أفنوا أعمارهم في تعميرها.. "فئات مستحقة" تستثنيها دول الخليج من التجنيس

أحمد يحيى | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

من بين 59 مليون شخص يعيشون في الدول الست الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي يقيم نحو 23 مليون وافد بأسرهم، مشكلين قرابة نصف التعداد السكاني، بحسب تقديرات منظمة العمل الدولية للعام 2020/ 2021.

دأبت العادة أن الأجانب المقيمين يبقى كثير منهم لبضع سنوات ثم يرحلون، بينما يقضي آخرون عقودا طويلة في العمل، ثم تجابههم مسألة الرحيل القسري في نهاية المطاف بحكم انتهاء التعاقد.

ويمثل ذلك أزمة حقيقية وإنسانية في السعودية، والكويت، وقطر، والبحرين، وسلطنة عمان، والإمارات، ما دفع صحفا ومنظمات حقوقية للحديث عن هذه الظاهرة. 

ورغم أن بعض دول الخليج بدأت في تخفيف قيود الإقامة والسماح بإقامة دائمة، إضافة إلى رفع حظر التجنيس، ومنحها بشكل انتقائي لمجموعات بعينها، لكن تبقى المشكلة قائمة أمام جموع الوافدين، خاصة الأجيال التي ولدت في تلك الدول، وربما لم تعرف وطنا آخر. 

تقدم وغموض

وبعنوان "انتقاء المجنس"، نشرت مجلة "إيكونوميست" البريطانية، تقريرا في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2021، عن ملف التجنيس في دول مجلس التعاون الخليجي.

وأوضحت المجلة أن الملف على مدار الأعوام القليلة الماضية حدث فيه شيء من التقدم الطفيف، لكنه يستحق العناية، بعدما قدمت بعض دول الخليج الجنسية لمجموعة مختارة من الأجانب على أراضيها. 

وكانت هذه العينة المختارة بين ملايين المقيمين متمثلة في الأطباء والمخترعين والعلماء البارزين، الذين يمكن أن يحققوا فائدة مستقبلية للبلاد على الصعيد العالمي. 

وأضافت أن دول الخليج طالما شعرت بالتوجس من فكرة منح الجنسية للمغتربين، خشية من تغير هويتهم الوطنية، إضافة إلى أن الأنظمة هناك بشكل عام ليست حريصة على تقديم خدمات مكلفة للأجانب على غرار المواطنين.

وذكرت أنه بالنسبة لمعظم الأجانب تنطوي الحياة في الخليج على سلسلة من تأشيرات العمل قصيرة الأجل، وعندما تتوقف إنتاجيتك، تنتهي إقامتك.

وأوضحت المجلة البريطانية أن الأمر بدأ يتغير ببطء، في يناير/ كانون الثاني 2021، مع تصريح الإمارات أنه يمكن ترشيح بعض الأجانب، مثل الأطباء والمخترعين والعلماء، للحصول على الجنسية.

وأعلنت السعودية في نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام أنها بالفعل قامت بتجنيس عدد محدد (غير معلن) من الوافدين. 

لكن الآلية الأكثر إجراء التي انتهجتها معظم هذه الدول، هي منح تأشيرات إقامة طويلة الأمد لا تتطلب عملا. 

وبحسب خطة جديدة للحكومة الإماراتية، فإنها سوف تسمح للوافدين بالتقاعد في الدولة بدلا من العودة إلى الوطن.

ميثاق معقد

كانت مسألة منح الجنسية والتملك لأجنبي وافد من المحرمات التي طالما كانت مفروضة داخل مجلس التعاون الخليجي، مهما بلغ شأنه أو علا مقامه. 

وفيما كسر حكام الخليج هذا الأمر مؤخرا لكنهم أبدا لن يتجاوزوا الميثاق الذي يتعامل مع الجنسية على أنها هدية تمنح لمن هو جدير من السكان، وتسلب من الذين ارتأت فيهم التمرد وعدم الأهلية، حتى من المواطنين أنفسهم كما فعلت الإمارات بسحب جنسية كثير من المعارضين. 

فبحسب المادة 16 من قانون الجنسية الإماراتي رقم 17 لسنة 1972 والقانون المعدل عليه، تنص على أنه: تسحب الجنسية عن المتجنس إذا أتى عملا يعد خطرا على أمن الدولة وسلامتها أو شرع في ذلك ".

وليست الإمارات وحدها، حيث يوجد في العديد من دول الخليج سكان ما يسمى البدون (أشخاص دون جنسية)، ولم يسجلوا كمواطنين عند الاستقلال. 

الكويت مثلا لديها ما لا يقل عن 100 ألف من البدون، وهم مستبعدون بشكل تام من الوظائف المهمة والخدمات الاجتماعية. 

وهو ما يجعل جزءا من الوافدين في معضلة تساؤلات هل سيحصلون على حقوق، هي محرمة في الأساس على بعض المواطنين الخليجيين منذ أكثر من نصف قرن؟

ما بعد النفط 

ولطالما لعبت العمالة الوافدة دورا بارزا في التكوينات المجتمعية الجديدة في دول الخليج، منذ مطلع الثلاثينيات، حيث انطلقت الثورة النفطية الضخمة التي تكشفت في هذه المنطقة. 

ففي عام 1938 عندما بدأ التنقيب عن النفط في كل من السعودية والكويت وقطر، ثم شهد عام 1962 الدخول إلى الإمارات وعُمان، كان الوضع يشهد طفرة مختلفة مع توافد أعداد كبيرة من العمالة الوافدة وأصحاب الخبرات إلى المراكز الجديدة التي سوف تحقق نهضة غير مسبوقة في سنوات معدودة. 

على مدار عقود اتسع حجم العمالة، وضمت جنسيات ومللا متعددة، لم تقتصر على الدول العربية ودول الجوار فقط، بل امتدت إلى آسيا الوسطى والشرق الأقصى. 

وهو ما أكده مركز الجزيرة للدراسات في ورقة بحثية بعنوان "العمالة الوافدة في دول الخليج: واقعها ومستقبلها" أصدرت في 6 سبتمبر/ أيلول 2015.

وأوضحت الورقة أن "العمالة الوافدة مكون أساسي في سوق العمل بدول الخليج، وتشارك في عديد من القطاعات الاقتصادية مثل النقل وأعمال البناء وتكوين مؤسسات تجارية أخرى".

وأضافت  أن "العمالة الوافدة تشكل أكثرية القوى العاملة في جميع دول الخليج، فضلا عن أنها تمثل غالبية السكان في 4 دول منها، هي: الإمارات والبحرين والكويت وقطر.

وأشارت إلى أن العمالة الوافدة في الخليج هي الأكبر على الإطلاق من حيث المعدلات العالمية لاستقبال الوافدين.

وتابعت أن هذا الوضع خلق مجموعة من المشكلات فيما يتعلق بحقوق العمالة وتحديات البقاء في ظل النمو السكاني وارتفاع معدلات البطالة داخل تلك الدول. 

وأرجعت الورقة أن الاهتمام المتصاعد من حكومات دول الخليج بحقوق العمالة الوافدة أطلق عام 2008، وشمل حق التجنيس، من أجل جذب الأجانب الموهوبين والاحتفاظ بهم، وهو جزء من تدافع أوسع لتنويع الاقتصادات النفطية. 

واختتمت بذكر حقيقة أنه "بالنسبة لمعظم الأجانب والعديد من السكان المحليين سيظل طريق الجنسية مسدودا".

أزمة كورونا 

وبرزت أزمة العمالة الوافدة في دول الخليج عندما جاءت أزمة كورونا العالمية، التي مثلت اختبارا حقيقيا لطبيعة العلاقة بين الوافدين والحكومات الخليجية، فبدلا من احتوائهم، تم التضحية بهم تباعا خلال أشهر معدودة. 

ووفقا لتقرير موقع "المونيتور" البريطاني، في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020، ثمة أزمة غير مسبوقة واجهت ملايين الوافدين في دول الخليج جراء التأثير الاقتصادي الفادح لانخفاض أسعار النفط، وتداعيات كورونا، إضافة إلى سياسات التوطين التي تتبناها دول إقامتهم من جانب آخر.

وأكد أن العوامل الثلاثة دفعت أكثر من نصف مليون من العاملين الوافدين إلى المغادرة خارج دول الخليج. 

وهو ما أكده تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2020، حيث أكد أن رحيل الوافدين هذا العام أكبر مما أعقب الأزمة المالية عامي 2008 و2009 وتراجع أسعار النفط عامي 2014 و2015.

وفي 15 فبراير/ شباط 2021، أعلنت وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" للتصنيف الائتماني، أن "عدد سكان دول الخليج انخفض نحو 4 بالمئة في عام 2020، نتيجة لنزوح المغتربين عقب اندلاع أزمة كورونا، وانخفاض أسعار النفط". 

ومع أن العمالة تأثرت وتم الدفع بها إلى الرحيل في أتون الأزمة، وفي ظل سياسة التوطين المتبعة، لكن عددا من الباحثين حذروا من التداعيات السلبية لتلك العملية، منهم "روبرت موجيلنيكي"، الباحث المقيم لدى معهد دول الخليج العربية في واشنطن.

وحذر موجيلنيكي من الآثار الارتدادية للسياسات التي تتبناها الدول الخليجية بقوله: "الوافدون ليسوا مجرد ترس في آلة، إنهم يلعبون دورا مكملا في إعادة تدوير رأس المال محليا مما يساعد في دعم اقتصادات الخليج".

وأضاف أن "خسارة الكثير من السكان في وقت واحد ستساهم في خسارة مفاجئة في الاستهلاك المحلي، ما يزيد من الضغوط على النمو الاقتصادي". 

فضلا عن الحقوق الإنسانية والأساسية لتلك العمالة الضخمة وأسرهم الذين عاشوا لسنوات في زمام دول الخليج. 

 

تجارب مريرة 

وعن تجربته في العمل بالسعودية، قال المعلم المصري طاهر علي، "ذهبت إلى المملكة مطلع الثمانينيات كمعلم رياضيات للصفوف الثانوية العامة، وكانت البلاد آنذاك في ذروة استقبالها للوافدين والعمالة، خاصة المعلمين والأطباء وأصحاب المهن الحرفية".

وذكر لـ"الاستقلال": بدأنا بداية جيدة للغاية بعقد عمل مرتفع عما نتقاضاه في بلادنا، إضافة إلى دورنا البارز في نهضة وتعليم أهالي تلك البلاد، فعلى مدار أجيال كان المعلم الوافد هو الأساس الذي يساهم في تكوين الأجيال، وغرس بذور أفكارهم وهويتهم الوطنية". 

وتابع: "قضيت في الرياض ما يقارب 30 سنة، أي معظم عمري تقريبا، لم أزر مصر إلا شهرا أو شهرين في العام الواحد، ولنا زملاء في قطاع التدريس أو المهن الأخرى لم يذهبوا إلى بلادهم من الأساس، وظلوا سنوات طويلة داخل المملكة، وانقطعت صلتهم بكل ما هو خارجها تقريبا، خاصة أولئك القادمون من الهند أو بنغلاديش أو باكستان".

"وبعد كل ذلك وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف مجبرين على الرحيل والعودة من حيث أتينا وكأن شيئا لم يكن، وكأن هذه السنوات كانت هباء منثورا"، يضيف علي.

كما طالب بوضع قوانين جديدة تراعي تلك المسألة، فإن العطاء لا يتوقف على كون الإنسان مخترعا أو ذا حيثية علمية رفيعة، هناك نقاط اجتماعية وإنسانية، من حيث طول مدة الإقامة وما قدمه من خدمات على المدى الطويل، ووجود أسر نشأت وترعرعت في البلاد، وسيدفعون ثمن العودة وهم لم يعرفوا وطنا إلا ذلك الذي ولدوا فيه". 

ثم قال: "ورغم أن بعض دول الخليج بدأت في إصدار إقامة دائمة للمقيمين منذ مدة طويلة وبلغوا سن التقاعد، لكن هذا لن يكون ذا أثر لكثير منهم في حالة الوفاة، لأنه سيؤدي إلى نفس الإشكالية إلى أبنائهم، وهذا أصعب".

وأردف: وقد رأينا أن كثيرا من دول العالم تمنح الجنسية لمن يستقرون فيها بضع سنوات، وهم ليسوا من نفس العرق أو الدين، ما بالنا بالذين أفنوا أعمارهم هنا، ويتكلمون نفس اللغة، وعلى دين واحد، إضافة إلى القومية العربية، وهو ما يعزز فرص الحصول على الهوية الوطنية".

واختتم علي حديثه بالقول إنه حين انتهت مدة تعاقده الطويلة وطلب منه مغادرة المملكة، لم يشعر بأن غربته انتهت بل بدأت، وكان عليه العودة لبداية حياة جديدة وهو قد بلغ الستين من عمره، ثم وصف وضعه بالهين أمام أصدقاء ولدوا وعاشوا هناك وطلب منهم العودة إلى بلاد لم يذهبوا إليها أبدا.