رغم الإساءة للإسلام.. لماذا كرمت الجزائر وزير داخلية فرنسا؟

12

طباعة

مشاركة

القطع مع فرنسا ومراجعة طبيعة العلاقات، كان أحد أهم مطالب الحراك الشعبي الذي اندلع في الجزائر منذ 22 شباط/فبراير 2019، كما كان أيضا أحد أبرز وعود النظام الجديد بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون.

نحو 3 أشهر فقط تفصل الجزائريين عن الذكرى الثانية لحراكهم، لكنهم لم يلمسوا هذه المراجعة وهم يشاهدون وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، يزور مقبرة للجنود الفرنسيين الذين قتلوا خلال ثورة الجزائر، ووضْع إكليل من الورود، كُتبت عليها عبارة "تخليدا لمن ماتوا من أجل فرنسا"، على النصب المخلد لهم في المقبرة المسيحية وسط العاصمة الجزائرية.

غضب عرام

فوجئ الجزائريون في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بزيارة رسمية يجريها  درمانان، إلى بلادهم، وفي استقباله بمطار هواري بومدين، رئيس ديوان وزير الداخلية، عياش هواري.

توقيت الزيارة أثار موجة من الغضب بين الجزائريين، فهي تأتي في ظل تصاعد أزمة الرسوم الفرنسية المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون ضد الإسلام.

أعلن دارمانان أنه كان ينوي زيارة قرية جده موسى وقيد، في منطقة أولاد غالي ببلدية المنصورة في ولاية مستغانم شمال غرب الجزائر.

وكان جيرالد دارمانان، وفق صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية، قد أعلن الصيف الماضي أن أحد أسمائه هو موسى، وهو نفس اسم جده (لوالدته) الجزائري الذي جندته القوات الفرنسية في صفوفها خلال الحرب العالمية الثانية وقاتل النازيين في منطقة هاسنون بشمال فرنسا وعاش فيها بعد الحرب وحتى وفاته.

أصول دارمانان الجزائرية لم تمنع أبناء البلد من التعبير عن غضبهم من زيارته، خصوصا بعد تكريمه من طرف وزير الشؤون الدينية، يوسف بلمهدي، في خضم حملة الإساءة للنبي الكريم وللإسلام.

وعبّر ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن بالغ استيائهم من الزيارة التي جاءت في شهر الثورة (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وبعد أيام فقط من الاحتفال بذكرى اندلاع ثورة الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954.

زاد امتعاض الناشطين تكريم وزير الشؤون الدينية الجزائري لدرمانان، الذي يعتبر إغلاقه لأكثر من 300 مسجد في كامل فرنسا، أحد أهم إنجازاته، إلى جانب إشرافه على تنفيذ التدابير التي تستهدف الإسلام والمسلمين في فرنسا.

مجاملات متبادلة

حسب ما تم الإعلان عنه رسميا، تدخل الزيارة في إطار علاقات التعاون الثنائي المشترك، وبحث تعزيز التنسيق في عدد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، بالإضافة إلى تبادل وجهات النظر بخصوص التعاون بين قطاعي الداخلية للبلدين.

الصحافة الفرنسية شددت على أن الوزير قاد جولته إلى كل من مالطا، تونس والجزائر بسبب الهجمات الأخيرة التي عرفتها فرنسا على خلفية الرسوم المسيئة للرسول، خاصة الاعتداء على كنيسة في مدينة نيس الذي كان منفذه مهاجر  تونسي غير نظامي.

دارمانان عرض على سلطات البلدين المغاربيين قائمة من رعاياهما ترغب فرنسا في ترحيلهم من أراضيها.

أبرز وزير الداخلية الفرنسي ما سماه "التعاون المتواصل" القائم بين الجزائر وفرنسا في مجال مكافحة الإرهاب، مشيرا إلى أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون "متمسك جدا" بالعلاقة بين البلدين.

وفي تصريح للصحافة عقب محادثاته مع نظيره، كمال بلجود، أكد دارمانان أنه جاء "ليؤكد لوزير الداخلية الجزائري على التعاون التام لفرنسا بخصوص كافة المسائل التي تخص الوزارتين".

المسؤول الفرنسي قال: "تطرقنا إلى قضايا هامة تخص قوة الجزائر الكبرى هنا في منطقة المتوسط، لا سيما القضية الليبية ومسألة الهجرة غير النظامية، التي تواجهها الجزائر، والتي يتعين علينا التصدي لها لأننا نواجه تنقلات الأشخاص على جميع ربوع هذا الفضاء الذي نتقاسمه".

أما بلجود فصرح أنه تطرق مع نظيره الفرنسي إلى العلاقات الثنائية "المميزة" والسبل والوسائل الكفيلة بتحسينها، مضيفا أنه تناول أيضا مسائل الهجرة السرية والعلاقات بين القطاعين. 

وأضاف الوزير الجزائري: "بصفة عامة كان هناك توافق في وجهات النظر حول جميع القضايا التي تطرقنا إليها كما سنعمل على تعزيز علاقاتنا أكثر".

المجاملات المتبادلة بين المسؤولين الجزائري والفرنسي، جاءت بعد  شهر واحد من إعلان السلطات في 21 سبتمبر/أيلول 2020، منع قناة M6 الفرنسية من العمل في الجزائر، غداة بث تقرير في شكل تحقيق حصري بعنوان "الجزائر بلد كل الثورات". 

الفيلم أحدث غضبا رسميا وجدلا على مواقع التواصل الاجتماعي، يذكران بأزمة  دبلوماسية مصغرة بين الجزائر وباريس، عندما استدعت الأولى سفيرها لدى فرنسا "للتشاور" في 27 مايو/أيار 2020، بعد بث قناة "فرانس 5" فيلما وثائقيا عن الشباب والحراك. وقد تحدثت الجزائر حينذاك عن "اعتداءات على الشعب الجزائري ومؤسساته".

"وليدات فرنسا"

القطع مع فرنسا، كان أحد أبرز الشعارات التي هتف بها شباب الحراك في 2019 ورفعوا لافتات طالبوا فيها بانسحاب كل "وليدات فرنسا" - أي المسؤولين الجزائريين الذين يخدمون أجندات باريس- من السلطة.

كما رفض الحراك، بشكل قاطع، تدخل فرنسا في شؤونهم الداخلية، واضطر المسؤولون في الجزائر، مع تزايد هذه الدعوات، إلى الخروج بتصريحات رسمية تتماشى والمطالبات الشعبية. 

بدأت التصريحات في 5 يوليو/ تموز 2019، عندما دعا الفريق الراحل أحمد قايد صالح قائد أركان الجيش الجزائري، إلى تطهير البلاد ممن أسماهم "عبدة الاستعمار وأصنامه" وفاء لشهداء ثورة التحرير، التي اندلعت في 1 نوفمبر/تشرين الأول 1952.

رافقت هذه الخرجات تشكيكات واسعة في رموز النظام، وأنهم يطمحون في السلطة وتهدئة صوت الشارع إلى حين العبور بالبلاد إلى بر الاستقرار. 

بداية قطيعة

العارف بطبيعة العلاقة الجزائرية الفرنسية، وخاصة منذ بداية الحراك، بعد إسقاط الكثير من الرموز التي كانت تخدم المصالح الفرنسية، يعرف أنها تعيش بداية قطيعة، وهو ما يغضب فرنسا.

أستاذ العلوم السياسية الجزائري حسام حمزة، أشار إلى أن خطابات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، خلال حملة انتخابه وبعد تنصيبه "تضمنت دائما نبرة حادة خلال الحديث عن النفوذ الفرنسي في الجزائر. الأمر نفسه ينطبق على رئيس أركان الجيش الراحل قايد صالح، والحالي السعيد شنقريحة".

كلها مؤشرات استقرأ من خلالها حمزة في حديثه مع "الاستقلال"، أن "فرنسا أصبحت غير مرغوب فيها، وأن نمط العلاقات الذي اعتادت عليه مع الجزائر هو خاضع للمراجعة".

في يوليو/ تموز 2020، طالب تبون باعتذار من فرنسا عن ماضيها الاستعماري في بلاده، معتبرا أن باريس "قدمت نصف اعتذار"، آملا أن "تواصل على نفس المنهج وتقدم كامل اعتذارها".

 في الشهر نفسه استقبلت الجزائر، رفات 24 شهيدا من رموز المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي في منتصف القرن 19، حيث أعدمهم جيش الاستعمار ونكّل بهم، قبل ترحيل رؤوسهم إلى بلاده، بحجة الدراسات الأنثروبولوجية، واحتجازهم قسرا لأكثر من 170 عاما بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس. 

خلال مقابلة صحفية بداية فبراير /شباط 2020، قال تبون: "الجزائر بجيلها الجديد وقيادتها لا تقبل بأي تدخل، أو أن تمارس عليها وصاية، كانت هناك مرحلة فتور في علاقات البلدين بعد أن تيقن الجزائريون أن هناك تدخلا في شؤون بلادهم عقب تصريحات للجانب الفرنسي في بداية الحراك الشعبي".

رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر تناقلوا تصريح الرئيس تبون خلال لقائه بمسؤولين من وسائل الإعلام المحلية، واعتبروه "غير مسبوق تجاه فرنسا".

تبون قال: "الجزائر ليست محمية لفرنسا ولا غير فرنسا"، ردا على سؤال من أحد الإعلاميين عن "الفتور" في العلاقات الجزائرية الفرنسية.

وأضاف تبون: "فرنسا عرفت أن الجزائري حساس لما يأتي من فرنسا، خاصة بعد الحراك الشعبي، الجزائر ستتعامل الند بالند مع فرنسا وغيرها من الدول، من يحترمنا سنحترمه ومن لا يحترمنا لن نحترمه".

حديث تبون اعتبره البعض ردا على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع بداية الحراك في فبراير /شباط 2019، حين أشاد بقرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عدم الترشح لولاية خامسة، ودعا ماكرون إلى "مرحلة انتقالية في آجال معقولة"، وهو ما اعتبره الجزائريون "تدخلا في شؤون البلاد".

ربط كيدي

أستاذ العلوم السياسية الجزائري حسام حمزة، يجزم بأن النظام وصلته فكرة شباب الحراك بالقطع مع فرنسا بشكل واضح، وإدراك الأخيرة لذلك، يدفعها إلى اللجوء لمحاولة زعزعة استقرار الجزائر.

الاعتقاد السائد حاليا لدى المعارضين في الجزائر، هو أن السلطة تريد التخلص من الحراك وتشويهه، وأن تقوم فرنسا بنفس الشيء يعطي انطباعا بوجود تواطؤ بينهما، وهذه هي الفكرة التي تراهن عليها فرنسا.

الرسالة التي توصلها باريس في كثير من تحركاتها تجاه الجزائر، بحسب المتحدث، هي "وجود تواطؤ بين النظام في الجزائر والسلطة في فرنسا، في حين أن الموقف الرسمي للجزائر يسير في الاتجاه المعاكس".

أستاذ العلوم السياسية بجامعة عنابة بالجزائر، فؤاد منصوري، ذهب أيضا في اتجاه نفي أي تواطؤ بين النظام في الجزائر والسلطة في فرنسا، قائلا: "لا يمكن التكهن بكل أسباب الزيارة، لكن أعتقد أن معظم الأسباب كُشف عنها".

ورأى منصوري أن استقبال وزير الداخلية من طرف وزير الشؤون الدينية الجزائري له دلالات، وأوضح في حديث مع صحيفة "الاستقلال"، أن "الدلالة المركزية أنه "لا رابط بين الإسلام والإرهاب، والربط الذي تحاول بعض الدوائر تكريسه هو ربط كيدي وذرائعي". 

واعتبر أستاذ العلوم السياسية أن "الاستقبال أثار حفيظة الإنسان العادي، وهذا شيء طبيعي، إلا أن العلاقات الدولية تدار بقواعد وأصول بعيدا عن العاطفة".

جزم الأستاذ بجامعة عنابة بأن القطع مع فرنسا "فكرة مغلوطة"، قائلا: "المطروح هو التعامل الند للند". قبل أن يزيد: "مصلحة الجزائر مع من يحترمها، وليس قدرا أن تمر المعاملات الاقتصادية عبر فرنسا، أي أن فكرة الوصاية غير مقبولة".

وعن السبب المُعلن لزيارة وزير الداخلية الفرنسي للجزائر، ختم منصوري بالقول: "فرنسا في تعاملها مع الإرهاب تحاول ربطه بملف الهجرة غير النظامية، من مقاربة أمنية بحتة"، قبل أن يشدد على أن "هذا خطأ منهجي وغير واقعي".