المؤسسة العسكرية المصرية وحراك 20 سبتمبر.. سياقات الأزمة ومؤشرات التسوية
-
عسكريون معزولون
-
التنكيل بعنان
-
الإفراج عن سامي عنان
-
عودة أسامة عسكر
-
إبعاد محمود السيسي
-
هندسة الملف الإعلامي
-
-
القادة التاريخيون بالقوات المسلحة (المشير طنطاوي)
-
الإمارات، ومحمد بن زايد
-
إسرائيل
-
الولايات المتحدة
المقدمة
يعتمد استمرار المنظومة السلطوية في دولة مركزية مثل مصر، بشكل كبير على استقرار العلاقة بين مكوناتها الرئيسية، وخاصة القطاعات العسكرية والأمنية، لتبقى في سدة الحكم، أطول فترة ممكنة من الزمن.
وكلما اختلت العلاقة بين تلك العناصر والمكونات داخل هذه المنظومة، كان عمر بقاء رأس السلطة متناقص بشكل طردي مع درجة ووتيرة هذا الاختلال، ولا شك أن حراك الجماهير المصرية في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، جعل السيسي- ومن يقف خلفه داخليا و إقليميا و دوليا- يدرك أن مسألة استمرار تماسك نظامه أصبحت في خطر، ومكمن الخطر ليس حراك الشارع فقط، بل حجم التململ الذي وصل إلى قطاعات عسكرية كبيرة، على خلفية السياسات المتبعة من رأس النظام المصري، الذي كان قد أطاح بعدد كبير من قيادات الجيش، ونكل ببعضهم، وأخل بموازين القوى المستقرة لعقود داخل تلك المنظومة شديدة الحساسية.
وفي ذلك السياق، لا يمكن قراءة حركة التغييرات الأخيرة بالجيش المصري، بمعزل عن السياقات والأحداث السياسية التي جرت قبلها، خاصة مع عودة جزء من القيادات المستبعدة سابقا، وإقالة قيادات مقربة من السيسي، والإفراج المفاجئ عن رئيس أركان الجيش السابق سامي عنان، والذي شكل الخصم الأبرز والأكثر خطورة على السيسي منذ انقلاب يوليو/تموز 2013، كل ذلك كان بمثابة "التسوية"، أو ما يمكن وصفه بـ "الهدنة" بين السيسي من جهة، وبين قطاعات من قيادات الجيش والمؤسسات الأمنية من جهة أخرى.
ولا يخفى على متابع للشأن المصري، أن هناك مجموعة من القيادات العسكرية كانت قد بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات في دعم بعض السيناريوهات لمواجهة السيسي أو ممارسة الضغوط عليه، في محاولة منهم لإزاحته بشكل أو بآخر، أو بهدف إرغامه على تغيير بعض سياساته، على أقل تقدير.
المؤكد أن الخلافات داخل المؤسسة العسكرية المصرية، ليست ظاهرة مستحدثة بل تأصلت على مدار تاريخ المنظومة العتيقة، فمنذ أول تحرك عسكري للقوات المسلحة، للإطاحة بالحاكم في 23 يوليو/تموز 1952، كانت معادلات النظام السياسي، قائمة على صراعات تعلو وتخفت بين الرئيس، والجيش الذي جاء به إلى سدة الحكم، ويمثل مرتكز نظامه الحكام.
فسابقا أطاح الرئيس عبد الناصر بالمشير عبد الحكيم عامر[1]، ونكل بكبار القادة الذين كانوا يعطون الولاء له، وأقام لهم محاكمات علانية، ووضعهم في غياهب السجون، كواحدة من أشرس الخلافات وأشدها وطأة في تاريخ النظام العسكري المصري.
وفي 14 سبتمبر/ أيلول 1967، تم الإعلان عن موت المشير عبد الحكيم عامر، نتيجة انتحاره بتناول جرعة مركزة من السم، وهي الرواية الجدلية المشكوك في صحتها، من قبل أبناء المشير، ومؤرخي تلك الفترة، الذي يؤكدون تصفيته.
وفي 22 أغسطس/آب 1968، صدق عبد الناصر على قرار محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي وعضوية الفريق عبد المنعم رياض واللواء سليمان، بحق 55 متهما أبرزهم شمس بدران وزير الحربية، وصلاح نصر رئيس المخابرات السابق، وعدد مختلف من ضباط جيش تبعثرت مناصبهم بين الأفرع. أدانت 45 فردا منهم، عاقبت بعضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما تراوحت عقوبات الآخرين بين السجن 15 عاما وبين الطرد من الخدمة العسكرية[2].
لتختتم واحدة من أعقد الحقب التي مرت على المؤسسة العسكرية المصرية، التي نجحت في تصفية مراكز القوى بداخلها، بعدما أصبحت مهددة في بنيتها الوحدوية، وصورتها أمام الرأي العام، بعد الهزيمة الأثقل في تاريخ العسكرية المصرية الحديث.
أولا: إجراءات السيسي داخل المؤسسة العسكرية قبل حراك 20 سبتمبر
أ: عسكريون معزولون
عدد من القيادات العسكرية البارزة، تخلّص منها السيسي منذ قدومه لسُدة الحكم، الأمر الذي أدى إلى تغيير تشكيلة المجلس العسكري، الذي كان قائما إبان الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، وذلك على عكس حالة الثبات النسبي في تشكيلة المجلس العسكري والتي كانت موجودة في أيام حكم مبارك.
من الملاحظ أن بعض تلك القيادات التي تم الإطاحة بها كانت قد لعبت دورا محوريا خلال الفترة الانتقالية، وساهمت في امتلاك المؤسسة العسكرية مقاليد السلطة، ولم يكن التخلص منها مرتبطا بحركة تنقلات طبيعية، بل منها ما تمت إقالته بقرار استثنائي، ومنهم من أقيل بقرار يتجاوز الدستور كوزير الدفاع، وبعضهم تم التشهير به إعلاميا.
ورغم أنه عادة ما تشهد المؤسسة العسكرية المصرية حركة تغييرات بداخلها ضمن نشرة التنقلات الدورية، التي يصدرها وزير الدفاع والإنتاج الحربي مرتين في العام الواحد، في يناير/ كانون الثاني، وفي يوليو/ تموز من كل عام، إلا أن بعض تلك الحركات تتسم بطابع له دلالات سياسية تتعلق بطبيعة تداخلات العلاقات بين قيادات المؤسسة العسكرية.
علاوة على ذلك، وفي بعض الأحيان تمت حركة تغييرات داخل الجيش دون التقيد بمواعيد تلك النشرة الدورية بشكل متزامن مع ظهور مؤشرات للخلاف في وجهات النظر بين قيادات المؤسسة العسكرية -بالشكل الذي ترصده هذه الورقة-، وهو الأمر الذي يعزز من فرضية الصراعات بين السيسي، وبعض قيادات المؤسسة العسكرية، ويمكن رصد أبرز الإقالات على النحو التالي:[3]
- أحمد وصفي
في 17 مارس/ آذار 2014، أصدر عبد الفتاح السيسي، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع آنذاك، نشرة استثنائية محدودة لقادة القوات المسلحة، شملت إعفاء اللواء أركان حرب أحمد وصفى من منصبه كقائد للجيش الثاني الميداني.
وكان اللواء وصفي قد أثار جدلية بإصداره مجموعة تصريحات خاصة بالسيسي في ذلك الوقت، عندما صرح في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي عمرو أديب في يناير/ كانون الثاني 2014، إجابة على سؤاله "هل ما حدث في 3 يوليو انقلاب عسكري؟"، ليرد مستنكرا: "هل حصل الفريق أول عبد الفتاح على نجمة زيادة؟ أو أصبح رئيسا للوزراء أو رئيسا للجمهورية؟ ثم أضاف قائلا: "انقلاب يعني أن عسكريين تولوا مقاليد الأمور في الدولة"[4]. وهي التصريحات التي لاقت رواجا كبيرا في ذلك الوقت، وغدت حجة على النظام، الذي سعى إلى ترتيب الأوضاع الداخلية، ليترشح وزير الدفاع في ذلك الوقت عبد الفتاح السيسي إلى منصب رئيس الجمهورية.
وفي مايو/ آيار 2017، تم إصدار قرار بإقالة اللواء أركان حرب أحمد وصفي من رئاسة هيئة التدريب للقوات المسلحة، وتعيينه مساعدا لوزير الدفاع، وهو القرار الذي تم اعتباره نهاية مشواره الفعلي داخل سلك القيادة في الجيش بشكل كامل[5].
ومع إبعاد وصفي، الذي يُعد واحدا من أبرز قادة القوات المسلحة في مرحلة ما بعد 30 يونيو/ حزيران 2013، لكنه لم يختف عن محور الخلافات، بل ظهر مرة أخرى في 23 مايو/ آيار 2018 عندما كشف موقع العربي الجديد، أن مصادر خاصة أطلعته أن "تحقيقات موسعة تجريها دوائر داخل القوات المسلحة مع القائد الأسبق للجيش الثاني الميداني، مساعد وزير الدفاع الحالي، اللواء أحمد وصفي، بتهم فساد مالي، تعود لفترة وجوده على رأس قيادة الجيش الثاني"[6].
- أسامة عسكر
في ديسمبر/ كانون الأول 2016، تم إعفاء قائد الجيش الثالث اللواء أركان حرب أسامة عسكر من منصبه ، ليشغل منصبا بروتوكوليا كمساعد القائد العام للقوات المسلحة لشؤون تنمية سيناء، ومنذ ذلك الوقت لم يتداول اسم عسكر على ساحة الرأي العام والإعلام، حتى بدأ الحديث عن تهم فساد تتعلق به 19 مايو/ آيار 2018، عندما نقل موقع "الأخبار" اللبناني، أن مصادر خاصة به، أكدت أن "قائدا عسكريا مصريا محتجز في (فندق الماسة) التابع للقوات المسلحة، بوسط القاهرة بتهمة (فساد مالي)، وذلك في محاولة للضغط عليه لإعادة مليارات الجنيهات طوعا ومن دون تقديمه إلى المحاكمة"[7]، وذكر عبر العديد من وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية أن ذلك القائد هو أسامة عسكر، لاختلاسه مبالغ ماليه هائلة (وصلت إلى 500 مليون جنيه مصري)[8].
الإقالة ثم التشهير بواحد من كبار قيادات القوات المسلحة، مثل الفريق أسامة عسكر، دفع للتساؤل عن سياقات الخلاف الذي حدث بينه وبين عبد الفتاح السيسي، وهو ما أورده موقع "عربي بوست" بتاريخ 23 مايو/ آيار 2018، عندما ذكر أنه تواصل مع قائد سابق بالجيش المصري، وذكر له معلومات في ذلك السياق مفادها، أن "الفريق أسامة عسكر كان متواصلا مع الفريق أحمد شفيق والفريق سامي عنان".
وأضاف المصدر العسكري، "سمعت أنه حضر جلسة في التجمع الخامس حضرها عسكريون سابقون وحاليون وشخصيات سياسية أخرى، وقد تطرقت هذه الجلسة إلى مسألة الانتخابات الرئاسية وأحقية شفيق وعنان في الترشح، وتطرقت أيضا إلى عدد من أزمات الدولة، ويبدو أن عسكر قال كلاما خارجا عن النص. غير أن مجرد حضوره لجلسة كهذه يعتبر جريمة"[9].
ويعضد تلك الفرضية أن توقيت الإطاحة بعسكر، جاء متزامنا مع توقيت التنكيل بعنان، بعد الانتخابات الرئاسية التي عقدت مارس/ آذار 2018.
- محمود حجازي
في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017، تمت إقالة الفريق محمود حجازي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وتعيينه في وظيفة بروتوكولية كمستشار للرئيس، وهي الإقالة التي مثلت مفاجأة نوعية لعدة أسباب على رأسها أن حجازي هو صهر السيسي، بالإضافة أنه كان من رجاله المقربين، لذلك مثلت الإطاحة به جدلية ولغزا مثيرا[10].
قبل الإطاحة بوالده بعدة أيام، كتب معتز نجل الفريق محمود حجازي، تدوينة مثيرة للجدل على صفحته الشخصية بـ "فيسبوك"، في 16 أكتوبر/ تشرين الثاني 2017، عبر فيها عن غضبه، وسخريته من حملة "علشان تبنيها"، التي كانت تدعم ترشح السيسي لدورة ثانية، في الانتخابات الرئاسية.
معتز حجازي قال: "هل أنا كمواطن المفروض أقتنع أن الرئيس هيترشح نزولا على رغبة الحشد الشعبي، اللي بيمثله باسم مرسي، وشعبان عبد الرحيم، وسوسن بدر، وغيرهم من الكوكبة دي؟ رفقا بأصحاب العقول من المؤيدين قبل المعارضين"[11].
منشور نجل الفريق حجازي، أثار موجة من ردود الفعل الواسعة، والتكهنات عن خلافات بين السيسي، وحجازي، ولعل تلك الضغوطات دفعت معتز حجازي إلى حذف المنشور بعد ذلك.
- صدقي صبحي
في 14 يونيو/ حزيران 2018، أطاح السيسي بوزير دفاعه الفريق صدقي صبحي، وعين قائد الحرس الجمهوري الفريق محمد زكي وزيرا للدفاع والإنتاج الحربي خلفا له.
ونظر مراقبون إلى صبحي باعتباره ثاني أقوى رجل في نظام السيسي، إذ ظل هناك اعتقاد على نطاق واسع بأنه كان محصنا دستوريا من العزل، فضلا عن ظهور السيسي وصبحي في مختلف المناسبات كشريكين في السلطة. لكن ذلك لم يمنعه من عزله على نحو مفاجئ[12].
لكن النقطة المفصلية في قرار إقالة صبحي تتمثل في أنها إقالة "غير دستورية"، حيث ينص الدستور المصري على أن "يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسري أحكام هذه المادة لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور" بحسب المادة 234 من الدستور[13].
ولم تذكر وسائل الإعلام المصرية، أو أي من المصادر الرسمية التابعة للنظام فيما إذا كان السيسي قد حصل على موافقة المجلس العسكري لإقالة صبحي.
وكانت مواد الحصانة قد وُضعت داخل نص الدستور، بإيعاز من السيسي نفسه، حينما كان وزيرا للدفاع، بغرض حمايته من العزل، وتقاسم السلطة بين أبناء المؤسسة العسكرية، إذ كشفت تسريبات صوتية لحوار أجراه الصحفي ياسر رزق مع السيسي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، بإيعازه السيسي إلى محاوره بأنه يريد مادة في الدستور الجديد "عام 2014" بتحصين منصب وزير الدفاع[14].
وتباينت الاستنتاجات عن طبيعة العلاقة بين السيسي ووزير دفاعه صدقي صبحي، والخلافات التي كانت بينهما على مدار الفترة السابقة، في ملفات حساسة، على رأسها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والتي بموجبها تم التفريط في تيران وصنافير لصالح السعودية، وفي 11 يونيو/ حزيران 2017، قالت الحكومة المصرية في بيان لها موجه إلى مجلس النواب (البرلمان): إن "اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية لم يوقع عليها الفريق صدقي صبحي، وزير الدفاع المصري"[15]، وكان ذلك في الوقت الذي وقع فيه وزير الدفاع السعودي عليها.
- محمد الكشكي
في 9 سبتمبر/ أيلول 2019، وبشكل مفاجئ تمت إقالة اللواء محمد الكشكي، الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الدفاع للعلاقات الخارجية. والكشكي يُعد من أهم قادة الجيش في مرحلة ما بعد الانقلاب، حيث لعب دورا هاما في "التسويق للمؤسسة العسكرية داخل أروقة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الخارج بشكل عام".
وكان اللواء الكشكي، قبل قرار الإطاحة به يشرف على عدد من الملفات كممثل للقوات المسلحة بها، وفي مقدمة تلك الملفات، الأزمة الليبية، عبْر عضويته في اللجنة المصرية المعنية بالملف، والتي ترأسها عقب قرار الإطاحة برئيس الأركان المصري السابق محمود حجازي (صهر السيسي)، قبل أن يصدر تكليف رئاسي بنقل رئاستها لمدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل.
كما مثّل الكشكي مصر في اجتماعات دول تجمّع الساحل والصحراء، بالإضافة إلى المشاركة في الاجتماعات الخاصة بملف التحالف العربي في اليمن. وكذلك كان حضوره مكثفا في اجتماعات تشكيل التحالف العسكري الخاص بالدول المطلة على البحر الأحمر، بخلاف قيامه بأدوار كبيرة بشأن ملفات صفقات الأسلحة التي أبرمتها مصر أخيرا مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا.
وكشف الإعلامي المصري أسامة جاويش في تدوينة على "فيسبوك" بتاريخ 9 سبتمبر/ أيلول 2019، عن مجموعة من الأسباب أدت إلى الإطاحة بالكشكي، وبتواصل صحيفة "الاستقلال" مع جاويش، أكد أن مصادر خاصة به، هي المصدر الرئيسي لمعلوماته[16]، وتمثلت أبرز تلك الأسباب في الآتي:
- منذ 4 أشهر تقريبا جاءت إحدى قريبات الفريق سامي عنان وطلبت من الكشكي التوسط لدى النظام لتيسير الزيارة على عائلته، وبالفعل اتصل الكشكي باللواء عباس كامل الذي أخبره بأنه سوف يسأل السيسي ويعود له مرة أخرى، ثم عاود الاتصال به وأخبره أن "السيسي يقول لك (متفتحش الموضوع ده تاني لمصلحتك الشخصية) وهو ما أغضب الكشكي بشدة.
- بعدها بأيام في اجتماع خاص في واشنطن تفوه الكشكي بعبارات غير لائقة في حق عباس كامل وقال ما معناه عن السيسي وعباس: "اللي بيعملوه ده هيودينا في ستين داهية" وتم نقل ما قاله نصا للسيسي وعباس كامل.
- الأمر الأخطر أن الكشكي كان مقربا للغاية من الفريق محمود حجازي وكان يحظى بثقة وتقدير كبيرين لدى الإدارات الأمريكية السابقة والحالية، وأنه بدأ يتعامل في الفترة الأخيرة كما تعامل محمود حجازي في آخر اجتماع حضره لرؤساء الأركان، وأن شعورا بات مترسخا لدى السيسي وعباس كامل، أن الكشكي بات يمثل تهديدا مباشرا عليهم ويجب التخلص منه داخل الجيش.
كان هذا أبرز ما أورده الإعلامي المصري أسامة جاويش، في إطار الكشف عن الإقالة المثيرة لواحد من أهم قيادات القوات المسلحة.
تلك الإطاحات الواسعة، والمتتالية، رغم أنها صورت أن السيسي ممسك بزمام الأمور، داخل المؤسسة العسكرية، وبات الرجل المسيطر وحده، لكنها خلقت احتقانا كبيرا في صفوف القادة، والضباط، الذين باتوا في غير مأمن من ضربات السيسي المفاجئة.
ب: التنكيل بـ"عنان"
عنان الذي تدرج في المناصب القيادية للجيش المصري، بداية من قيادته لقوات الدفاع الجوي، ثم تعيينه رئيسا لأركان الجيش، وهو المنصب الذي شغله لأعوام طويلة، وكان الرجل الثاني في القوات المسلحة بلا منازع، في الوقت الذي كان السيسي، فيه لا يجرؤ على معارضته، وفقا للرتب العسكرية.
السيسي أعلن خلال مؤتمر للشباب قبل الانتخابات الرئاسية 2018، أنه لن يترك من يعلم أنه فاسد ليصل إلى منصب رئيس الجمهورية، في إشارة منه لسامي عنان الذي كان قد أعلن عن ترشحه للرئاسة [17]، وأعلن عبر المتحدث الرسمي للقوات المسلحة في 13 فبراير/ شباط 2018، أن جهات التحقيق سوف تتخذ إجراءات بحق عنان المرشح الذي استبعد من الانتخابات الرئاسية، وأحد المقربين منه (هشام جنينة)، إثر تصريح الأخير قال فيه: إن بحوزة عنان وثائق "تدين الدولة وقياداتها"[18].
وأصدرت المؤسسة العسكرية بيانا في هذا الصدد، أبرز ما جاء فيه: إن "عنان سيتم التحقيق معه لارتكابه جريمة التزوير في المحررات الرسمية بما يفيد إنهاء خدمته بالقوات المسلحة، محملا بيان عنان بالترشح لانتخابات الرئاسة بالتحريض ضد الجيش".
وشدد البيان العسكري: "وفي ضوء ما أعلنه الفريق مستدعى/سامي حافظ عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، من ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية، فإن القوات المسلحة لم تكن لتتغاضى عما ارتكبه المذكور من مخالفات قانونية صريحة جسيمة مثلت إخلالا جسيما بقواعد ولوائح الخدمة لضباط القوات المسلحة"[19].
ومع ذلك لم يلق قائد عسكري رفيع داخل الجيش ذلك التنكيل والعسف الذي عومل به عنان، ففي يناير/ كانون الثاني 2018، رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة الموافقة على ترشيح عنان للرئاسة، بل اتهمه في بيان رسمي بارتكاب مخالفات قانونية جسيمة، إلى جانب ما تم وصفه بـ "محاولات الوقيعة بين الجيش والشعب" في بيان ترشحه.
قبلها بساعات، غرّد مصطفى الشال مدير مكتب الفريق سامي عنان عن مضايقات أمنية شديدة وتهديدات له ولعائلته بالاتهام بالانضمام لجماعة محظورة ما لم يتوقف عن جمع التوقيعات للفريق عنان.
ومع رفض الفريق عنان سحب ترشحه، تم اعتقاله داخل سجن عسكري بالقاهرة، واقتحام منزله، والتحفظ على أحد أبنائه. وفي 28 يناير/كانون الثاني 2019، قضت محكمة عسكرية بالقاهرة، بالسجن 10 سنوات بحقه[20].
ثانيا: ملامح حراك 20 سبتمبر
كانت المظاهرات التي اندلعت في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، بناء على دعوة المقاول والفنان المصري محمد علي، هي الأشد وطأة ضد نظام السيسي منذ سنوات، وجاءت بمثابة الصدمة لأركان حكمه، بعد وصول المتظاهرين إلى ميدان التحرير، واشتعال عدة محافظات بالمظاهرات الغاضبة، المنددة بسياسته، أو المطالبة برحيله[21].
وظهرت خطورة الوضع الذي وصل إليه النظام، مع توجيه السيسي الدعوة إلى عقد المؤتمر الوطني (الثامن) للشباب في مركز المنارة للمؤتمرات في القاهرة الجديدة، يوم 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، ليقوم بالرد على الاتهامات بنفسه، بعدما تيقّن من فشل رجالاته في الرد على محمد علي.
ظهر قلق السيسي بشكل خاص خلال الجلسة الثانية من المؤتمر، التي عُقدت بعنوان "الأكاذيب على الدولة في ضوء حروب الجيل الرابع"، وتحدث رئيس النظام المصري عن "فيديوهات محمد علي، مشيرا إلى خطورتها على المصريين، وبشكل خاص على صغار الضباط بالجيش"[22]، ثم أعقب المؤتمر حملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من 2000 متظاهر، بالإضافة إلى توقيف قيادات حزبية وعمالية بارزة، والعديد من الأكاديميين والصحفيين والمحامين والحقوقيين.
ومما يستدل به على مدى قلق السيسي، من تقلب الأوضاع، والدعوة للتظاهرات، دعوته لعقد مؤتمر الشباب في 14 سبتمبر/ أيلول 2019، قبل أيام من التظاهرات، ليرد على ما نعته بالشائعات ضده وضد أسرته، حتى أنه قال نصا: إن "أجهزة الدولة باسوا إيدى عشان متكلمش ولكن هتكلم علشان أريح كل مصرى ومصرية موجودين فى بيوتهم"[23].
ومع ذلك لم يستجب السيسي لنصح الأجهزة، وأصر على الرد على الاتهامات الموجهة إليه، مما أعطى لتلك السجالات بعدا مختلفا على الصعيد المحلي والعالمي، إذ غدت القضية محورا لاهتمام وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، وأصبح حراك 20 سبتمبر/ أيلول 2019، نقطة مفصلية في فترة حكم السيسي.
وضمن ملامح حراك 20 سبتمبر، ما أشار إليه مقال نشرته صحيفة الاستقلال بعنوان "ماذا خسر السيسي في حراك 20 سبتمبر؟"، عندما ذكر: أنه "من المشاهد التي كانت غائبة، ودفع (حراك سبتمبر) إلى كشفها وتوضيحها، هو إظهار حقيقة الدور المؤثر الذي يقوم به محمود السيسي نجل رأس النظام، فعلى غرار جمال مبارك -ولربما أكثر فجاجة-، أصبح محمود السيسي فعليا بمثابة الرجل الثاني في الدولة، وامتلك صلاحية إدارة الملفات الحساسة، فالفتى الذي تمت ترقيته بشكل استثنائي، لا شك أن دوره هذا يستفز قطاعات من القيادات العسكرية والشرطية، التي تؤمن بفكرة المركزية في الحياة العسكرية، وهي أولوية التراتبية في الصلاحيات بناء على الرتب العسكرية والسن".
وأردف المقال: "فذلك بلا شك يزيد من حالة الاحتقان عند مراكز القوى داخل النظام على المدى المتوسط والبعيد، تماما كما حدث مع نجل مبارك، عندما تبلورت تدريجيا حالة مكتومة من رفضه داخل أروقة السلطة، حتى ساهم ذلك في الإطاحة به... وبأبيه".
وذكر: "ملمح آخر في هذا المشهد وجب الإشارة إليه، وهو أن اعتماد السيسي على ولده، يبرهن على عدم ثقته في القيادات الطبيعية لمؤسسات الدولة، وبالتالي تخطى الجميع بنقل مركز ثقل القرار من المؤسسات إلى أضيق الدوائر الممكنة وهي أسرته"[24].
وتزامن مع هذا الحراك تردد اسم محمود السيسي، بشكل كبير خلال تلك الفترات، فيما يتصل بملفات شديدة الخطورة في شؤون الحكم والسياسة والأمن، وتحديدا منذ أبريل/ نيسان 2019، عندما أوردت تقارير صحفية علاقة محمود السيسي بالتعديلات الدستورية[25]، ودوره في جهاز المخابرات العامة، وورود اسم نجل السيسي، في حد ذاته مثير لمجموعة من التساؤلات عن الجهة التي سربت تلك المعلومات، وساعدت في تداولها على الرأي العام، وإثارة اللغط حولها، خاصة وأن السيسي منذ بداية صعوده إلى سدة الحكم، حرص على إحاطة نجله بسياج شديد من السرية، حتى أنه لا توجد صورة له، أو مادة مرئية توثق شخصيته، إلا مجموعة احتمالات من فيديو متداول لعائلة السيسي، داخل المحكمة الدستورية العليا، أثناء حضورهم حفل تنصيبه رئيسا للجمهورية.
ثالثا: ملامح التسوية
أ: الإفراج عن سامي عنان
في 22 ديسمبر/ كانون الثاني 2019، أفرج النظام المصري بشكل مفاجئ، عن سامي عنان، وذلك بعد اعتقاله لنحو عامين إثر اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية الماضية.
وقال محامي عنان، ناصر أمين، لـ شبكة تلفزيون CNN الأمريكية: إن "موكله قد خرج بالفعل وهو في منزله". مشيرا إلى أنه ليس على اطلاع بعد بالصيغة القانونية التي تم الإفراج عن عنان بموجبها، وفي السياق ذاته، وبحسب وسائل إعلام مصرية، فقد أكد أمين: أن "قرار الإفراج عن عنان لم يأت نتيجة التماس أو عفو من قبل السلطات، وإنما لأن الحاكم العسكري لم يصدق على الأحكام التي صدرت بحق الفريق عنان"..[26]، وقد جاء هذا التصريح في إشارة من الرجل أن تلك الخطوة قد تم اتخاذها من قبل النظام بنفسه، في تلميح لصلابة موقف عنان، وأنه لم يستجد هذا الإفراج، بينما النظام نفسه هو الذي اضطر لذلك التراجع.
وكانت قد صدرت ضد عنان أحكام بالسجن، وصلت إلى 6 و4 سنوات (إجمالا 10 سنوات) في قضيتي تزوير أوراقه الثبوتية وادعاء صفة مدني بدلا من وظيفته كضابط متقاعد تحت الاستدعاء العسكري، ومخالفة القواعد العسكرية بإعلان نيته الترشح لرئاسة الجمهورية منافسا للرئيس عبد الفتاح السيسي[27].
الإفراج عن عنان دون تعليق رسمي، طرح مجموعة من الفرضيات، والتفسيرات حول أسباب إقدام نظام السيسي على ذلك العفو عن عنان. ومن بين التفسيرات التي وردت في بعض وسائل الإعلام، نقلا عن مصادر عسكرية، حول قرار الإفراج أن ذلك يأتي استمرارا لتأثير حراك 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، ووجود قيادات في القوات المسلحة تضررت من قرارات السيسي وسياساته، ومنهم موالون لعنان الذي ينتشر العشرات من أفراد عائلته الضخمة بمختلف الرتب في القوات المسلحة، لا سيما سلاح الدفاع الجوي، الذي كان يشغل عنان قيادته لفترات طويلة، خلال عهد الرئيس المعزول حسني مبارك[28] .
أكد ذلك الضابط السابق في القوات الجوية شريف عثمان، الذي قال: إن "الفريق عنان دخل السجن وخرج منه دون براءة، لأنه لم يحاكم باتهام حقيقي وموضوعي، بل لمجرد أنه أعلن ترشحه للانتخابات، وإعلانه رفض بيع تيران وصنافير".
وذكر عثمان في تسجيل مصور لحوار دار بينه وبين المقاول والممثل محمد علي: أن "الغضب تصاعد داخل القوات المسلحة بسبب حبس ثاني رجل في الجيش، إذ يشعر الجميع بأنه مهدد في أمنه الشخصي لأدنى سبب"، وأكد شريف عثمان: أن "السيسي الآن أضعف بكثير مما كان عليه قبل أشهر، وهو الآن يتراجع عقب تزايد الغضب على سياساته داخل القوات المسلحة"[29].
ب: عودة أسامة عسكر
اعتمد السيسي، بشكل غير معلن حركة التنقلات المتعلقة بالقوات المسلحة، والخاصة بشهر يناير/ كانون الثاني 2020، وتضمنت ما وصفها العديد من المراقبين بالمفاجآت والدلالات المثيرة، بعودة وجوه من الحرس القديم، الذي تم استبعادهم خلال الفترات الماضية، إلى المشهد مرة أخرى[30].
وأبرز ما تضمنته حركة التغييرات المشار إليها، عودة الفريق أسامة عسكر الذي كان يشغل منصب مساعد القائد العام للقوات المسلحة لشؤون تنمية سيناء ليتولى منصب رئاسة هيئة العمليات.
وكما ذكرنا في الجزئية الخاصة باستبعاد الفريق أسامة عسكر، أنه كان رهن الاحتجاز بحسب وسائل إعلام محلية، وإقليمية، مع تعرضه لحملة تشويه خاصة بذمته المالية، وكان نقله وتجميد نفوذه، محور تساؤلات، لكن جاءت عودته إلى المشهد مرة أخرى، وفي منصب فاعل كرئيس لهيئة العمليات، لتثير تساؤلات أكبر، عن سر تلك العودة، ودلالات التجاوز عن الخلافات السابقة.
ج: إبعاد محمود السيسي
مع تصاعد حالة الاحتقان والغضب ضد النظام، بدأ دور محمود السيسي رويدا رويدا في الظهور وبدأ في قيادة المشهد بشكل بارز، وتمثل ذلك في ترؤس اجتماعات لقيادات أمنية أثناء أزمة حراك 20 سبتمبر وما بعدها.
ومما يشير كذلك إلى حجم النفوذ الذي وصل له محمود السيسي هو ما تم رصده قبل ذلك، حيث كان واحدا من أبرز أدواره، ففي 4 أغسطس/ آب 2019، نقلت وكالة "رويترز" عن مصادر قولها: "3 من المستشارين المقربين للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بدؤوا التخطيط للتعديلات الدستورية الأخيرة قبل إقرارها بعدة أشهر".
وأكدت المصادر أن المستشارين الثلاثة هم: "محمود السيسي أكبر أبناء الرئيس، ومدير المخابرات عباس كامل، والمستشار القانوني لحملة السيسي الانتخابية محمد أبو شقة"[31].
وفي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، نشر موقع مدى مصر (المحجوب من قبل السلطات)، تقريرا أكد خلاله أن: "اجتماعات شبه يومية تجري بين مبنى المخابرات العامة في كوبري القبة، وقصر الاتحادية الرئاسي بمصر الجديدة من أجل الاستقرار بشكل نهائي على المواد التي سيتم تعديلها، ونصوص المواد البديلة وموعد الاستفتاء".
التقرير قال: "إن محمود السيسي نجل الرئيس والذي يحظى حاليا بوضع مميز داخل جهاز المخابرات العامة، هو مَن يدير بنفسه هذه الاجتماعات، تحت إشراف ومتابعة يومية من اللواء عباس كامل مدير الجهاز، والذي شارك أيضا في بعض هذه الاجتماعات، بحسب المصادر".
كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز في يناير/كانون الثاني 2018 عن مسؤول سابق بالخارجية الأمريكية أن محمود السيسي زار واشنطن مرة واحدة على الأقل، حيث رافق مدير المخابرات العامة آنذاك خالد فوزي في زيارة للتباحث مع مسؤولي إدارة باراك أوباما.
واستدعت تلك التقارير وغيرها أوجه تشابه بين أبناء السيسي وأبناء الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أطاحت به ثورة يناير/كانون الثاني 2011[32].
وبات الدور الذي يلعبه محمود السيسي حديثا لوسائل الإعلام، حيث استنزفت هذه الصلاحيات والتحركات قطاعات واسعة من النظام، الأمر الذي نتج عنه اتخاذ القرارات التي نشرت عنها وسائل إعلام محلية وعالمية نقلا عن مصادر استخباراتية تفيد بنية السيسي إبعاد محمود إلى الخارج، وخروجه من المشهد، لتجاوز أزمة كبرى قد تأتي لاحقا، على غرار ما حدث مع مبارك عندما سعى لتوريث نجله جمال.
وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، نشر موقع "مدى مصر" تقريرا، مفاده أن السيسي، وافق على إبعاد نجله من المخابرات بعد سلسلة إخفاقات وأزمات داخلية هددت استقرار نظامه، وهو التقرير الذي على أثره تم مداهمة الموقع، واحتجاز محرريه لفترة زمنية، واعتقال المحرر "شادي زلط" كاتب التقرير[33].
ونقل الموقع عن مصدرين منفصلين داخل جهاز المخابرات العامة، مجموعة من المعلومات، أبرزها:
- قرار صدر قبل أيام بندب محمود السيسي، للقيام بمهمة عمل طويلة في بعثة مصر العاملة في روسيا، بعدما أثرت زيادة نفوذه سلبا على والده.
- القرار تم اتخاذه، على أن يكون تنفيذه في 2020، بعد فترة ابتعاث قصيرة لمحمود من المخابرات العامة إلى المخابرات الحربية.
- القرار جاء بعد مشاورات مطولة داخل دائرة أسرة الرئيس والمجموعة الصغيرة المحيطة بها، وعلى رأسها اللواء عباس كامل، حيث اتفق جميع المشاركين على أن - بروز اسم نجل الرئيس كأحد أهم صناع القرار في مصر، أضر كثيرا بصورة الرئيس والأسرة، بل وبات يشكل تهديدا واضحا لاستقرار النظام.
- قرار إبعاد محمود السيسي جاء تنفيذا لمقترح إماراتي نقله محمد بن زايد الحليف الأقرب للرئيس المصري، بحسب ما أوردته مجلة "إنتليجنس أون لاين" الفرنسية، المتخصصة في شؤون الاستخبارات[34].
- القرار يهدف لإخراج نجل الرئيس من المشهد بشكل لائق، يهدئ من حدة الانتقادات الموجهة إليه.
ثالثا: هندسة الملف الإعلامي
بحسب التقارير والتسريبات الغربية والعربية، التي كشفت خطط ومساعي نظام السيسي لهيكلة الإعلام، ومنع أي قناة أو وسيلة إعلامية تغرد خارج السرب أو تنقل رسالة ورؤية مغايرة لرؤية وإرادة رأس السلطة.
ومن أبرز الأمثلة في 6 يناير/كانون الثاني 2018، عندما نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريرا أنجزه الصحفي "ديفيد كيركباتريك"، تضمن توجيهات من ضابط مخابرات مصري يدعى النقيب أشرف الخولي إلى مجموعة من الإعلاميين والفنانين المصريين للترويج الضمني عن قبول الدولة المصرية لقرار ترامب بشأن القدس عاصمة إسرائيل، والقبول برام الله عاصمة للدولة الفلسطينية[35].
ومع ذلك ظل الملف الإعلامي يمثل حالة قلق مستمرة داخل أروقة النظام، ويعبر عن حجم الخلافات في بنية السلطة، ومن الدلالات، ذلك الكم من التغييرات والإقالات للمسؤولين عن الملف، ومنهم العقيد أحمد شعبان الذي تم إبعاده، وضابط المخابرات ياسر سليم الذي قبض عليه في ظروف غامضة[36].
وأوضحت مصادر مقربة من الدوائر الأمنية، أنه تمت الإطاحة بمسؤولي مكتب الإعلام في مكتب اللواء عباس كامل، وهما المقدم أحمد شعبان، مسؤول ملف الإعلام ومدير مكتب كامل، والمقدم محمد فايز، أحد المسؤولين عن ملف الإعلام بالمخابرات.
وعن أسباب سحب الملف الإعلامي من جهاز المخابرات، كشف مصدر لموقع (عربي 21) الإخباري، أن "المكتب المسؤول عن ملف الإعلام أخفق بقوة في غالبية الملفات والمهام التي كان من المفترض أن يؤديها على أتم وجه، وتسبب في إحراج النظام داخليا وخارجيا".
وأضاف المصدر: أن "من أبرز تلك الملفات الملف الخاص برجل الأعمال والفنان محمد علي، ومظاهرات 20 و27 أيلول/ سبتمبر، وفشل إطلاق قناة (دي إم سي) الإخبارية، بعد 3 سنوات من تدشينها، وإنفاق مئات ملايين الجنيهات عليها".
وكشف المصدر "أن حالة الإرباك والارتباك في التعامل مع قضايا الرأي العام التي حركت الشارع المصري أثرت بشكل سلبي على شعبية الرئيس، وحالة الاحتقان لدى الناس لم يستطع الإعلام معالجتها، وتقديم مشروعات وإنجازات الرئيس بشكل صحيح"[37].
وحسب ما نقلت المصادر الاستخباراتية لـ "مدى مصر"، كاشفة عن "تزامن صدور قرار إبعاد محمود السيسي عن المشهد مع صدور قرار إبعاد مماثل، بحق المقدم أحمد شعبان، الضابط بالمخابرات العامة، والذي برز اسمه لسنوات كأحد مهندسي ملف الإعلام، بإرساله للعمل خارج مصر وتحديدا في بعثة مصر في اليونان".
فيما أشارت المصادر إلى أن "هناك قرارات أخرى صدرت في الأيام الأخيرة لضباط آخرين، إما بالندب للعمل خارج البلاد أو في مؤسسات حكومية أخرى في الداخل، في سياق إعادة ترتيب المسؤوليات داخل الجهاز، وإبعاد الأسماء التي صار اسمها متداولا على السطح أكثر مما تقتضي متطلبات الوظيفة".
وفي 3 يوليو/ تموز 2019، نشرت مجلة "إنتليجنس أون لاين"، تقريرا أفاد أن "السيسي طلب من العقيد أحمد شعبان، إعداد الإصلاح الداخلي لجهاز المخابرات العامة، التي يرأسها الرجل المؤثر عباس كامل".
وذكرت المجلة الفرنسية أن "العقيد شعبان، عمل في رئاسة الأركان قبل استلام هذه المهمة الأخيرة. وأنه اشتهر برئاسة قسم الإعلام في المخابرات الحربية، وهو على مقربة من محمود السيسي".
وكشفت أن "العقيد السابق في المخابرات الحربية، هو الشخص الذي كتب مقالات في الصحف المصرية القريبة من أجهزة الأمن، مثل اليوم السابع، تحت اسم مستعار (ابن الدولة)"[38].
رابعا: الجهات التي دعمت السيسي في تحركاته الأخيرة
مع تصاعد حالة الحنق ضد النظام إبان تظاهرات 20 سبتمبر/ آب 2019، انكشفت معلومات نشرتها وسائل إعلام محلية وعالمية نقلا عن مصادر استخباراتية[39] تفيد بنية السيسي، اتخاذ مجموعة من الإجراءات، والتسويات داخل المؤسسة العسكرية، لامتصاص الغضب وتجاوز أزمة كبرى قد تأتي لاحقا.
وحسب تلك المعلومات والتقارير، فإن هناك مجموعة من الاحتمالات، حول الجهات الداخلية والخارجية، التي وضعت إستراتيجية تحركات السيسي، ووجهته أو دعمته في اتخاذ قراراته، وهذه الجهات هي، القيادات التاريخية في المؤسسة العسكرية ، وتحديدا المشير طنطاوي، الذي يعد بمثابة الأب الروحي للسيسي، وكذلك دولة الإمارات، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الداعم الإقليمي الأول للنظام المصري، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، وإدارة الرئيس ترامب، التي تشهد تقاربا واضح مع رئيس النظام المصري، وأخيرا إسرائيل المتخوفة من سقوط وزعزعة حكم حليفها في مصر.
أ: قيادات القوات المسلحة التاريخية، على رأسهم المشير طنطاوي
منذ الانقلاب العسكري، في 3 يوليو/ تموز 2013، أطاح السيسي بأكثر من 42 قيادة عسكرية رفيعة المستوى معظمهم كانوا أعضاء بالمجلس العسكري، وهو ما أخل بتوازن القوى داخل المؤسسة العسكرية، ولعل هذا ما التقطته قيادات عسكرية نافذة، بحجم المشير طنطاوي، الذي يعد بمثابة الأب الروحي للسيسي.
في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2019، نشر موقع "العربي الجديد" تقريرا، كشف خلاله عن ربط مصادر عسكرية وحكومية مطلعة على المشهد السياسي في مصر، وقريبة من دائرة السيسي، بين قرار الإفراج عن عنان، بعد نحو عامين من الاعتقال وإصدار حكمين ضده بالسجن، وبين إعادة الفريق أسامة عسكر إلى العمل العسكري مرة أخرى بتولّيه رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة[40].
وقالت المصادر لـ "العربي الجديد": "هناك 3 ملفات رئيسية ارتأى السيسي حلحلتها قبل نهاية العام بقرارات اتخذها باستشارة عدد من المقربين، من أبرزهم وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي، وعدد من ضباط المخابرات الحربية السابقين من زملائه، والذين كان انتدبهم قبل أشهر للعمل في الرئاسة كمستشارين غير معلنين، تحت إشرافه مباشرة، وبعيدا عن سلطة مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل، الذي يبدو الخاسر الأكبر من تطورات تلك الأوضاع.
كان الملف الأول، والأهم هو تهدئة الغضب داخل قيادة الجيش بسبب التدخلات المستمرة في عمله من قبل المخابرات العامة ممثلةَ في عباس كامل ومساعده أحمد شعبان ونجل السيسي محمود، وجميعهم سبق أن كانوا ضباطا في الجيش، لكنهم تعاملوا في الفترة الأخيرة معه باعتباره تابعا للمخابرات، في إطار رغبة الثلاثة في السيطرة المطلقة على جميع الأجهزة، وقطع العلاقات بينها وبين الرئاسة إلا من خلال جهاز المخابرات العامة.
ب: دولة الإمارات وولي عهد إمارة أبو ظبي محمد بن زايد
أما السيناريو الثاني في دوافع هذه التسويات، فهو دور الإمارات المتمثل في تقديم استشارات لرئيس النظام المصري في هذا الصدد، ففي التقرير الذي نشره موقع مدى مصر بتاريخ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعنوان "مهمة عمل طويلة.. إبعاد محمود السيسي إلى روسيا"، ذكر بوجود مصدر قريب من دوائر صنع القرار في إمارة أبوظبي، قال لـ (مدى مصر): إن "قرار إبعاد محمود السيسي يعد بمثابة تنفيذ لمقترح إماراتي تمت الإشارة به على الرئيس في معرض التنسيق الثنائي رفيع المستوى الممتد بينه وبين ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية محمد بن زايد، الحليف الأقرب للرئيس المصري"[41].
ما يعني أن الإمارات حرصت على استمرار الدعم الكامل للسيسي على جميع الأصعدة، لا سيما أنها الظهير الإقليمي، والدولي للجنرال الذي يواجه الكثير من الصعوبات.
ومما يدعم هذا السيناريو أيضا، هو ما نشرته صحيفة "هآرتس" في يناير/ كانون الثاني 2020، للباحث الإسرائيلي تسفي بارئيل بعنوان: "أردوغان يتحدى السيسي في ليبيا، لكن رئيس النظام المصري يواجه تحديات أكبر في بلده".
وذكر الكاتب أن "تطور علاقات الصداقة العميقة بين السيسي ومحمد بن زايد، وصلت إلى حد أن رئيس النظام المصري يستشير ابن زايد بشأن المسائل المتعلقة بالإدارة المصرية، وحتى تلك المسائل المتعلقة بالشؤون العسكرية المصرية".
وساق بارئيل أمثلة على ذلك، بالقول: "السيسي استشار ابن زايد منذ شهرين تقريبا في قرار إقالة ابنه محمود من منصبه في جهاز المخابرات المصرية ونقله إلى وظيفة دبلوماسية في السفارة المصرية في موسكو. لكن هذه ليست مجرد أخوة شخصية بين مصر والإمارات، فقد تم تشكيل تحالف إستراتيجي وعسكري واقتصادي، يقوم فيه كل من البلدين بتنسيق أنشطتهما وسياساتهما"[42].
ج: إسرائيل ليست ببعيدة عن دعم بقاء السيسي
لا يمكن أن تكون إسرائيل في معزل عن دعم نظام السيسي، الأمر الذي رافقه منذ اليوم لانقلابه العسكري في 2013، وظهر ذلك جليا في تناول الصحافة الإسرائيلية للمظاهرات التي خرجت مساء الجمعة 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، في مدن مصرية عدة، بشيء من التوجّس، والارتياب، والقلق.
ورأى الكاتب الإسرائيلي اليميني أرئيل سيغل أنه "في حال عادت الحياة إلى ميدان التحرير، فإن هذا يُمثل أخبارا سيئة جدا لإسرائيل"، مؤكدا أن "مؤشرات عدم استقرار نظام السيسي، قد يجعل إسرائيل تواجه مجددا سيناريو الرعب الذي خشيته بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير"[43].
وعلّقت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية كذلك على الاحتجاجات المصرية، بالقول: إنه "رغم وجود عدد قليل نسبيا من المتظاهرين في ميدان التحرير، إلا أن انتشار القصة على شبكات التواصل الاجتماعي يزيد من اكتسابها شعبية"[44].
وغرد الناشط الإسرائيلي "كوهين الياجوري" على تويتر بقوله: "سقوط الرئيس عبد الفتاح السيسي، هو سقوط للدولة المدنية بمصر وعودة الإرهاب لحكم مصر من جديد، وعودة الدعم العسكري لحركة حماس"[45].
وفي ورقة بحثية صادرة عن معهد "القدس للدراسات الإستراتيجية والأمنية"، أعدّها نائب مدير المعهد الدكتور عيران ليرمان، قال: "فُرص السيسي في تحقيق الاستقرار في مصر أفضل رغم التحديات التي يواجهها، بسبب الدعم المتواصل الذي تُقدمه إسرائيل للسيسي ونفوذ تل أبيب لدى واشنطن، واستغلال ذلك لتعزيز التحالف الإستراتيجي بالشرق الأوسط والدعم المالي والعسكري للقاهرة، مع تجديد الإمارات والسعودية ضخ الأموال ومساعدة الاقتصاد المصري"[46].
جدير بالذكر أن السيسي اعتمد منذ صعوده إلى الرئاسة في مصر إلى تعزيز العلاقات مع إسرائيل، والتوسع إلى لقاءات مستمرة مع الحركة الصهيونية العالمية، وتلقي الدعم الكامل منهم، وتحديدا في الولايات المتحدة.
وتوالت الزيارات المتبادلة بين السيسي وقيادات صهيونية رسمية وغير رسمية، حيث التقى في الفترة ما بين 2015 وحتى 2018 بنحو عشرين وفدا صهيونيا، ما بين جمعيات أو لوبيات أو حتى قيادات رسمية، وبعض هذه اللقاءات كانت سرية، ولم تعلن عنها الحكومة المصرية، وإنما أعلنتها وسائل إعلام تابعة للدولة العبرية.
ومن أبرز من التقاهم السيسي، الملياردير اليهودي الأمريكي "رونالد لاودر"، الذي التقاه 5 مرات في 3 أعوام، وهو الرجل الذي يرأس منظمة "المؤتمر اليهودي العالمي"، أو الكونجرس اليهودي العالمي، وهو من أهم المؤسسات والجمعيات الصهيونية في العالم، وهو اتحاد دولي للمنظمات اليهودية مؤلَّف من أكثر من 70 منظمة، ويسعى إلى تقوية الوحدة بين اليهود، والحفاظ على العادات الثقافية، والدينية، والاجتماعية اليهودية[47].
وفيما يتعلق بالتسوية داخل المؤسسة العسكرية، فإن العلاقات العسكرية المصرية الإسرائيلية تطورت بقوة في الآونة الأخيرة، وهناك تحالفات وثيقة، وتعاون مستحكم بين النظامين، والقوات المسلحة على وجه الخصوص، ما يجعل إسرائيل ليست بعيدة عن الأمر، ولو من باب الاستشارات والتحذيرات.
وفي 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، دعا معهد "أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب الحكومة الإسرائيلية إلى دعم السيسي بشكل واضح، ووصفت وضعية رئيس النظام المصري بأنه يواجه، في الأسابيع الأخيرة، أخطر أزمة عامة منذ توليه منصبه.
وأخطر ما ذكره معهد الأبحاث الإسرائيلي في تقريره حول الأزمة المصرية، تلك الجزئية، التي قال فيها: "يوجد تهديد آخر من جانب جهات داخلية، عسكرية واقتصادية، قد تدرس إمكانية الخروج بشكل علني ضد الرئيس"[48].
تلك المعطيات تعزز من فرضية أن النظام الإسرائيلي، لم يأخذ موقع المتفرج الصامت، على الأحداث الدائرة في مصر، خاصة داخل المؤسسة العسكرية، فهي وإن كانت من الصعب أن تعلن موقفها الرسمي، أو تتدخل بشكل علني على غرار الإمارات، لكنها قادرة على توجيه الإرشادات، وخلق الدعم، وإيعاز الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، لإرساء دعائم استقرار السيسي والقيادات العسكرية.
د: الدور الأمريكي، وسفر إلى الولايات المتحدة أثناء الأزمة
أما السيناريو الرابع، فيتمثل في دعم الولايات المتحدة الأمريكية، للإجراءات التي اتخذها السيسي خلال المرحلة السابقة، ومما يعضد تلك الفرضية أنه في اليوم العاصف 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، الذي اندلعت فيه المظاهرات في القاهرة، والعديد من محافظات القطر المصري، وصل السيسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن قدم موعد زيارته 3 أيام، وهو ما تم تفسيره بمحاولته تلقي الدعم من الإدارة الأمريكية، في ظل الأحداث الأخيرة، وتفاقم الوضع، خاصة وأن ترامب وصفه بأنه "قائد عظيم" و"ديكتاتوره المفضل".
كان السيسي قبل سفره بيوم واحد إلى الولايات المتحدة، وتحديدا في 19 سبتمبر/ أيلول 2019، قد تقدم جنازة رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق إبراهيم العرابي، وسط حشد لافت من قيادات الجيش الحاليين والسابقين، وهو ما فُسر بأنه رسالة استعراض بأنه مسيطر على مقاليد الأمور.
وظهر بجوار السيسي وزير الدفاع الحالي اللواء محمد زكي، ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي والأسبق محمد حسين طنطاوي. كما ظهر في الجنازة أيضا رئيس الأركان الحالي الفريق محمد فريد حجازي، ورئيس الأركان السابق الفريق محمود حجازي[49].
وجود هذا الكم من قيادات القوات المسلحة بجوار السيسي، كان مفاده إرسال رسالة تؤكد وحدة المؤسسة العسكرية، ولكنه بعث أيضا برسائل عكسية، أن رئيس النظام يحاول أن يخفي أزمة داخلية معقدة، وخلافات متصاعدة، ثم كان سفره المباشر، والمبكر عن موعده إلى الولايات المتحدة الأمريكية، معززا لفرضية، حصوله على دعم، وتوصيات من قبل الإدارة الأمريكية، بخصوص تعامله مع الأزمة، وتعامله مع المؤسسة العسكرية على وجه الخصوص، وتخفيف من حدة النزاعات، والإقصاءات التي حدثت بحق مجموعة من القيادات، والتنكيل بالبعض الآخر، وخاصة الفريق سامي عنان، الذي كان رهن الاحتجاز في ذلك الوقت.
الولايات المتحدة عبرت عن قلقها بشأن ما حدث مع عنان، وفي 23 يناير/ كانون الثاني 2019، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر نويرت: "الوزارة تراقب الأمور في مصر عن كثب بعد اعتقال قوات الأمن المصرية للفريق سامي عنان، وذلك عقب إعلان القيادة العامة للقوات المسلحة استدعاءه للتحقيق.
وأضافت نويرت خلال مؤتمر صحفي تعقيبا على اعتقال عنان: "نراقب الأمر في مصر عن كثب ونعي ما يجري". وأوضحت "لسنا مع وضع القيود على التعبير عن الرأي في مصر". وتابعت: "الولايات المتحدة تريد عملية انتخابية في مصر عادلة وحرة"[50].
ومما سبق أن الإدارة الأمريكية، ليست ببعيد عن أدق التفاصيل التي تجري في أروقة المؤسسة العسكرية المصرية، وعلى رأسها الخلافات بين كبار القادة، سواء كانوا في الخدمة، أو سابقين.
وفي 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، افتتاحيتها تحت عنوان "ديكتاتور ترامب المفضل يصاب بالفزع"، وقالت: إن "حاكم مصر عبد الفتاح السيسي، أصبح الديكتاتور (المفضل) لترامب".
وأردفت: "لهذا فإنه يجب على الرئيس (ترامب)، والذين يشاركونه الرأي القلق من الأخبار الأخيرة التي جاءت من القاهرة، فقد خرج الشباب المصريون الذين سئموا من الركود في ظروفهم المعيشية، ونظام السيسي الفاسد، إلى الشوارع في جمعتين متتاليتين، وهتفوا بشعارات تطالب برحيل الرجل القوي".
وأضافت واشنطن بوست: "رغم أن القليل يتوقعون حدوث ثورة في المنظور القريب، فإن الاضطرابات وردة فعل السيسي هما تحذير واضح من أن مصر في ظل حاكمها الحالي ليست مستقرة"، ذاكرة أن "السيسي يأخذ توجيهاته من البيت الأبيض، وطالما بقي ديكتاتور ترامب المفضل فإننا سنتوقع حملة قمع لا ترحم تزعزع في النهاية الاستقرار"[51].
وفي 24 سبتمبر/ أيلول 2019، بعد أيام من اندلاع المظاهرات، نشرت وكالة رويترز خبرا، مفاده أن "الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قدم دعما قويا لنظيره المصري عبد الفتاح السيسي الذي يواجه مظاهرات في بلاده". قائلا: إن "الولايات المتحدة ومصر تجمعهما علاقة جيدة طويلة الأمد".
وشدد ترامب للسيسي لدى لقائهما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك: "الجميع لديه مظاهرات.. ولست قلقا بشأنها، فمصر لديها زعيم عظيم!". وأضاف الرئيس الأمريكي: "لقد حقق أمرا رائعا في وقت قصير، فعندما تولى السلطة من فترة قصيرة كانت مصر تعاني الفوضى وهي الآن ليست في فوضى"[52].
كان السيسي قد قدم موعد زيارته إلى الولايات المتحدة 3 أيام، حتى يحظى بدعم ترامب والإدارة الأمريكية، وقد جاءت هذه التصريحات والمواقف التي أعلن عنها ترامب -دون مواربة-، جاءت بمثابة الدعم الواضح له في مواجهة السخط الشعبي، وفي مواجهة بعض الجنرالات المختلفين معه.
خاتمة
في ذلك الإطار نذهب إلى أن طبيعة المنظومة العسكرية التي حكمت مصر لعقود، من الصعوبة بمكان أن تسيطر عليها جهة بشكل مطلق، وتحديدا مؤسسة الرئاسة، وأن السيسي رغم إقدامه على تنفيذ مجموعة من الإجراءات، باستبعاد قيادات، والعسف بقيادات أخرى، مع ذلك لم يستتب له الأمر، بل ساهم في خلق موجة من الغضب المتصاعد في بنية نظامه بشكل عام، تفاقمت مع الوقت لتهدد وجوده.
وهو ما دعاه لتحركات متسارعة، في محاولة منه لاحتواء الأزمة، حيث اتخذ مجموعة من الإجراءات التي تحاول إعادة التوازن في بنية التركيبة القائمة للنظام المصري، وجاء ذلك نابعا من حجم الخطورة التي يستشعرها السيسي، ورجاله، ومن في فلكه من الداعمين، الذين يعرفون صعوبة أن يشتعل صراع داخل المؤسسة العسكرية، وتدور معركة بين مراكز القوى في تلك الهيئة، خشية أن تتطور الأمور إلى مالا يحمد عقباه، وهي قراءة تعتمد على تاريخ قديم ومتجذر.
وأوردت الورقة أن هناك عدة جهات ساهمت في إعادة ضبط بوصلة السيسي في التعاطي مع هذا الملف، وجاء ذلك إما بتوصيات داخلية من قبل كبار القادة المقربين منه، مثل وزير الدفاع الأسبق محمد حسين طنطاوي، أو باستشارات خارجية، ودعم إقليمي ودولي، من قبل الإمارات، ممثلة في ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، أو إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، الذين يسعون إلى استقرار حكم حليفهم الوثيق.
ليقوم بعد ذلك بإصدار تلك المجموعة من القرارات، في شكل إجراءات موسعة داخل المؤسسة العسكرية، شملت عودة قيادات إلى مواقعها، والعفو عن قيادات أخرى، وإبراز قيادات ثالثة في الصورة بدلا من تهميشها.
ويبقى هناك سؤال مازال مطروحا: هل استطاع السيسي بتلك الإجراءات احتواء الصراعات داخل المؤسسة العسكرية، وتسكين الغضب؟ أم أنها حالة مؤقته سرعان ما تنتهي، وتعود بعدها خلافات أعمق لتظهر على السطح؟.