محمد عمارة.. مجدد للفكر الإسلامي حارب الانقلاب العسكري في مصر
"هو أحد مجددي القرن الخامس عشر الهجري، الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية، وصولاته وجولاته القوية في تعرية أعداء الإسلام".
بهذه الكلمات عبر يوسف القرضاوي الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عن شخصية المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، الذي رحل عن عالمنا اليوم السبت، 29 فبراير/ شباط 2020.
لم يأت توصيف القرضاوي من فراغ، إذ وصلت مؤلفات محمد عمارة خلال العقود الماضية إلى نحو 240 ما بين كتاب ودراسة، ومن أبرز هذه المؤلفات: "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين، الجامعة الإسلامية والفكرة القومية، الحضارات العالمية: تدافع أم صراع - إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين".
فكيف بدأت رحلة المفكر الإسلامي الراحل لإثراء المكتبة الإسلامية والعربية بهذا الكم من المؤلفات، بالإضافة إلى مواقفه التاريخية الفاصلة، في واحدة من أصعب فترات الشرق الأوسط عموما، والدولة المصرية خصوصا.
بدايات التشكل
في 8 ديسمبر/كانون الأول 1931، ولد محمد عمارة مصطفى عمارة، بمحافظة الغربية، في منطقة الدلتا، شمالي مصر لعائلة اجتماعية متوسطة، وكان والده أميا يعمل بالفلاحة، وقد نذر ابنه الصغير "محمد" للعلم، قاصدا العلوم الدينية، وأن يكون عالما أزهريا، في وقت كان للأزهر الشريف رونقه، داخل الحياة الاجتماعية المصرية.
أتم عمارة حفظ القرآن الكريم وهو في عمر 6 سنوات، الأمر الذي أهله للانتقال إلى مدينة دسوق عام 1945، للالتحاق بمعهدها الابتدائي الأزهري، فحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية عام 1949، ودخل المعهد الأحمدي الثانوي الأزهري بمدينة طنطا، ليحوز الشهادة الثانوية التي درس بها في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، بعدما اجتاز امتحان القبول، الذي كان معمولا به في ذلك الوقت.
انضم إلى حزب مصر الفتاة، خلال فترة شبابه، أثناء دراسته في المعهد الثانوي بطنطا، وما بين سنة 1950 إلى 1951 كتب في صحيفتها شعرا ونثرا، وهو طالب في المعهد الثانوي. وبصفته عضوا في الحزب، كان معارضا للحكومة، وانصبت كتاباته على نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية.
وأثناء دراسته في دار العلوم كانت الاشتراكية تجتاح أفكار الشباب المصري، وكان حزب مصر الفتاة يقدم مزيجا بين الفكرين الاشتراكي والإسلامي، فأصبحت لدى عمارة النزعة الوطنية التحررية، وسرعان ما أصبح يساري الفكر، مع شعارات اليسار التي كانت حينها جديدة وبراقة، مع الدعوة للسلام العالمي.
ووقتها، كانت كلمة التقدم أو التقدمية حكرا عليهم، وكانت كلمات العدالة والطبقات الشعبية والفئات الكادحة والكفاح المسلح ضد الاستعمار من أبرز مصطلحات التيار اليساري مما جذب عمارة للعمل المشترك معهم.
السجن والتحول
في عام 1957 فصل من كلية دار العلوم، لمدة سنة لتزعمه انعقاد مؤتمر سياسي وطني وقومي، ثم اعتقل 1959، وهو في السنة الرابعة لمدة خمس سنوات ونصف أثناء أزمة السلطة مع التيار اليساري.
وفي سجنه بداية من عام 1959 إلى 1964، بدأ مراجعات فكرية قادته في النهاية إلى مغادرة المعسكر اليساري والانخراط في الإتجاه الإسلامي. ومنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بدأ الفكر الإسلامي يطغى على مواقف عمارة وفكره حتى صار يُحسب على "الإسلاميين المستقلين".
وبذلك، أصبح واحدا من أبرز مفكري عصره المتخصصين في تجديد، وتطوير الفكر الإسلامي. وفي عام 1975 حصل على شهادة الدكتوراة بأطروحة "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة".
وأثناء مناقشة رسالته للدكتوراة أعرب أحد أساتذته أنه أصبح مشهورا ومعروفا في الأوساط العلمية أكثر من أساتذته. وقد جرى التصديق على الدكتوراة بعد عام من الانتهاء منها لأن أحد الأساتذة عرقل التصديق عليها بحجة أن بها آراء مجددة لا يرضى عنها.
مواقفه السياسية
في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، دعم الدكتور عمارة، الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس المعزول الراحل حسني مبارك، ووصفها بأنها "ثورة شعبية من أعمق الثورات التي عاشتها مصر في العصر الحديث، وهي ملحمة كشفت المعدن الحقيقي لهذا الشعب الأصيل".
وفي 14 يوليو/ تموز 2013، بعد أيام من الانقلاب العسكري، أصدر عمارة، عريضة تحت عنوان "بيان للناس" قال فيها: إن "ما حدث في 3 يوليو/تموز 2013 هو انقلاب عسكري على التحول الديمقراطي الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير/كانون الثاني".
وأكد في بيانه "أن هذا الانقلاب العسكري إنما يعيد عقارب الساعة في مصر إلى ما قبل ستين عاما، عندما قامت الدولة البوليسية القمعية، التي اعتمدت سبل الإقصاء للمعارضين، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح الشعب المصري كله معزولا سياسيا، يتم تزوير إرادته، ويعاني من أجهزة القمع والإرهاب".
كما شدد حينها أن "البعض يريده انقلابا على الهوية الإسلامية لمصر، التي استقرت وتجذرت عبر التاريخ، وفي هذا فتح لباب الفتنة الطائفية التي ننبه عليها ونحذر من شرورها".
واعتبر في مقطع مصور أن عزل الرئيس محمد مرسي "باطل شرعا وقانونا هو وكل ما ترتب عليه"، وهو الموقف الذي أثار هجمة انتقاد شرسة له من قبل وسائل الإعلام والدوائر المؤيدة للانقلاب، وجرى منعه من الكتابة في بعض الإصدارات الصحفية التابعة للدولة.
معاركه واشتباكاته
بعد تجاوزه الفكر اليساري، بدأ حملة استمرت لسنوات، كشف فيها عن دعاة الماركسية الاشتراكية، مستخدما مصطلحاتهم ومفاهيمهم مثل: الحرية والعدالة والتكافل الاجتماعي، ليوضح إشكالياتهم وتناقضاتهم الفكرية والمبادئية.
ثم برز نجمه مع تعالي التحديات التغريبية أمام العالم الإسلامي، وتحديدا منذ الثمانينيات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية.
ورغم أنه أفرد العديد من كتبه لمواجهة الفكر التغريبي وللرد على غلاة العلمانيين، فإن قضايا القومية العربية والعدل الاجتماعي والثورة على الظلم ظلت ملحوظة في كتاباته، كما كانت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعه الفكري.
ومن أهم السجالات التي خاضها تلك التي حدثت مع الكنيسة القبطية بمصر، والتي هاجمته مرارا لدرجة أنها مارست ضغوطا لمنع مقاله الذي كان ينشره في جريدة "أخبار اليوم".
وانتقدت الكنيسة وقتها ردوده على منشورات تنصيرية وُزعت بمصر وحديثه عن دورها في إثارة الفتنة الطائفية، والمشروع العنصري الذي يريد استبدال اللغة القبطية بالعربية، ورفعت ضده دعوى قضائية. وآنذاك، كان عمارة يرى أن أساس الفتنة الطائفية سببها البابا شنودة.
يقول عمارة: "عندما أكتب عن غلاة العلمانيين والمتغربين أبدو وكأنني محافظ، وعندما أكتب في نقد الجمود والتقليد أبدو وكأنني ثوري وتقدمي، لكن هناك معالم أساسية لا تتغير كالحفاظ على رؤيتي للإسلام ومعالمه، وعملي الدؤوب لإنهاض الأمة وإخراجها من عنق الزجاجة الذي وقعت فيه، ومواجهة التحديات الشرسة والحرب الصليبية المعلنة على الإسلام".
قالوا عنه
قال عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية: "لقد واجه الدكتور عمارة التيارات المعاصرة بقوة وعلم، وهي التيارات التي أرادت أن تخدعنا بها وهي في حقيقتها لا شيء".
وأعلن محمد المختار المهدي رئيس الجمعية الإسلامية عن قرار مجلس الإدارة ترشيح عمارة لنيل جائزة الملك فيصل العالمية، نظرا لتقدير الجمعية لجهوده واعتبره أجدر من يستحق الجائزة منذ زمن بعيد.
وأشارت آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر إلى أن "إنتاج الدكتور عمارة "يذكرني بشيخي الموسوعي في القرن السادس الهجري كمال الدين أبي الفرج بن الجوزي"، وكانت قد أوصت عمارة بتقديم مؤلفاته في قائمة للجيل الحالي والأجيال التالية للاستفادة من المنهج والعلم.
الكاتب والمفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي اعتبره "كاسحة ألغام أمام الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية، فهو شديد البأس على أعداء الإسلام من العلمانيين الاستئصاليين".
وأضاف الغنوشي: "هو فحل في هذا المجال وعون لكل باحث في الفكر الإسلامي ولكل شاب يريد أن يطلع على الإسلام في موارده الصافية، وأنا أعتبر نفسي تلميذا من تلاميذه في جوانب كثيرة".
كما تعرض المستشار طارق البشري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة الأسبق خلال كلمة ألقاها لمنهج عمارة في الوسطية وتدقيقه في كتاباته، لافتا إلى أن "المدرسة التي ينتمي إليها في الوسطية هي ذاتها التي كان ينتمي لها المفكر الراحل عادل حسين رئيس تحرير جريدة الشعب، مع اختلاف البنية الثقافية والخبرات العملية لكل منهما".
حياته العائلية
عبر الدكتور محمد عمارة، عن طبيعة الترابط الأسري لعائلته، عندما بعث برسالة إلى زوجته قال فيها: "من أكبر نعم الله على الإنسان أن يمنحه أسرة مستقرة وزوجة صالحة، وقد حملت زوجتي عني عبئا كبيرا ليس فقط في تربية الأولاد، بل في إيثارها لي على نفسها لأتفرغ لمشروعي الفكري".
وتابع: أن زوجته "ضحت بدراستها العليا وتحملت معي صعوبات البداية الكثيرة، وكنا ما زلنا متفقين على أن نجاح أسرتنا وأية أسرة يتوقف على بذل جهد كبير لبناء أسرة مسلمة، فالمال يأتي ويذهب، وقد كان دخلي ضعيفا جدا، ولم يدفعني هذا إلى السفر أو قبول وظائف تعطلني عن هدفي".
وزاد: "وأعانتني زوجتي الفاضلة، وتفرغت لمشروعي الفكري، وجاء المال بفضل الله بعد ذلك". كما أن له من الأولاد خالد وهو طبيب بشري، ونهاد وهي باحثة.
وقد قال عنهما من قبل: "كان لي منهج في تربية خالد ونهاد يعتمد على خلق ألفة بينهما وبين الكتاب، فكانت لعبتهما الأثيرة (الشخبطة) بالقلم على الورق، وكانت هداياي لهما في كل المناسبات كتبا، يقرؤون إهداءاتها فيرتبطون أكثر بالقراءة التي نشؤوا يحبونها".
وتابع: "هذا أدى إلى انضباط البيت وهدوئه، فقد كانا يذهبان إلى المدرسة ويتركاني أقرأ، ويعودان ليجداني أكتب، إنهما عاشقان للكتب".