عبر استمالة العشائر.. لماذا بدأت روسيا التقرب من مليشيات إيران شرقي سوريا؟
تواصل روسيا التشبيك مع العشائر العربية صاحبة الثقل السكاني شرق سوريا، ضمن سعيها لإبرام اتفاقات تضمن تحركاتها لتعزيز نفوذها في المنطقة دون أن تتعرض دورياتها العسكرية للاستهداف.
وتبدو القوات الروسية بحاجة أكثر من أي وقت مضى لتسهيل تنقل دورياتها إلى قواعدها شرق سوريا، دون اعتراضها من الأهالي بين مناطق نفوذ النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" في المحافظات الثلاث (الحسكة – ديرالزور – الرقة).
لكن ذلك لن تحصل عليه روسيا إلا بموافقة وضمان من العشائر العربية التي تنتشر في مدن وقرى على الطرق الرئيسة الواصلة بين المحافظات الثلاث المذكورة آنفا.
ولذا باتت التحركات الروسية تشهد تقاربا في هذا الاتجاه؛ علها تضمن ولاء بعض العشائر العربية التي يدين قادتها بالولاء لإيران وتتلقى منها دعما عسكريا وماليا.
وهذا يستدعي توافقا جديدا في المنطقة بين إيران وروسيا بما يضمن مصالح الطرفين، إذ تعاني طهران من استهداف مباشر لمواقعها عبر الطيران المجهول بشكل متكرر، فيما تبدو موسكو مستعدة للاستفادة من هذا الجانب الرخو لطهران.
استمالة العشائر
وبشكل علني ظهر نواف راغب البشير، قائد مليشيا محلية تدعى "أسود العشائر" وتدين بولائها المطلق لإيران، وهو على متن مروحية روسية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في جولة فوق مناطق سيطرة قوات "قسد" بريف دير الزور الغربي.
والبشير هو زعيم قبلي كان من أشد معارضي رئيس النظام بشار الأسد قبل أن ينشق عن المعارضة ويعود إلى حضنه الأول من بوابة إيران في مطلع يناير/كانون الثاني عام 2017، ويشكل مليشيا محلية من قبيلته بدير الزور، تتبع مباشرة للحرس الثوري الإيراني.
وينتمي البشير لقبيلة البكارة، وهي إحدى كبرى العشائر العربية بسوريا، ويقارب تعداد قواته التي شكلها من العشيرة نحو ألف مقاتل تلقوا التدريب على يد المليشيات الإيرانية.
ورغم أن "أسود العشائر" تدين بولائها المطلق لإيران، فإن الوقائع الميدانية تشير إلى محاولات روسية لكسبها إلى صفها وإن كان ضمن صيغة معينة تقبلها طهران.
إذ سبق وأن أرسلت القوات الروسية عناصر من مليشيا "أسود العشائر" إلى قطاعات البادية السورية للتصدي لهجمات تنظيم الدولة في أواخر سبتمبر/أيلول2021.
ورغبة موسكو في استخدام الثقل العشائري في زيادة نفوذها شرق سوريا تأتي في سياق حالة الرفض الشعبي للوجود الروسي، خاصة في مناطق قوات "قسد".
لذا فإن روسيا تعمل حاليا على خلق نوع من كسب ود العشائر الموجودة في مناطق سيطرة النظام السوري على الضفة اليمنى من نهر الفرات في دير الزور كجسر عبور مبدئي لبقية أفراد العشيرة على الضفة الأخرى اليسرى من النهر التي تسيطر عليها "قسد".
فصيل بالواجهة
وفي هذا الإطار يرى القيادي السابق في الجيش السوري الحر المعارض شرق سوريا، صالح الحميدي أن "روسيا تعمل على جذب شيوخ العشائر رغم أنها تدرك وجود خلافات وتناقضات كبيرة داخل العشيرة الواحدة لكنها تسعى لأن تضمن ولاء مجموعات منها لتعمل على تسليحها وتقديم الدعم لها بصفة عشائرية بحتة".
ويضيف الحميدي لـ "الاستقلال" أن ما يميز تجنيد روسيا لفصيل عشائري من عشيرة واحدة يتبع لها "هو تمكينها من تحويل أي اعتداء على أرتالها إلى اعتداء على العشيرة وهذه حساسية بالغة الأهمية تلعب عليها موسكو في المجتمع القبلي الذي لا تزال المنطقة الشرقية تسير على عاداته وتقاليده بنسبة مقبولة".
كما أن "بعض شيوخ العشائر ينظرون إلى روسيا لدورها الفاعل كقوة عسكرية كبرى على الساحة السورية، وهذا يعني أن هناك مصالح شخصية تتعدى حدود القبيلة، فمثلا نواف البشير لا يملك التأثير الكامل على قبيلته كلها الذين يوجدون بمناطق الأسد"، وفق الحميدي.
ويزيد القيادي بالجيش الحر بالقول إن "مسألة انتقال المليشيات المحلية الموالية لإيران إلى الكفة الروسية ليست بهذه السهولة، لكن ما هو واضح أن التغلغل الروسي يعني أن إيران تنتظر خلف الباب لتدخل مباشرة هذا ما أثبتته الأيام بكثير من مناطق سوريا".
وفي محاولة من النظام السوري لاستمالة شباب العشائر في مناطق قوات قسد إلى صفوفه، عمد النظام برعاية روسية إلى الدعوة لتسوية شاملة في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
وتشمل الدعوة المتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية وحتى المطلوبين أمنيا في محافظة دير الزور، وذلك بحصول الشخص على بطاقة تسوية لمدة عام يستطيع التنقل بها دون التعرض له من قبل الحواجز الأمنية.
واللافت أن عملية التسوية التي أجريت في صالة رياضية بمدينة دير الزور حضرها ضباط روس كبار إلى جانب مدير المخابرات العامة لدى النظام السوري اللواء حسام لوقا.
ويعرف لوقا بأنه خبير في التسويات والمصالحات، وأنه تمكن بنهاية أغسطس/آب 2021 من إخضاع محافظة درعا لنفوذ الأسد بعد أن قاد مفاوضات تسوية مع الأهالي بدعم روسي.
تحركات وتسويات
وفي هذا السياق، ربط الحميدي إطلاق عمليات التسوية بدير الزور مع تحركات روسيا لتشجيع الشباب الفارين من مناطق النظام السوري للعودة وإبرام تسويات جديدة معه.
ولفت الحميدي إلى أن "روسيا حرصت على جلب شيوخ أغلب العشائر إلى الصالة للترويج لعمليات التسوية مع النظام، وحث أبناء عشائرهم الموجودة بمناطق قوات قسد للعودة إلى حضن الأسد وكأن شيئا لم يكن".
وكانت مواقع سورية معارضة اتهمت النظام السوري بفبركة عمليات التسوية بدير الزور، ولا سيما بعد جلب عشرات الشباب من عناصر المليشيات المحلية وإظهارهم أمام عدسات الكاميرا على أنهم قدموا لإجراء التسوية الأمنية.
وسبق أن زادت روسيا من الزخم العسكري لترسانتها حول مناطق شمال شرقي سوريا، والتي تحوم حولها عملية عسكرية تركية مرتقبة لطرد فروع حزب العمال الكردستاني "بي كا كا" منها بدعم من الجيش الوطني السوري المتحالف مع أنقرة.
ويبدو واضحا أن موسكو تسير نحو ترتيبات جديدة شرق سوريا، وهذا ما دفع قوات قسد للتعامل مع السيناريوهات المحتملة كافة التي ستعصف بمناطق وجودها شمال شرقي سوريا في حال أي انسحاب أميركي مفاجئ، أو اقتصاره على قواعد عسكرية ثابتة ربما بعيدا عن المدن، يفسر التحركات الروسية على أكثر من صعيد.
وكانت القوات الروسية ألقت بالون اختبار في مناطق شرق الفرات بدير الزور، حينما أقدمت في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021 على تسيير رتل عسكري يتبع لها مرورا بقرى وبلدات تخضع لقسد للوصول إلى ريف الرقة الشمالي حيث قواعدها العسكرية هناك، إلا أنها فشلت في ذلك بسبب قطع الأهالي للطرق.
وحينها تأكدت روسيا من قوة الثقل الشعبي هناك من المكون العربي الذي يشكل مئة بالمئة من القرى والبلدات.
ولا سيما أن الأهالي يرفضون إجراء أي اتفاق يبرم من وراء ظهورهم بين قوات قسد وروسيا حول مصير تلك المناطق، مفضلين بقاءها على وضعها الراهن تحت نفوذ قسد لأخف الضررين، على أن تصبح بين ليلة وضحاها تحت سيطرة النظام السوري.
استثمار روسي
ويؤكد العقيد لـ "الاستقلال" أن "روسيا استثمرت في الانسحاب الأميركي الذي سبق عملية نبع السلام وسيطرة القوات التركية فيها على تل أبيض ورأس العين بريف الرقة في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019".
وبين الأسمر أن "موسكو بات لها مواضع أقدام وقواعد في شرقي الفرات في عين عيسى بريف الرقة ومنبج شرق حلب، إضافة إلى أنها أنشأت عدة معسكرات لها بالمنطقة الممتدة من منبج غربا وحتى القامشلي ومطارها شرقا، مزودة تلك المعسكرات بعشرات المركبات الثقيلة وبمختلف أنواع الأسلحة".
وذهب للقول: "إنه في الوقت الحالي تستثمر موسكو في التهديدات التركية ضد مليشيا قسد لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية وذلك بإخافتها من تكرار سيناريو طردها من مدينة عفرين بريف حلب، ومن مناطق نبع السلام شمال شرق سوريا".
وكذلك "عدم وقوف أحد إلى جانبها أمام المد التركي وذلك لإجبارها في عملية أشبه للابتزاز بالتقرب من النظام وتسليمه المناطق الحدودية بعمق 30 كم والتنسيق معه عسكريا ضد أي عملية تركية محتملة"، وفق العقيد.
ورأى العقيد أن "هناك تنافسا على مناطق النفوذ في المناطق الشرقية بين إيران وموسكو وكل منهما يحاول تثبيت وجوده وديمومته ويستغل العوز وفقر المنطقة في تجنيد مليشيات عشائرية تخدم أهدافه وتكون له أذرعا تنفذ تكتيكاته وتزيد من نفوذه وتقلل في نفس الوقت من الخسائر في صفوف قواته".
ويشير الخبير العسكري إلى وجود "تنافس ما بين موسكو والحرس الثوري الإيراني في المناطق الشرقية من سوريا، وتحديدا في محافظة دير الزور، وكل منهما يثير قلق ومخاوف الآخر والخشية من إضعاف وجوده ووجود مليشياته في المنطقة".
ويضيف: "مما دفع الطرفين وللضرورات التكتيكية المرحلية لبذل المزيد من الجهود في سعيه المتواصل لكسب ود العشائر العربية للحفاظ على العلاقة المصلحية معها، في محاولة لكل منهما قطع الطريق على الآخر مما يعني أنها ضرورات مرحلية".
يذكر أن روسيا ومنذ مطلع عام 2021 ركزت بشكل أساسي على ملف العشائر العربية شرق الفرات وفتحت باب مطار القامشلي الذي يعد بمثابة القاعدة الروسية الثالثة لها في سوريا، لاستقبال شيوخ العشائر وفتح نقاشات معهم حول مستقبلهم والاستجابة لمطالبهم، إلا أن شيئا لم يتحقق، بل بقيت تلك المناقشات حبيسة جدران القاعدة.