بينهم ضباط موساد.. لماذا تحول الانتحار إلى ظاهرة في صفوف الجيش الإسرائيلي؟
خلال عام 2021، بلغ عدد قتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي 31 شخصا لأسباب مختلفة، 11 منهم "في حوادث يشتبه أنها انتحار"، وفق ما أظهرت إحصائية حديثة.
وزعم عميد مديرية القوى العاملة الإسرائيلية "يورام كنافو" في 10 يناير/ كانون الثاني 2022 وجود استقرار في عدد حالات الانتحار بعد سنوات من تزايدها بين الجنود.
غير أن الأرقام تظهر عكس ذلك، فالعدد ارتفع من 9 إلى 11 بين عامي 2020 و2021، بحسب الإحصائيات السنوية.
وكان الانتحار السبب الأكثر شيوعا للوفاة بين الجنود خلال العامين الأخيرين. وفي 2020، أنهى تسعة منهم على الأقل حياتهم، خمسة منهم في مهن قتالية، بواقع ثمانية رجال وامرأة واحدة.
وكأحد أبرز أسباب هذه الظاهرة، يرى مراقبون أن مواجهات عناصر جيش الاحتلال مع المقاومة الفلسطينية بغزة لها تأثير مباشر على نفسية الجنود، إذ يزيد عدد المنتحرين بين العائدين من المعارك بشكل خاص.
واقع مزر
لا يمكن فصل ما يحدث داخل الجيش عما يجري بالمجتمع الذي يشهد تصاعدا في تلك الظاهرة، فنهاية 2021، أظهرت إحصاءات رسمية لمركز أبحاث الكنيست نقلتها صحيفة معاريف الخاصة أن إسرائيل تسجل نحو 500 حالة انتحار سنويا.
أما بيانات مؤسسة " فور لايف" (For Life) الإسرائيلية فتقول إن هناك أكثر من 400 حالة وفاة انتحارية (بالعموم) في إسرائيل كل عام، "لكن العدد الدقيق للحالات سنويا أعلى بحوالي 30 بالمئة".
وبينت المؤسسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أن "الفجوة الكبيرة بين الأرقام تعود إلى تصنيف السلطات السبب الرسمي للوفاة فيما يتعلق ببعض حالات الانتحار على أنها حوادث".
ومن ذلك مثلا، فيما يخص الجيش، عدم تصنيف الجندي "ت" الذي توفي في السجن بعد تسريحه من الخدمة على أنه حالة انتحار، وفق ما قالت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية مطلع 2022 في تعليقها على الإحصائية الأخيرة.
وبينت الإحصائية أن عدد الإصابات الحرجة في صفوف الجيش خلال نفس العام بلغت 67، وهو أمر يرجح ارتباطه بمحاولات الانتحار.
إذ حاول أحد الجنود المعاقين في الجيش الانتحار أمام قسم إعادة التأهيل في الوزارة في منطقة "تل هشومير" على الهواء مباشرة عبر صفحته على فيسبوك.
وسرعان ما وصل إليه "حراس الأمن" ونقل إلى المستشفى وهو في وعيه. وقال أصدقاؤه عقب الحادث: "لن نسكت على ذلك".
وأظهر تحقيق أولي أجرته وزارة الجيش أن هذا الجندي، معترف به منذ عام 1994 بإعاقة جسدية بنسبة 11 بالمئة، وقبل حوالي أسبوعين من محاولته الانتحار قدم طلبا للاعتراف به كمصاب ما بعد الصدمة، لكنه يبدو أنه لم يرد على طلبه.
ولوحظ في الأشهر الأخيرة زيادة في عدد الجنود المصابين الذين يحاولون الانتحار؛ لعدم اعتراف الجيش بإعاقاتهم، وهو ما قد يصنف ضمن الأسباب التي تدفعهم لإنهاء حياتهم.
ومما لم تكشفه الإحصائيات الأخيرة، إقدام 3 من ضباط جهاز الاستخبارات الخارجي الإسرائيلي "موساد" على وضع حد لحياتهم خلال عام.
وقالت القناة 12 الإسرائيلية (خاصة)، في 25 ديسمبر/ كانون الثاني 2021، إن "أيالون شابيرا" كان أول الضباط المنتحرين في الموساد.
وقال والده "موشيه" للقناة إنه "كان يشعر بأنه يعيش في تنافر بين حالته النفسية ومنصبه المرموق والكثير من المسؤولية والتقدير".
ويضيف موشيه: "كان أيالون يذهب إلى طبيب نفسي مرة في الأسبوع على نفقته الخاصة وينتقل من هناك إلى الموساد ويؤدي مهامه في كل من إسرائيل والخارج".
وبحسب القناة، أقدم ضابط الموساد على الانتحار في 26 مارس/ آذار 2020، دون أن تكشف أي تفاصيل عن ملابسات انتحاره.
وبعدها بشهور انتحر جندي وضابط في حادثين منفصلين داخل مقر الجهاز في إسرائيل دون مزيد عن الأسباب والملابسات.
وعن الأسباب، قالت القناة: "في المنظومة العسكرية بإسرائيل أدركوا خلال السنوات الأخيرة أن المقاتلين الذين يضغطون على الزناد يحتاجون إلى مساعدة نفسية. حان الوقت لإدراك أنه حتى أولئك الذين يضغطون على لوحة المفاتيح في الأنشطة التي تحصد الأرواح يحتاجون إلى شخص يرعاهم".
وتحدثت وسائل إعلام عبرية أيضا عن الاحتياطات المشددة لمنع تفشي فيروس كورونا بين صفوف أفراد الجيش وتأثيرها على وضعهم النفسي ما قد يدفعهم إلى الانتحار.
علاقة غزة
إضافة إلى الأسباب السابقة، يقول مسؤولون عسكريون إن الجيش الإسرائيلي يروي صورة منفصلة عن الواقع لما يجري من حوله، كما حدث أثناء عملية “حارس الأسوار” (العدوان على غزة في مايو/أيار 2021).
فالقصة الكاملة للهجوم على مترو (أنفاق) حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي قدمت على أنها نجاح كبير، تبين فيما بعد أنها بعيدة عن الواقع، كما كشفت صحيفة معاريف وغيرها من وسائل الإعلام مما أضر بثقة الجمهور.
وقالت معاريف في 7 يناير 2022: "يمكن إضافة العديد من الحالات التي جرى الكشف عنها في وسائل الإعلام مؤخرا إلى قائمة عمليات التستر والإخفاء التابعة للجيش، ومنها قضية الانتحار".
ويوضح الباحث بالشأن الأمني والعسكري رامي أبو زبيدة أن "الكثير من الجنود الذين ينخرطون في الخدمة العسكرية بالجيش الإسرائيلي صرحوا في مناسبات عدة عن عدم رغبتهم في العمل، وخاصة بعد المعارك التي يشنها الكيان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما يخوضه من حروب، حيث يرى الجندي أنها تعرضه للخطف والقتل".
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العنصر البشري هو الأهم في أي قوة عسكرية، تعكس هذه المؤشرات كلها ضعفا جذريا في منظومة الجيش الإسرائيلي الهشة جدا، رغم كل ما تطوره من تقنيات ومعدات لحماية وتأمين وتتبع قواتها، وفق أبو زبيدة في مقال بموقع "المجد" الأمني (تابع لحماس).
وبين أبو زبيدة في مقاله نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2021 أنه "بحسب الدراسات الأخيرة نجد أن أغلبية المنتحرين هم العائدون من ميدان المعارك، ومعظم الجنود الذين انتحروا عانوا مدة طويلة من قلق بشأن المستقبل، وعاشوا حالة إحباط مستمر وارتباك شديد وشعور بعدم الانتماء للإطار العسكري".
وفي المجمل، يمكن ربط حالات الانتحار والتهرب من الخدمة العسكرية بالعمليات والمعارك التي تجري مع المقاومة، فبعد أي عملية عسكرية كبيرة نلحظ ارتفاع عدد الجنود الذين خضعوا لعلاج نفسي، بحسب قوله.
وبعد أيام من صدور إحصائية الانتحار الأخيرة، هاجمت صحيفة "يسرائيل هيوم" في 14 يناير 2022، رئيس الأركان في الجيش أفيف كوخافي بشكل مباشر.
وقال المحلل العسكري فيها، يوآف ليمور، في مقال شديد اللهجة "كوخافي دخل اليوم سنته الرابعة والأخيرة في المنصب، وبدلا من أن يترك موقعه في وضع يكون فيه الجيش محلقا إلى الأمام، يجد نفسه مضطرا إلى مواجهة سلسلة أزمات تخيم على خططه العظيمة".
وأردف: "كوفاخي يتجه كطبيعته إلى ضرب رأسه بالحائط، فهو لا يتقبل نصائح، ولا يصغي إلى الانتقادات. لديه عقدة معروفة لدى القادة: يحيط نفسه بأشخاص رائعين، لكنهم يرددون أفكاره ولا يطرحون أفكارا متحدية له. ومن يحاول فعل ذلك يجري استبعاده".
وأشار ليمور إلى انخفاض ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش، كما ورد في مؤشر المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، واعتبره "بداية اتجاه خطير وينبغي اتخاذ خطوات للجمه، لكن كوخافي لم يفعل شيئا".
وتابع ساخرا أن "إنجاز الجيش الإسرائيلي في الامتحان الحقيقي الوحيد خلال ولاية كوخافي، عملية حارس الأسوار العسكرية كان محدودا جدا. ولم ينبع ذلك من مشكلات عسكرية، وإنما من أمر آخر، هو سقف توقعات مرتفع للغاية، الذي تحطم على أرض الواقع الغزي".
إجراءات مضادة
في محاولته لحل الأزمة، تناول رئيس شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي الجنرال موتي ألموز موضوع الانتحار.
وقال في يناير 2021، إن جميع القادة في هيئة الأركان يخضعون لورشة عمل مع محترفين للتعامل مع هذه القضية.
ونقل تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" وقتها عن الجنرال أنه "جرى استخدام قدرات الكشف التكنولوجي، وأنقذنا أربعة جنود كانوا على وشك إنهاء حياتهم، ونحن نتوخى الحذر بسبب عواقب وباء كورونا".
وبين أن "الجيش الإسرائيلي يزيد من استخدام الوسائل السريعة لتحديد مكان الجنود المفقودين، أو أولئك الذين تتعرض حياتهم للخطر، ونستثمر بكثافة في المعلومات والمراقبة، ويتعين على كبار الضباط تحديد مكان العلامات الإرشادية، وإجراء مقابلات مع الجنود".
وأكد أن "أهم ما تفعله الجهات العسكرية في الجيش الإسرائيلي استخلاص الدروس من حالات الانتحار السابقة؛ لأن هناك مجموعة كاملة من الجنود قد يعيشون لأيام وشهور في ضائقة نفسية، ولم يقرروا بعد ما إذا كانوا سينتحرون".
وأوضح أن "تزايد حالات الانتحار في أوساط الجيش يشير إلى تنامي الاضطرابات العقلية بين جنوده".
وأجرى نظام الصحة النفسية بالجيش ألف جلسة فيديو مع الجنود، وتبين وجود قفزة بنسبة 40 بالمئة في الاستفسارات النفسية والعقلية الواردة.
واستلم الجيش 1710 طلبات من الجنود، بما فيها 26 جرى تصنيفهم معرضين للخطر.
وفي بعض الحالات، جرى تحديدهم على وشك إنهاء حياتهم، بالإقدام على الانتحار، وفق ما قال ألموز وقتها. واستدرك أنهم "منعوا حوالي 400 محاولة انتحار خلال العام 2021".
وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت مطلع 2021، أن قيادة الجيش تواجه ظواهر الانتحار بين الجنود، عبر مواصلة تقليص عدد البنادق المنتشرة في أيديهم، بحسب خطة أقرت مؤخرا.
وبينت أن الجيش بات يسحب البنادق ممن لا يتوجب عليهم حملها في أثناء مهامهم، كالجنود العاملين في الوحدات الداخلية، أو من يمرون بدورات تأهيل غير هجومية، في محاولة للحد من ظاهرة الانتحار.
ومطلع يناير 2021، قالت صحيفة هآرتس العبرية تعليقا على الإحصاءات الأخيرة إن الجيش طور وسائل مختلفة وبرامج مخصصة للحد من ظاهرة الانتحار بين الجنود.
وخلصت إلى القول إنه "من اللافت أن موت الجنود بالانتحار يفوق موتهم بالحوادث والأمراض وحتى من جراء العمليات العسكرية".