خالد الصدقة.. شاعر سوري هجا "كورونا" فكان أحد ضحاياه
ودعت الأسرة الصحفية في الكويت والوطن العربي الشاعر والصحفي السوري خالد جميل الصدقة، الذي وافاه الأجل في 24 مايو/ أيار 2020، إثر إصابته بفيروس كورونا، بمقر إقامته في الكويت، عن عمر يناهر الـ64 عاما، تاركا إرثا أدبيا حافلا.
وفاة الصدقة المكنى (أبا يامن) وافقت أول أيام عيد الفطر، ونعاه زملاؤه بصحيفة "الجريدة" الكويتية التي كانت آخر محطات عمله، بألم كبير لما تركه من أثر بينهم كونه "نقي السريرة دمث الخلق، صاحب قيمة علمية وأدبية ولغوية كبيرة، يتذوق الحب والحكمة والفلسفة في شعره"، بحسب قولهم.
تنعى أسرة "الجريدة" نائب رئيس قسم الدسك الأستاذ الزميل خالد جميل الصدقة الذي وافته المنية في مستشفى مبارك الكبير اليوم، داعين أن يتغمده الله تعالى بواسع رحمته وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يلهمنا جميعا وأهله الصبر والسلوان...
— الجريدة (@aljarida) May 24, 2020
"إنا لله وإنا إليه راجعون". pic.twitter.com/ScszUJY584
ابن "النبك"
ولد الشاعر السوري الراحل عام 1956 في مدينة النبك بريف العاصمة دمشق، ذات الطبيعة الأخاذة المشهورة بزراعة زهرة المرح، والتي كان يحدث زملاءه المقربين عنها حديث العاشق، مستشهدا بنماذج من لهجتها.
درس خالد جميل الصدقة، اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة دمشق، عام 1980، ليتنقل بعدها بين بلدان عدة، حيث سافر إلى السعودية للعمل مدققا لغويا لمدة 5 سنوات، ليعود بعدها إلى سوريا ويعمل بتدريس اللغة العربية بين عامي 1987 و1993.
وفي العام نفسه سافر الشاعر والأديب السوري إلى الكويت معلما للغة العربية في مدارسها حتى 2001، قبل أن يترك مهنة التعليم ويعود للتدقيق اللغوي، حيث التحق بمجلة "المنصة" حتى 2006.
ومنذ العام 2007 التحق الصدقة بصحيفة "الجريدة" الكويتية وأسس قسم التدقيق اللغوي فيها، والذي أسندت إليه رئاسته، ليصبح بعدها نائبا لرئيس قسم الديسك المركزي في الصحيفة ذاتها.
وينقل عنه زميله محمد عمار، أقرب القصائد إلى قلب الصدقة، بالقول: سألته: "ما أقرب قصيدة إلى نفسك، فقال: قصيدة نظمتها منذ سنوات، أثرت فيها تساؤلات بلا إجابة، وشرع يقول من ذاكرته:
أنا رحلةُ الأحزانِ تبدأُ من دمي.. وتؤوبُ إنْ سمعتْ حنينَ ندائي
يا هاربا كي لا أراكَ أيا أنا.. باللهِ أينَ تكونُ ما أنبائي؟
قد فاتني عُمْري وموتي مَن أنا.. أنا غائبٌ مَنْ حاضرٌ بردائي؟
"المعلقة الكورونية"
لم يكن الصدقة يعلم أن قصيدته "المعلقة الكورونية" التي كتبها في 25 أبريل/ نيسان 2020، بطريقته الشعرية الساخرة المعهودة، ستخلد ذكراه، لاسيما أنه سيصبح أحد ضحايا الفيروس القاتل.
ضمّن الراحل قصيدته مشاعر الحنين إلى وطنه سوريا، ويظهر مدى الصدق العميق الذي كان يسكن جوارحه، فكان البوح ممزوجا بالتورية، فلم يكن تصريحا كاملا وإن كان مدونا بين السطور، وهو العارف بدهاليز اللغة وقواعدها.
وحسب "الجريدة"، فإنه لم يكن صعبا عليه انتقاء معلقة عمرو بن كلثوم "ألا هُبِّي بصحنك فاصبحينا"، التي ذكر فيها ابن كلثوم مدينتي دمشق والأندرين، فكتب الراحل على وزنها وقافيتها "معلقته الكورونية"، يذهب إلى بلده عبر القصيدة ويتوق إليها بالواقع، إذ قال فيها:
أيا كـوفـيدُ لا تـعـجلْ عـلـينا .. وأمـهـلْـنـا نــخـبـرْكَ الـيـقـيـنا
بــأنّـا الـخـائـفونَ إذا مـرضْـنـا .. وأنـــا الـجـازعـونَ إذا ابـتُـلينا
وأنا الـمـبلسونَ إذا افـتقرنا .. وأنـــا الـجـاحـدونَ إذا غَـنِـيـنا
وأنا الـبـاخـلـونَ إذا مـلـكْـنا .. وأنـــا الــغـادرونَ بـمـنْ يلـينا
وأنا قـد ظـلـمْـنا وافـتـريـنا .. وشـوَّهـنا وجــوهَ الـصــالحينا
وأنا قــد هـجـرْنا كــلَّ حــقٍّ .. وصـافـحْـنا أكــفَّ الـمـجرمينا
وأنـــا مـــا شـكـرنـا اللهَ حـقـا .. عـلـى نـعـمٍ أتـتـنا مُـصبحينا
وهـذي صـفعةٌ أولى لنصحو .. ونخـرجَ من حـياةِ الـغافلينا
وإلا فالمصائبُ مطبقاتٌ.. ونرجو اللهَ دوما أنْ يقينا
"لآلئ الأمثال"
الصدقة عرف ببحثه في الدراسات المقارنة وحوار الحضارات، وألف كتاب "معجم لآلئ الأمثال والحكم المقارنة.. إنجليزي-عربي"، اختار فيه مجموعة كبيرة من الأمثال والأشعار والنصوص النثرية من مراجع إنجليزية قديمة وحديثة في جوانب الحياة المختلفة، وكشف عبر هذا المعجم عن الأصول العربية وغير العربية للعديد من الأمثال الإنجليزية، وترجم أيضا عددا من القصائد شعرا لشكسبير وغيره.
الشاعر الراحل قال في لقاء سابق له مع وكالة الأنباء الكويتية: "هذا المعجم استغرق مني 10 سنوات من العمل والبحث في أمهات الكتب الإنجليزية والعربية، وتضمن آلاف الأبيات من شعر الحكمة العربي لأكثر من 600 شاعر أغلبهم من المجهولين، وبينت فيه القواسم المشتركة بين الينابيع الثقافية المتعددة".
وأورد الصدقة في معجمه الأمثال الإنجليزية، مسجلا التاريخ الذي شاع فيه المثل وقائله وتحولاته ومعناه، ويقارنه بما يجده من أشباه ونظائر في اللغة العربية ونصوصها، كما يقارنه بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية وأمثال عربية، مشيرا للتشابه المدهش بين الأمثال الإنجليزية والعربية رغم اختلاف اللسان، وتباين الزمان والمكان.
وفيما يتعلق بالمنهج المتبع في تأليف المعجم، أورد أولا المثل الإنجليزي وسجل التاريخ، الذي تبلورت فيه صيغته الشائعة في عصرنا، مع ذكر اسم قائله أو مدونه، ثم يترجمه إلى العربية، ويشرح معناه إذا كان غامضا، ثم يقارنه بما وجده من نظائره وأشباهه في القرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال العربية الفصيحة والأقوال المأثورة عن بلغاء العرب وحكمائهم وفي قصائد شعرائهم.
يذكر الشاعر الراحل أيضا في معجمه اسم السورة ورقم الآية والكتاب الذي ورد فيه الحديث أو المثل أو الحكمة، وينسب كل بيت إلى قائله إذا كان معروفا، مع ذكر تاريخ ميلاده ووفاته إن كان متوفيا، مرتبا الأبيات ترتيبا تاريخيا مبتدئا بالأقدم.
اشتهر الصدقة بتقديم نتاج أدبي رصين يمزج بين الدقة في اللغة والسلاسة في إيصال المعلومة، عبر جمل مقتضبة ومفردات جزلة. كما اتسم بالجدية والحزم في أداء عمله، وإن كانت هناك مساحة فكاهية في حياته كان يسعى إلى ترجمتها عبر بعض القصائد الطريفة، التي ينسج تفاصيلها بدقة وإحكام.
وداع مؤلم
بكلمات مؤثرة كتب زملاؤه مقالا جماعيا في صحيفة "الجريدة" ودعوا فيها الشاعر خالد الصدقة، مستذكرين أبرز المحطات والمواقف التي جمعتهم بالفقيد الأديب، الذي عاصرهم طيلة 13 عاما قضاها في آخر محطاته العملية.
ونعى الصحفي لافي الشمري، "أبا يامن"، قائلا: "نبأ رحيلك مؤلم والكل يرثيك، فقتامة الحزن على فراقك تقض مضجع محبيك، لكن مقولتك التي دونتها ذات يوم تموج بالذاكرة وتغرس في الروح بذرتها، ونعاهدك أن الأحزان النبيلة ستتحول مع الأيام إلى أشجار ورد في حدائق الروح".
وأضاف: "أبا يامن، نحن حفظنا الوصايا، لا تخف نم قرير العين، وسنلهج بتدويناتك، لعلنا نجد فيها ما يسلينا، فلن ندع الآخرين يحتلون كل فضاءاتنا الداخلية، بل سنترك لأنفسنا مساحة نتحرك فيها بكامل حريتنا، ولن نهجر ذواتنا".
أما محمد أبوبكر أبوهنتش، فقال: "أبو يامن كان كالنسمة عبر، وكالهواء البارد مر، فارقنا بلا وداع، ورضينا بلا اعتراض، ومضينا بأحزان ثقال لا نلوي إلا على ذكريات حسان جمعتنا بأخ صادق وزميل مخلص ومعلم ماهر، خالد الذكرى، طيب الخصال، جميل الفعال".
وقال أسامة أبو زيد: "كان جميلا صادقا. بشوش الوجه، مترفعا عن الصغائر، محبا للجميع، متواضع الطبع، صافي النية، يجبر الناس على احترامه وتقديره. وكان لماحا، ساخرا، خفيف الظل. يجيد الاستماع إلى النكتة والرد عليها".
وعن هموم وطنه سوريا، كتب عامر الهاجري، قائلا: "حمل هم وطنه معه، وكان الأسى يخرج من ابتسامته عندما يتطرق إلى ما آلت إليه أوضاع بلاد الأمويين، وكم حاول بابتسامته أن ينقل الأمل القابع في صدره إلى محبيه وأبناء بلده بأن الله سيفرجها، وتعود سوريا كما كانت صامدة في وجه كل من يريد بها وبالعرب والمسلمين شرا".
وتابع: "كنا نراه والماء يقطر من وجهه ويديه قبيل كل صلاة، وهو متوجه إلى المصلى، راسما تلك الابتسامة الجميلة، وهو ذاهب ليناجي ربه الذي ارتضاه إلى جواره".
وختم الهاجري وداعه للصدقة بالقول: "أيها الجميل، لن يقول لك محبوك كما ردد هرقل مقولته لبلادك حينما طرد منها وداعا لا لقاء بعده، بل يقولون لك إلى جنة الخلد، حيث سيلتقيك هناك محبوك".