ديون ضخمة وآفاق سلبية.. ما الحلول المتاحة لأزمة تونس الاقتصادية؟
تماهيا مع تفاقم الأزمة السياسية في تونس، يشهد الوضع الاقتصادي في البلد تعثرا متسارعا وسط توقعات بإمكانية الوصول إلى حالة الانهيار التام، فأمام العجز الذي تشهده الموازنة العامة للدولة وضعف الموارد من العملة الصعبة، تراجع التصنيف الائتماني لتونس للمرة التاسعة منذ عام 2011.
ففي 8 يوليو/تموز 2021، أعلنت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني "فيتش رايتينغ" تخفيض الترقيم السيادي لتونس من "B" إلى "B-" مع آفاق سلبية، بسبب الأزمة السياسية التي تواجهها البلاد.
وذكرت وكالة "فيتش" في تقريرها: أن "خفض التصنيف، والتوقعات السلبية لتونس، يعكس زيادة مخاطر السيولة المالية في ظل الضبابية التي ترافق عملية الإصلاح الاقتصادي، مع المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي".
واعتبرت الوكالة أنه "لا مفر للحكومة إلا الحصول على تمويل من الدائنين الدوليين حتى تواجه أزمة سيولة محتملة".
وأثار التصنيف الأخير مخاوف حول عجز تونس عن سداد ديونها، خصوصا وأنها مطالبة نهاية يوليو/تموز 2021، بسداد قرضين خارجيين بقيمة 500 مليون دولار لكل قرض.
ونهاية 2020، بلغت ديون تونس مستوى قياسيا يقدر بحوالي 92.8 مليار دينار (33.8 مليار دولار)، أي بارتفاع يناهز 11.3 بالمئة مقارنة بالعام الذي سبقه (2019)، وهو ما يعني أنها اقتربت من 90 بالمئة، بعدما كانت عند نحو 37 بالمئة عام 2010.
عجز عن السداد
وحول هذا التراجع، قال الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، إن "مصادر العملة الصعبة لتعبئة الموارد الخارجية لميزانية الدولة تكاد تكون منعدمة، لأن قطاع السياحة متوقف وإنتاج الفوسفات معطل، وتونس مقبلة على تسديد ديون ضخمة".
وأكد الشكندالي لـ"الاستقلال"، أن "الحل الوحيد لتونس هو إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي".
وأشار إلى أن الدول الداعمة للانتقال الديمقراطي في تونس على غرار الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أبدت استعدادها مساعدة تونس، "لكنها لن تمضي في هذه المساعدات ما لم تمض تونس اتفاقا مع النقد الدولي".
وتسعى تونس إلى الحصول على قرض جديد بقيمة 4 مليارات دولار من صندوق النقد، حتى يتسنى لها مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي كبلتها التجاذبات السياسية وزادت من أعبائها المشكلة الصحية الناتجة عن تفشي جائحة كورونا.
وشدد الشكندالي على أن التوصل حاليا إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي "صعب باعتبار وجود معارضة كبيرة له في البرلمان، والحزام السياسي والبرلماني للحكومة ضعيف، وهذا يعطل إنفاذ الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد تونس".
واعتبر أن "هذا الوضع يهدد بنزول تونس إلى الترقيم الأدنى في التصنيف الائتماني وهو (C)، ما يعني العجز نهائيا عن سداد الديون وهذا يؤدي إلى الانضمام إلى نادي باريس".
وأوضح الخبير أن نادي باريس يضم الدول المصنفة تصنيفا سيئا و العاجزة عن تسديد ديونها، وتكون مطالبة بإعادة جدولة ديونها.
وتابع: "إذا انضمت تونس إلى نادي باريس فهذا يعني عجزها عن تسديد ديونها وهذا سيحدث لأول مرة في التاريخ ويمس من صورة تونس، وقد يجعل الدول التي كانت تبدي استعدادها مساعدة تونس تتراجع؛ لأن تونس ستصبح غير قادرة على سداد تلك المساعدات".
وشدد الشكندالي على أن "هذا سيؤدي إلى مشاكل كبيرة جدا على مستوى المالية العمومية وتضاعف الصعوبات بشأن تعبئة الموارد المالية الخارجية، وبالتالي الوصول إلى حالة انهيار تام".
حلول ممكنة
وعن الحلول التي قد تخرج تونس من هذه الوضعية الاقتصادية الخانقة، أكد الشكندالي أنه "من الضروري عودة نشاط قطاع الفوسفات، والتقدم على مستوى مقاومة كورونا لعودة النشاط السياحي".
ومعلقا على توقعات البنك الدولي بأن تونس ستسجل نسبة نمو 3.3 بالمئة مع نهاية 2021، أكد الشكندالي أن "البنك قدم هذه الأرقام قبل إعلان المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) الأرقام المتعلقة بالنمو خلال السداسي الأول للعام 2021، وفيها نسبة نمو سلبية 3- بالمئة، وهذا يعني أن البنك سيراجع تقديراته، فدائما ما يحين توقعاته كل 3 أشهر".
واستبعد الشكندالي أن تسجل تونس نسبة النمو المتوقعة من البنك الدولي، خاصة مع تواصل حالات الإغلاق بسبب تفشي فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية، وتعطل نشاط العديد من القطاعات.
من جانبه، اعتبر الخبير في الاقتصاد والمالية الصادق جبنون أن "هذا الترقيم كان متوقعا وقد تدخل البنك المركزي التونسي قبل فترة لتأجيل الإعلان عنه، وهو يتماهى أيضا مع تصنيف وكالة موديس، فتونس حاليا في نفس هذه الشريحة (B-)".
وقال جبنون لـ"الاستقلال": "لم يبق أمام تونس إلا التصنيف (C) وهو صنف الدول المتعثرة عن سداد ديونها والتي يتوجب وضعها التوجه إلى نادي باريس ونادي لندن لإعادة هيكلة الديون مقابل خطط إصلاحية مؤلمة خاصة للطبقات الضعيفة، وتتطلب الكثير من التضحيات، تونس غير قادرة عليها في الوقت الراهن".
وأضاف "هذا التصنيف هو نتاج لعوامل وأسباب، أهمها هيكلية ذلك أن نسبة النمو لم تتجاوز 1 بالمئة خلال الست سنوات الماضية، ولم تقع القطيعة الاقتصادية مع منوال (مخطط) التنمية القديم وبقيت تونس في منوال اليد العاملة الرخيصة والعملة الضعيفة وغياب القيمة المضافة، مع تواصل البيروقراطية (التعقيدات الإدارية) المقيتة في كل المجالات".
وأردف جبنون، في ذات السياق، قائلا: "عديد الشركات في مجال الملاحة ستقاطع حاليا ميناء رادس التجاري بتونس، لأن مدة الانتظار فيه تتجاوز 23 ساعة؛ بسبب التعقيدات الإدارية التي لا تخدم التعافي الاقتصادي، وهذا غير مقبول اليوم، أمام منافسين كثر على غرار المغرب ومصر ودول جنوب أوروبا".
ولفت إلى أن "ارتفاع الدين العمومي أيضا من بين الأسباب التي أدت إلى هذا التصنيف، خاصة وأن نسبة النمو دون المأمول فنحن لا نصل إلى نسبة 3 بالمئة وهي النسبة الدنيا للقدرة على سداد الديون، إلى جانب مشاكل في الإنتاج والتنافسية والتصدير".
وحول الديون المطالبة تونس بسدادها قبل نهار يوليو/تموز 2021، أشار جبنون إلى أنه سيقع تغطيتها غالبا من قبل البنك المركزي التونسي، لأنه إذا وقع النزول إلى المرتبة (C) وهي مرتبة التعثر عن سداد الديون فلن تتمكن تونس من الحصول على ديون جديدة لسداد القديمة.
إصلاحات مؤلمة
ومن أسباب هذا التراجع أيضا، بحسب جبنون، الأزمة السياسية الخانقة التي لم تسمح بإيجاد حكومة قوية أو مسنودة سياسيا حتى تتمكن من إخراج البلاد من الأزمة التي تمر بها، بالإضافة إلى تناقض الرؤى بين رئيسي الحكومة هشام المشيشي والجمهورية قيس سعيد الذي يدعو لنظام سياسي جديد، مقابل أحزاب وبرلمان متمسكة بدستور 2014 وإتمام المؤسسات الدستورية.
واعتبر أن حالة التناقض السياسي أثرت على الوضع الاقتصادي وجعل الاستثمار في وضعية انكماش، وهو ما أثر على الترقيم السيادي لتونس، وقد يزيد هذا التأثير مستقبلا.
بدوره، كان محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي، قد حمل الطبقة السياسية مسؤولية تراجع التصنيف الائتماني للبلد.
وقال العباسي، خلال تصريحات إعلامية في 9 يوليو/تموز 2021: إن "خفض وكالة فيتش تصنيف ديون البلاد خبر سيء، وهو ناجم عن عدم الاستقرار السياسي"، داعيا إلى "اتخاذ قرارات حكومية واضحة بشأن إصلاحات الدعم وفاتورة الأجور".
وحول الإصلاحات المؤلمة التي يطلبها الصندوق من تونس على غرار التفويت (بيع) في مؤسسات القطاع العام للقطاع الخاص ورفع الدعم عن المواد الأساسية وخفض كلفة الأجور، أكد جبنون أن الإصلاحات "رهينة اتفاق واقعي ومتوازن بين الحكومة والأطراف الاجتماعية والمتمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف (أرباب العمل) واتحاد الفلاحين والغرف التجارية".
وشدد على ضرورة رفع نسق الإصلاحات المطلوبة بالاتفاق مع الأطراف الاجتماعية وتجنب الإجراءات المفاجئة التي تتسبب في أزمات اجتماعية حادة.
وتواجه الحكومة التونسية أزمة مع الداخل المتمثل في المنظمات الاجتماعية، بسبب تعهداتها المقررة أمام صندوق النقد والمتمثلة في تجميد الترفيع في الأجور خلال عام 2021 وخفض نسبتها من 17.4 بالمئة من الناتج الداخلي الخام في 2020 إلى نسبة 15 بالمئة عام 2022.
وبحسب الخبراء فاقت كتلة الأجور بتونس 19 مليون دينار تونسي (حوالي 7.3 ملايين دولار) خلال عام 2020، أي ما يعادل 60.6 بالمئة من الموازنة العامة.
وتحتاج تونس إلى ما يفوق 18.5 مليار دينار ( 6.8 مليارات دولار) لتحقيق التوازن بين نفقاتها ومواردها، بعد أن بلغ عجز الموازنة 7.3 بالمئة من الناتج المحلي.
يذكر أن تونس كانت قد تحصلت عام 2016 بعد مفاوضات شاقة، على موافقة صندوق النقد للحصول على قرض بقيمة 2.8 مليار دولار ومع ذلك لم تنفذ التزاماتها المتفق عليها إذ لم تحصل إلا على نصف ذلك المبلغ.
وقبل ذلك، حصلت تونس عام 2013 على قرض من الصندوق بقيمة 1.7 مليار دولار، لكن تونس لم تلتزم بما هو متفق عليه وحصلت على مليار دولار فقط.
وفي مايو/أيار 2021، حذرت وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" من أن تخلف البلد عن سداد ديونه قد يكلف القطاع المصرفي ما يصل إلى 7.9 مليارات دولار.