلى أن أقدمت قوات الاحتلال في صبيحة 5 أغسطس/آب 2022، على شن هجوم على قطاع غزة، استهلته باغتيال أحد أبرز قادة "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي عبر استهداف منزله.
وقد حرك القصفَ دواع انتخابية بالأساس، علاوة على الدواعي الأمنية التقليدية للكيان الصهيوني.
كانت قوات الاحتلال قد استعدت للهجوم بتنبيه مستوطني "غلاف غزة" بالبقاء بالقرب من الملاجئ، ونشر منظومة "القبة الحديدية"، وسيرت طائرات استطلاع لتحديد أهدافها، ثم بدأ القصف الجوي.
ردت حركة الجهاد الإسلامي عبر مرحلتين عملياتيتين، بدأت أولاهما بقصف في مستوطنات غلاف غزة التي تبعد نحو 10 كم تقريبا، ثم رتبت بعد ساعات عملية مشتركة بمؤازرة فصائل أخرى دون مشاركة حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
واستخدمت "سرايا القدس" في هذه المرحلة صواريخ "بدر" والنسخة المطورة من صواريخ "براق"، التي يصل مداها إلى 120 كم، وتحمل رأسا متفجرا يزن 300 كجم.
في هذه المرحلة اتسعت دائرة الاستهداف ليبلغ مداها نحو 80 كم، وفيها وصلت الصواريخ إلى مواقع بلغت محيط "تل أبيب" والقدس، ووصلت إلى عسقلان وحتى مطار "بن غوريون".
وخشية اتساع النطاق العملياتي، أوصى اجتماع "المجلس السياسي والأمني" الإسرائيلي بوقف العمليات، والاكتفاء بما حققته العملية من "إنجاز"، وطلبت الوساطة المصرية لإعلان هدنة بعد رفض حركة "الجهاد" مقترحا مباشرا للهدنة من جانب قوات الاحتلال.
تبحث الورقة في قائمة دوافع الكيان المحركة لهذه العملية التي حملت اسم "سطوع الفجر"، كما تبحث في الدوافع الكامنة وراء تحفظ "حماس" حيال المشاركة في التصدي لهذا العدوان، علاوة على بحث دلالات تحول حركة "الجهاد" إلى رقم صعب في معادلة المقاومة الفلسطينية.
أولا: أهداف إسرائيل وما تحقق منها
انطلقت إسرائيل في عمليتها ضد قطاع غزة من عدة منطلقات، منها ما يتعلق بالسياسة الداخلية في الكيان، ومنها ما يرتبط بالتطورات النوعية التي تشهدها ساحة المقاومة، ومنها كذلك رسائل توجه للخارج: سواء للقوى العالمية أو الإقليمية، فما هي منطلقات الاحتلال؟
أ. الاعتبارات السياسية: من جهة، ترتبط العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية إلى حد كبير بالانتخابات الإسرائيلية.
ويفيد خبراء بأن حكومة رئيس الوزراء السابق "نفتالي بينيت"؛ وعلى إثرها الحكومة الراهنة التي يقودها "يائير لابيد"، وعبر تحصيل الإسناد الأمني الضروري، قد اتخذت قرارا إستراتيجيا بأنها لن تحتوي أي تصعيد، وأنها ستدخل أي مواجهة مقبلة مهما كانت التحديات والتهديدات الناجمة عنها.
هذا التوجه الإستراتيجي مرتهن بدوافع انتخابية، ومرتبط بالسعي لمواجهة هجوم معسكر رئيس الوزراء الأسبق "بنيامين نتنياهو"، الذي دأب على اتهام الحكومة الحالية بالضعف، والقصور دون حماية الأمن الإسرائيلي، وأن قياداتها عديمة الخبرة[1].
هذه الدوافع الانتخابية سهلت اتخاذ قرار التصعيد وصولا إلى المواجهة في غزة، رغم أن التحديات نشأت في الضفة الغربية.
وعلاوة على هذا، يرى "لابيد"، الإعلامي الذي لا يتمتع بأي خبرة عسكرية، أن أي عدوان على القطاع، مهما كان حجمه، سيكون لصالحه انتخابيا، وسيعزز مكانته كرئيس وزراء قادر على إدارة الدولة والتصدي للتهديدات.
وفي هذا السياق الانتخابي، كتبت افتتاحية صحيفة "هآرتس"، بعد يومين من العملية، أن "لابيد" أصبح في الوضع المعروف في جيش الاحتلال باسم Tzalash - Tarash، ويعني إما أن تحصل على رتبة الشجاعة، أو تنخفض رتبتك إلى أدنى مستوى، ولا يوجد شيء بينهما[2].
لا يمكن القول بأن عملية "لابيد" قد حققت هدفها الذي أعلنته، والذي تمثل في كبح قدرة حركة الجهاد على تهديد أمن الكيان.
غير أن سرعة انتهائها، بالإضافة إلى نجاح قوات الاحتلال في اغتيال القياديين في سرايا القدس "تيسير الجعبري" و"خالد منصور"، علاوة على لقطات هدم المنازل، وعدم تدخل حركة "حماس" منح حكومة "لابيد" الهشة قبلة الحياة.
البيئة الانتخابية الضاغطة أدت – بحسب ما أظهرته استطلاعات عدة للرأي في الكيان – إلى ما يشبه إسدالا للستار على مستقبل حزب "يمينا" الذي كان يتزعمه رئيس الوزراء السابق "نفتالي بينيت" وترأسته من بعده وزيرة الداخلية "أيليت شاكيد".
وكانت استطلاعات الرأي قد منحت "نتنياهو" وحلفاءه الجدد أغلبية ضيقة[3]، ما يعيده لحلبة المنافسة مع "لابيد" الذي سبق أن شاركه حكومة 2013 كوزير للمالية.
هذا علاوة على التوتر المستدام في العلاقة بين كل من "نتنياهو" ووزير الجيش "بيني غانتس"[4]، والتي أدت بهذا الأخير للدفع باتجاه عملية في غزة؛ بهدف قطع الطريق على عودة الأول التي تهدد مستقبله السياسي.
هذه الأجواء دفعت "لابيد" للظهور بمظهر القائد القادر على الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني.
ب. التحدي الأمني المركب: من جهة ثانية، فإن البعد السياسي بالنسبة للكيان لا ينفي أن الأطوار المتجددة للمقاومة الفلسطينية تشكل تحديا أمنيا كبيرا لقوات الاحتلال.
أحد الأطوار المتجددة للمقاومة تتمثل في الخلايا العسكرية الصغرى التي دشنها عدد من الشباب في مخيم "جنين"، بزعامة الشاب "جميل العموري" المنتمي لحركة "الجهاد"، وذلك في أعقاب "سيف القدس" عام 2021.
وهي العملية التي بدأت في 10 مايو 2021، واستمرت لمدة 11 يوما، وردت بها فصائل المقاومة الفلسطينية على استفزازات قوات الاحتلال في القدس، ثم هجومها على القطاع.
وتبلورت هذه الخلايا لاحقا في "كتيبة جنين"، والتي لم تقتصر في عضويتها على حركة "الجهاد"؛ بل ضمت أعضاء منتمين لحركة "فتح" وغيرها من الفصائل الفلسطينية.
كان الإعلان الأوّل عن تشَكيل هذه الكتيبة في سبتمبر/أيلول 2021 في أعقاب عملية نفق الحرية ونجاح الأسرى الستة (محمود العارضة، محمد العارضة، مناضل نفيعات، وزكريا الزبيدي، ويعقوب قادري، وأيهم كممجي) في الهروب من "سجن جلبوع".
وعبر البيان العسكري الأول للكتيبة عن استعدادها للانضمام لـ"معركة الأسرى الفارين"، باحتضانهم في المخيم والدفاع عنهم[5]، لتتوالى بعد ذلك عمليات الكتيبة رغم حداثة تشكلها.
أدى هذا التحدي الأمني الجديد إلى إيلاء قوات الاحتلال اهتماما خاصا بهذه الكتيبة وبحركة "الجهاد" في الضفة الغربية.
وبدأت في ملاحقة أعضائها، حتى وصلت في الثاني من أغسطس 2022 حد اعتقال الشيخ بسام السعدي، أحد أهم قادة حركة "الجهاد" في الضفة الغربية مستخدمة أسلوبا مهينا.
وهو ما دفع "سرايا القدس" إلى إعلان النفير العام في صفوف مقاتليها للرد على ذلك الاعتداء، لتتجه قوات الاحتلال نحو اغتيال القائد "تيسير الجعبري"، وتوجيه ما أسمته "ضربة استباقية" ضد الحركة، مسببة المواجهة في قطاع غزة.
وكما سبق وأشرنا، لا يمكن اعتبار العدوان على غزة ناجحا، لأن القيادات الميدانية التي صعدت بعد اغتيال كل من "الجعبري" و"منصور" تمكنت من تطوير الرد العسكري الفلسطيني، ودفعت الكيان لاقتراح الهدنة، وطلب الوساطة المصرية بعد رفض حركة "الجهاد" الأمر.
هذا علاوة على أن العدوان عمق صلة الحركة بحاضنتها الشعبية، ما بدا في أكثر من مظهر؛ على نحو ما سنرى لاحقا.
ج. رسالة إلى حزب الله: يرى قطاع من الخبراء أن هذه المواجهة التي بادر إليها الكيان الصهيوني تحمل في طياتها – وضمن أهدافها - رسالة إلى القوى السياسية اللبنانية وإلى حزب الله الذي سبق أن هدد بالمواجهة في 25 يوليو/تموز 2022[6].
ففي أعقاب خلافات بين لبنان وإسرائيل فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية، حذر الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، من اندلاع حرب في حال عدم حصول بيروت على حقها من الغاز والنفط من البحر المتوسط، مشيرًا إلى أنّ جماعته قادرة على منع تل أبيب من استخراج الطاقة.
ورغم عدم وجود اتفاق على ترسيم الحدود بين بيروت وتل أبيب فإنهما ملتزمان بوقف إطلاق النار على طول ما يسمى الخط الأزرق؛ الذي كانت الأمم المتحدة قد حددته بعد انسحاب قوات الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000.
وفي هذا السياق، فشلت 3 جولات من المفاوضات حول ترسيم الحدود، ويتعلق الجزء المتنازع عليه حول 860 كيلومترا مربعا من وجهة نظر إسرائيل.
فيما يقدر لبنان المساحة المختلف عليها بحوالي 1430 كيلومترا مربعا إضافية تشمل أجزاء من حقل "كاريش"، والذي انتهى الكيان من التنقيب فيه؛ معلنا إقامة منصة استخراج للغاز[7]، ما أنتج رد الفعل المشار إليه لحزب الله.
وجدد "نصر الله" تهديده خلال كلمة له ألقاها إبان اختتام "المسيرة العاشورائية" التي نظمها "حزب الله" في الضاحية الجنوبية لبيروت في 10 أغسطس، مضيفا في هذه الكلمة: "سمعنا في الأيام الماضية أنهم يخططون لاغتيال قادة في حركة الجهاد أو في حماس أو في غيرهما من الفصائل الفلسطينية، في خارج فلسطين المحتلة، ومنها لبنان".
وهدد "نصر الله" بأن "أي اعتداء على أي إنسان في لبنان لن يبقى بدون عقاب ولن يبقى بدون رد"[8].
وسبق لوزير الجيش الإسرائيلي "بيني غانتس" أن هدد حزب الله إثر إرسال الأخير طائرات مسيرة لاستطلاع الوضع في حقل "كاريش" المتنازع عليه.
وتعد المسيرات سلاحا نوعيا يمكنه أن يمثل تهديدا حقيقيا للكيان خاصة مع التقنية الإيرانية التي سبق لروسيا التقدم بطلب للحصول عليها لتوظيفها في حربها على أوكرانيا[9].
ولا يمكن القول بأن تهديد الكيان لحزب الله قد أتى بثمار تذكر، فالحد الأدنى من خطاب الحزب هو تحدي الكيان الصهيوني وقدرته.
د. رسالة إلى إيران: يرى بعض المراقبين أن الكيان الصهيوني يريد كذلك إرسال رسالة إلى طهران بأنها ماضية في ضرب النفوذ الإيراني في المناطق المحيطة بالأراضي المحتلة[10].
ومن المهم أن نلفت لتنسيق قوات الاحتلال لموعد هجومها على القطاع، واستهداف حركة "الجهاد؛ في توقيت كان فيه رئيس المكتب السياسي فيها "زياد النخالة" موجودا في العاصمة الإيرانية طهران؛ في زيارة التقى خلالها الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي"[11].
ثانيا: تحفظ "حماس" حيال المشاركة
خلال المواجهة، ثار التساؤل – بطبيعة الحال: أين حركة "حماس"؟ وذلك في إطار ما تسرب من مقررات اجتماع "المجلس السياسي والأمني" الإسرائيلي، والذي أوصى بضرورة إنهاء العملية العسكرية في غزة؛ خشية وقوع أخطاء من شأنها أن تورط إسرائيل في عملية عسكرية أوسع لا تريدها.
إثر هذا الاجتماع سرب وزيران شاركا في هذا الاجتماع لموقع "واللا" المقرب من استخبارات الكيان بأن "رونين بار"، رئيس جهاز الشاباك (الأمن العام)، ذكر خلال الاجتماع أن العملية حققت أهدافًا أكثر مما حددناه، بما في ذلك هدف إستراتيجي وهو الفصل بين حركتي "حماس" و"الجهاد".
وأن قادة أجهزة الأمن في الكيان شددوا على ضرورة الحفاظ على هذا الفصل[12]، جنبا إلى جنب مع "صيت" الحركة في الإستراتيجية والتكتيك العسكريين، بجانب قدراتها الاستخباراتية والسياسية.
يرتبط بهذا التصور ما حاول جيش الاحتلال الترويج له منذ اللحظة الأولى لانطلاق عمليته التي أسماها "الفجر الصادق"، من أن هذه العملية تستهدف حركة "الجهاد" وحدها[13].
ما يعني أن قادة الكيان الصهيوني قد وضعوا حدا فاصلا بين حركتي "الجهاد" و"حماس"، وأنهم يريدون التركيز على هذا الفاصل لإثارة الشقاق بين صفوف المقاومة في القطاع، أسوة بما يجرى ترسيخه من خلاف بين الحركة الإسلامية وحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" منذ 2006 وحتى اليوم.
كان لافتا كذلك خلال هذه العملية أنه على عكس المعتاد تاريخيا، لم يلق الكيان الصهيوني باللوم على "حماس" جراء الرشقات الصاروخية التي انطلقت من القطاع، على الرغم من أن الحركة "هي السلطة الحاكمة في القطاع".
التساؤل عن غياب حركة "حماس" يدعو للنظر في الاسم الذي فضلت حركة "الجهاد" إطلاقه على هذه المواجهة، ألا وهو "وحدة الساحات"[14]، ما يدعو للتساؤل: هل الاسم– الذي سبق إعلانه– عقد اجتماع "المجلس السياسي والأمني" – يرمي لبناء أساس للدعاية المناهضة للهدف الإستراتيجي الذي أعلن عنه هذا المجلس".
يدفع هذا التساؤل لفحص عدة نقاط:
أ. تعدد فصائل المقاومة: رغم أن ما صدر عن "الجهاد" و"حماس" خلال العدوان يكشف أن ابتعاد الحركة الأولى عن المواجهة خطوة تكتيكية، وأن التضامن بين الحركتين في الموقف هو الأساس، علاوة على الشراكة في غرفة العمليات المشتركة[15].
إلا أن المعلومات المتاحة تكشف أن تلبية احتياجات الشارع الفلسطيني؛ علاوة على الاعتبارات السياسية هما ما يقف وراء موقف حركة "حماس" المتحفظ.
بداية فإن الموقف المبدئي لـ "حماس" تكشف عنه مخاوف القيادات الأمنية في الكيان الصهيوني، والتي حذرت من احتمال تدخل الحركة في حال اتسع نطاق العملية في غزة.
يرتبط بهذا الحال كذلك أن المعلن من تصريحات قادة الكيان يكشف أن "حماس" رفضت الاستجابة لطلبات صهيونية بكبح حركة "الجهاد".
هذا ما كشفت عنه تصريحات رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، "رام بن باراك"، لإذاعة جيش الاحتلال بقوله: "لقد منحنا (حماس) فرصة لكبح حركة الجهاد، ولكن بمجرد أن لم تلتقط التحدي، فعلنا ما هو ضروري لإزالة التهديد. لن ننتظر حتى تضربنا الجهاد، لقد ضربناها وبشدة"[16].
رفض حركة "حماس" أن تكون أداة لتقزيم فصائل المقاومة يعكس الموقف المبدئي الحاضر الغائب في موقفها من العملية، رغم أن غياب هذا الرفض كان مما يصب في دعم صورتها كسلطة قادرة على الإيفاء بالالتزامات الإقليمية، أو يصب في صالح انفرادها بإدارة المشهد في القطاع.
موقف حركة "حماس" يكشف أن أحد أهدافها يتمثل في دعم تعددية فصائل المقاومة بما يتيح للأولى أن تلعب في المجال السياسي بقدر من الانعتاق من بعض ضغوط عملية المقاومة من دون التفريط في هذا الخيار، وهو ما يعفيها من زيادة مفرطة في الضغوط الإقليمية، وبخاصة حيال القاهرة، أو الضغوط الدولية بمساراتها المختلفة.
تعدد مراكز المقاومة يتسبب في إرباك حاد للأجهزة الأمنية في الكيان الصهيوني، وهو ما كان جليا مع اتساع نطاق ظاهرة انخراط "أبناء قيادات الأجهزة الأمنية الفلسطينية" في عمليات المقاومة على نحو ما لمسناه في حالتي الشهيدين إبراهيم النابلسي قائد شهداء الأقصى في نابلس، وحازم رعد منفذ "عملية ديزنغوف" في "تل أبيب"، فكلاهما نجلا مسؤولين في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني[17].
ب. الرعب من حماس: لا تخلو ترتيبات ابتعاد الحركة من الإسهام في تكتيكين مهمين لها، هما:
1. تزكية بعد دعائي تكرس مع الهالة الدعائية التي أضفيت على المتحدث الإعلامي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة "حماس"، المكنى بـ"أبي عبيدة"[18]، وهي الهالة التي بلغت أوجها بعد معركة "سيف القدس".
في هذا الإطار، نجد أن الحديث عن دخول حركة "حماس" في المعركة انقسم إلى اتجاهين، الأول ارتبط بالتخوف من دخولها.
أما الاتجاه الثاني فتمثل في نبرة النصر في أوساط السياسيين الصهاينة بالحديث عن تحييد "حماس"، وكلها تصب في مربع "الرعب من تدخل الحركة".
ويفيد خبراء بأن أحد أهم مرامي التوصية بإنهاء العملية العسكرية في القطاع يتمثل في التخوف الذي ساد في أوساط القادة الأمنيين في الكيان الصهيوني من أن يؤدي استمرار العملية إلى دخول حركة "حماس" في العملية.
وهو دخول ستكون له عواقب أشد بالنظر إلى أن حركة "حماس" ستختار نطاق تدخلها، بعكس حركة "الجهاد" التي لم تتمتع بهذه الرفاهية[19].
ودعمت صحيفة "هآرتس" هذه الرؤية بالإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية تسعى لإنهاء العملية سريعا قبل مشاركة "حماس"، مرتئية في افتتاحيتها أنه من المشكوك فيه تحقيق إنجاز تشغيلي أفضل مما آل إليه الحال، في وقت تشير فيه مؤشرات لاحتمال انخراط الحركة في المواجهة، ما دفع محررها للدعوة إلى الحفاظ على الإنجاز الحالي، والموازنة بين ضرر محدود أو ما هو أكبر[20].
2. التنامي التدريجي العملياتي في مستوى المقاومة: إذ إن تأخير الانخراط في المواجهة يسمح لحركة "حماس" بدراسة الموقف العملياتي خلال مرحلة ما قبل انخراطها الميداني، مما يعفيها من الانجرار لمقاومة رد الفعل.
و"مقاومة رد الفعل" مسار يؤدي لتراجع مستوى المكاسب، أو لتعظيم منسوب الخسائر. هذا علاوة على أن هذا المسار يخشى معه من استنفاد القدرات العسكرية مع بداية المواجهة، علاوة على فرض ضغط على الداخل الصهيوني، والذي لا يستطيع احتمال ضغوط عسكرية لمدة طويلة[21]. لهذا، تعمل حماس على تلافي مسار رد الفعل غير المخطط منذ نحو عقد من الزمان.
ج. الرغبة المشتركة في تجنب اتساع نطاق القصف: لا يمكن تجاهل هذا الدافع؛ فقبل العدوان على غزة، أرسل الكيان عبر مصر رسالة إلى حركة "حماس"، مفادها أنها لا ترغب في توسيع نطاق العدوان، وأن الهدف من عملياتها حركة "الجهاد"[22].
وأسهم موقف حركة "حماس" في فتح المعابر لدخول الوقود وإعادة تشغيل محطات الكهرباء بالقطاع، وزيادة عدد التصاريح الممنوحة لسكان غزة للعبور إلى الأراضي المحتلة للعمل[23] علاوة على ضمان دخول المساعدات المقدمة من دول الخليج لأهل القطاع[24].
غير أن ما لم تكشفه أي تسريبات هو سر تيقن الأجهزة الأمنية في الكيان الصهيوني من احتمال تدخل حركة "حماس" في حال اتسع نطاق العدوان.
وفي هذا السياق، لا مناص من التذكير برؤية بعض الخبراء والمسؤولين في الكيان الصهيوني من أن أحد أسباب عدم التدخل أنه لم يمض سوى 15 شهرا على صراع 2021، والذي أدى إلى أضرار كبيرة في القطاع، وعلى رأسها شهداء غزة، وأن تبعات هذه المواجهة مازالت حية؛ حيث يعمل سكان القطاع على إعادة بناء منازلهم وتنظيم حيواتهم[25].
مهم أن نشير في هذا الإطار إلى تنفيذ جهات معادية للمقاومة حملة إعلامية حملت اسم "بدنا نعيش" تهدف للضغط على حركة حماس، وتتهمها بقمع المواطنين، وعدم توفير أساسيات الحياة الكريمة، ورفعها الضرائب المفروضة على البضائع والسلع في القطاع[26].
د. اجتماع "حماس" و"الجهاد" في غزة: في ظهيرة 22 أغسطس 2022، شهد القطاع اجتماعا بين الحركتين ضم عددا من كبار قادة كتائب القسام الجناح العسكري للأولى وسرايا القدس والقادة الأمنيين من الحركتين.
استهدف الاجتماع مكافحة رواسب صورة "تمزق الصف الفلسطيني"، وبخاصة بعد نشر وسائل إعلام عربية أنباء عن انسحاب حركة "الجهاد" من "غرفة الفصائل المشتركة في قطاع غزة" في 19 أغسطس [27].
كما اتجه الاجتماع إلى مناقشة ملفات القضايا المركزية على الصعيد الفلسطيني، وسبل تطوير وتصعيد مقاومة الاحتلال، وآليات تعزيز صمود ووحدة الشعب.
وانتهى الاجتماع ببيان مشترك، أكد على عدالة القضية الفلسطينية، وعلى الحق التاريخي للشعب في أرضه المباركة من نهرها إلى بحرها، وعلى الإيمان بأن المقاومة الشاملة بكل أشكالها وفي المقدمة منها المسلحة هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض والمسرى والأسرى وعودة اللاجئين.
وأن ما سوى ذلك من حلول وتسويات ما هو إلا سراب ووهم، لم يجلب للشعب الفلسطيني إلا الويلات، وتكريس الاحتلال، وزيادة الاستيطان، وتهويد المقدسات.
وتضمن البيان دعوات سياسية وحقوقية تضمنت ما يلي[28]:
1. دعوة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى الكف عن ملاحقة المقاومين الأبطال والإفراج عن المعتقلين السياسيين وخاصة في سجن أريحا سيئ الصيت، وإلى وقف التعاون الأمني مع الاحتلال والتحرر من مسار "أوسلو" الكارثي وإلى إطلاق المقاومة الشاملة حقيقةً لا كلاماً.
2. تأكيد الحركتين حرصهما على إنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وذلك من خلال تشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد يمثل الشعب الفلسطيني كاملا في الداخل والخارج.
3. دعوة أبناء الحركتين وأنصارهما إلى مزيد من التلاحم والتقارب والانطلاق يدا بيد في خدمة شعبنا ومقاومته البطلة.
ثالثا: دلالات دخول الجهاد الإسلامي
ثمة دلالات عدة لدخول حركة "الجهاد" كرقم صعب في معادلة المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والوقوف على هذه الدلالات عبر النقاط التالية:
أ. شائعات الخلاف السياسي والعسكري: الترتيب الذي اتخذته "حماس" بالتحفظ حيال عملية قوات الاحتلال ضد "الجهاد" أثار دفقا من الدعاية في داخل الكيان الصهيوني ضد الحركة الأولى.
ولعل أوضحها تصريح القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي، "زفيكا هايموفيتش"، حول وجود خلافات كبيرة مع حركة "الجهاد" يمكن أن تدفع حركة "حماس" للنأي بنفسها عما يجرى.
الدفق الإعلامي الصهيوني نتج عنه معالجات إعلامية عربية يمكن وصفها بأنها دعائية ضد حماس، كان منها على سبيل المثال ما نشره موقع "24" الإماراتي، في مستهل المواجهة.
ووصف الموقع أن تلك الترتيبات تعكس مصلحة مشتركة بين حركة "حماس" وتل أبيب ضد "الجهاد"[29]. وهي شطحة دعائية تعكس رؤية "تيار التطبيع".
هذا علاوة عن الدفق الإخباري الذي أعقب المعركة، والمشير لترك حركة "الجهاد" لغرفة العمليات المشتركة في 19 أغسطس[30].
ما يكشف عن حدود الشطحة هذا التأثير الإيجابي البالغ للعملية على شعبية حركة "الجهاد"، الذي سنتحدث عنه تاليا، والذي كان من المفترض أن يقلق حركة "حماس" بحسب هذه الرؤية؛ إلا أنه لم يفعل.
التهديد المبطن من حركة "حماس" لقوات الاحتلال، والذي عبر عن نفسه في التخوف من تأثير اتساع نطاق العملية على الكيان الصهيوني، يكشف عن حدود الاتفاق على ترك حركة "الجهاد" تدير ملف العملية بمفردها.
ويكشف عن الضوء الأخضر لاستدعائها عددا من الفصائل الأخرى؛ على نحو ما سنرى، ما جعل مسمى "وحدة الساحات" منسحبا على حركة "حماس" بقدر انسحابه على القوات المشاركة من حركة "فتح" وحركة "المجاهدين".
ب. الحاضنة الشعبية المشتركة: يشير المراقبون لمنصات التواصل الاجتماعي– باعتبارها معبرة عن الرأي العام "الافتراضي" – إلى أن مواجهة "وحدة الساحات" عكست أمرا مفاده أن الشعب الفلسطيني يقف إلى جانب من يقاوم، في إشارة واضحة إلى ارتفاع أسهم حركة "الجهاد"[31].
كلا المؤشرين: ارتفاع أسهم "الجهاد"، والتفاف أهل غزة حولها بصفتها قوة مقاومة، وجد تعبيرا عنه على أرض الواقع، ما تمثل في الأعداد الغفيرة التي شيعت جثمان القيادي العسكري فيها "خالد منصور".
إذ انطلقت مواكب تشييع "منصور" ورفاقه من المستشفى وصولا إلى منازل ذوي الشهداء الذين ألقوا نظرة الوداع الأخيرة، ثم انطلق المشيعون إلى مسجد بدر وسط رفح وأدوا صلاة الجنازة على الشهداء وسط هتافات تدعو لمواصلة مقاومة الاحتلال والانتقام للشهداء[32].
هذا علاوة على تداعيات عملية اغتيال أحد أبرز القادة العسكريين في حركة "الجهاد" "تيسير الجعبري" في مطلع العملية.
ج. صورة الردع: إلى جانب الشهداء من القيادات وتأثيره على التعاطف مع "الجهاد"؛ يبرز القصف الصاروخي الذي ردت به الحركة على عدوان الكيان، وهو الدفق الذي بلغ نحو 1000 صاروخ. وقد انقسم هذا الدفق تكتيكيا إلى مرحلتين[33]:
أ. المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي بدأتها حركة "الجهاد" بقصف بمستوطنات غلاف غزة التي تبعد نحو 10 كم تقريبا، وهي مستوطنات: صوفا، ونيرم، ونيرعوز، وكيسوفيم، ونيتفوت، وسديروت، والنصب التذكاري، واستخدمت فيها الحركة قذائف الهاون وصواريخ جراد، وصاروخ القاسم التكتيكي.
ب. المرحلة الثانية: بدأت سرايا القدس هذه المرحلة بعد ساعات من بدء المرحلة الأولى، ودخلتها بمؤازرة فصائل فلسطينية.
وقد استخدمت "سرايا القدس" في هذه المرحلة صواريخ "بدر" والنسخة المطورة من صواريخ "براق"، التي يصل مداها إلى 120 كم، وتحمل رأسا متفجرا يزن 300 كجم.
في هذه المرحلة اتسعت دائرة الاستهداف ليبلغ مداها نحو 80 كم. وفيها وصلت الصواريخ إلى مواقع مثل: لتسيون، وبات يام، وتل أبيب، وحولون، وعسقلان، وبيتسول، ومطار بن جوريون، وبئر السبع، مع تحول نوعي في مجال الاستهداف غرب القدس.
ودعمت هذه المواجهة بمراحلها صورة الحركة كشريك في تطوير سلاح المقاومة، وفي تكتيكات استخدامه، ومن ثم عززت الثقة الأهلية في حركة "الجهاد" كحركة مقاومة فاعلة، يمكنها أن تسهم في الضغط على إدارة الاحتلال، وأن تضيف لمعادلة توازن القوى والضغط، وبخاصة مع نتائج هذه المواجهة.
العامل الآخر الذي أسهم في تعزيز صورة الحركة أن عملية "الفجر الصادق"– كما أسمتها قوات الاحتلال– لم تدم أكثر من 55 ساعة[34]، وهي مدة بالغة القصر؛ إذا ما قورنت بسابقتها، المعركة التي أطلقت في 10 مايو /آيار، وأسمتها سلطات الاحتلال باسم "حارس الأسوار"، وردت عليها حركة "حماس" بعملية "سيف القدس"، واستمرت مواجهاتها 11 يوما[35].
ومما زاد من صعوبة المهمة أن قوات الاحتلال بدأت عمليتها بعد نشر "منظومة القبة الحديدية" الدفاعية، والتي قدر المراقبون نجاحها بنسبة 97 بالمئة[36]، وهو ما يعني وصول نحو 30 صاروخا من صواريخ المرحلة الثانية لأهدافها.
نسبة الوصول هذه دفعت سلطة الاحتلال إلى طلب الوساطة المصرية، وذلك خلال مدة وجيزة منذ بدء العمليات. وبدأت حركة "الجهاد" ردود أفعالها الدبلوماسية برفض مقترح سلطات الاحتلال بوقف إطلاق النار[37]. ولم تبدأ الانفراجة إلا بعد وصول وفد الوسيط المصري إلى "تل أبيب" في 7 أغسطس 2022.
د. اتساع نطاق انتشار الحركة: التأريخ للمواجهة الراهنة ينبغي معه العودة إلى الوراء قليلا للحديث عن أثر عملية "سيف القدس" في تكوين "كتيبة جنين" على يد أحد أعضاء حركة "الجهاد".
وتمكنت الكتيبة من إحراج قوات الاحتلال في أكثر من موضع، أبرزها عملية "مخيم جنين"، حيث أخرجتها دون تحقيق أهداف العملية على نحو ما ذكرنا سالفا. لتتوالى المواجهات لاحقا[38].
هـ. الوعي – الثقة: التموضع الذي بنته حركة "الجهاد" عبر هذه العملية لا يمكن الاطمئنان إليه فلسطينيا ما لم يكن قد تم في إطار التنسيق مع حركة "حماس" بصورة خاصة.
السبب في استدعاء دلالة الوعي/الثقة أن عدم توفرهما يعني إمكانية توظيف تنامي القوة لتدشين مسار عدم استقرار في قطاع غزة، وذلك عبر بناء سلسلة استفزازات لـ "الجهاد" من شأنها أن تمثل عقبة أمام قيادة حركة "حماس" للقطاع، أو استغلال زهو الانتصار لدفع الأولى نحو صدارة قد تسبب عدم استقرار.
ويمكن في هذا الإطار أن تتجه إدارة الكيان الصهيوني نحو دعم تيار المساندة القادم من إيران باتجاه حركة "الجهاد".
وهو ما قد يؤسس – من وجهة نظرها - لاحتمالات صدام مستقبلي بين الحركتين، وبخاصة إذا ما أبدت حركة "الجهاد" استعدادا لأن تكون ذراعا إيرانيا داخل فلسطين.
خاتمة
يمكن القول باطمئنان إن معركة "وحدة الساحات" كانت ردا على عملية باشرتها قوات الاحتلال مدفوعة بأغراض انتخابية محضة، إذ رغبت حكومة "لابيد" في أن تقدم نفسها كحكومة قادرة على حماية أمن الكيان الصهيوني في مواجهة حملة دعائية من جانب معسكر "نتنياهو".
غير أن قلق الكيان على الصعيد الأمني له ما يبرره، وذلك نتيجة لظواهر ميدانية جديدة عدة مقلقة، منها انخراط أبناء القيادات الأمنية الفلسطينية في عمليات الميدان، وظهور نتوءات مقاومة جديدة ونوعية مثل "كتيبة جنين" وشبيهاتها، علاوة على التطور الحادث في قوة تسليح الفصائل الفلسطينية؛ ومن بينها الجهاد الإسلامي.
يضاف لهذا ما أرادت قوات الاحتلال إيصاله من رسائل ردع وتهديد لكل من حزب الله اللبناني، وإيران، وإن كانت رسائل كهذه تصب في صالح الطرفين متلقيي الرسالة، سواء على صعيد شرعيتهما أو على صعيد تماسكهما الداخلي.
شهدت هذه المعركة تجنب "حماس" الانخراط في المواجهة، وهو ما حاول البعض إلباسه لباس مواجهة حدثت عام 2019، والتي بدا الأمر فيها وكأن ثمة خلافا مع حركة الجهاد.
غير أن المصالح الحياتية لأهل غزة، ورغبة "حماس" في بناء إطار تعددي قوي للمقاومة، علاوة على تغذية صورة الردع الحمساوية، كل هذه العوامل أدت لاكتفاء الحركة المذكورة بالمساندة اللوجيستية والتأييد مع التلويح بالتدخل في حال اتساع نطاق العدوان.
أفادت حركة "الجهاد" من العملية، حيث عمقت علاقتها بالحاضنة الشعبية، وعززت من صورتها كقوة مقاومة فاعلة تملك أدوات الصمود والرد والتفكير الإستراتيجي، وتمكنت من تطوير عملياتها رغم استشهاد القياديين البارزين "تيسير الجعبري" و"خالد منصور"، وفرضت على الكيان الصهيوني أن يطلب الهدنة، ولم تستجب لها إلا بعد الوساطة المصرية.