القرآن الكريم.. لهذا أصرت تركيا على ترجمته مع تأسيس الجمهورية
سلطت صحيفة يني شفق الضوء على الجدل الذي دار مع تأسيس الجمهورية التركية عقب انهيار الدولة العثمانية، وكيف أن الكثير من النوايا "الخبيثة" كانت تشجع تفسير القرآن الكريم أو كتابته بالتركية.
وقال مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية التركي ياسين أقطاي، في مقال له: إن الهدف المعلن من ذلك، كان تسهيل فهم القرآن للناس، لكن النية الحقيقة كانت هدم كتاب الله في صدورهم من خلال تسطيح معناه وأن يغدو باهتا وليس كتابا إعجازيا مقدسا.
وأضاف الكاتب أن هناك طلب متزايد واحتياج إلى معرفة معاني القرآن كان في العصر الجمهوري، لكن لم يمكن هذا الأمر منذ البدايات؛ فمع تأثيرات الحداثة والتغريب، وفي ذات الوقت معرفة القراءة والكتابة، فتح الطريق أمام التغيير في طبيعة السلطة والعلوم الدينية.
القرآن والعلمنة
وبالنسبة للبعض، هذا هو معنى العلمنة بالضبط؛ "لأن ذلك أدى إلى إضعاف السلطة الدينية والهدم التدريجي لها سيما وهي التي تحتكر الآراء الفردية". وقال: "بات الكثير يؤمن أو لا يؤمن بالمعتقدات الدينية وفقا لآرائه، وفقدت إلى حد بعيد قضايا الثقة بالدين والإيمان الراسخ به".
وحدث هذا بالضبط في الغرب وكان له تأثير ضعيف على سلطات المعرفة الدينية الكاثوليكية والأرثوذكسية؛ حيث يقول الكاتب: "ومع تطور المطبعة وانتشار الثورة الصناعية، فتحت سلطة التفسير على الكتاب المقدس للجمهور وكان التأثير الضمني لهذا هو العلمنة المتعمدة وإزالة الطابع الديني وحتى الإلحاد".
وتابع: أنه "من الواضح أن المسألة تكررت ذاتها في تركيا حين ترجم القرآن الكريم وكتب باللغة التركية".
توضح الروايات الشائعة جدا حول هذه القضية أن هذه النية ليست حاضرة على الإطلاق؛ فلم يكن المقصود هدم القرآن في نفوس الأتراك، ولكن من خلال ترجمته، كان من المتوقع أن يرى الشعب التركي- دون معرفة قرآنه طوال سنين خلت - كيف يمتلئ القرآن بالبدع والخرافات بدلا من المعجزات والكرامات التي يحملها الكتاب المقدس ويتحدث عنها!".
وبالطبع يكون السؤال، ما الذي سيحدث لمن لا يؤمن بهذا الكتاب؟، فبالنهاية هذا الكتاب يزيد الذين اهتدوا هدى ويترك الضالين في ضلالهم يعمهون.
وأردف الكاتب: "قد لا يكون من الضروري فهم ما في القرآن من أجل الإيمان به، لكن بالتأكيد، الأمر المثالي والمهم هو فهمه تماما".
ويتابع: "حتى في اللاهوت البروتستانتي، تمت صياغة المشكلة بهذه الطريقة، وشرع عالم التأويل الشهير رودولف بولتمان في مشروع لتنقية الأساطير من أجل فهم أفضل للكتاب المقدس ما فتح الكثير من الجدل للأوساط الفلسفية اللاهوتية المسيحية".
رحلة الترجمة
عرض على الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي، مؤلف النشيد الوطني التركي، تقديم أول ترجمة للقرآن، فهو كان يرى أن النية الحسنة قد لا تعوض النية السيئة من وراء ترجمة القران أو كتابته بالتركية.
ففي العام 1925، أصدر البرلمان التركي قرارا بكتابة أول تفسير للقرآن الكريم باللغة التركية، وتوكيل رئاسة الشؤون الدينية بالمهمة، وعليه أحالت مهمة ترجمته القرآن إلى الشاعر أرصوي على اعتباره أفضل من يمكنه القيام بهذه المهمة.
وقد رفض أرصوي المهمة في البداية، لكن أقاربه وأصدقاءه تمكنوا من إقناعه في نهاية المطاف. وإثر ذلك توجه الأديب التركي إلى مصر، وبدأ بالترجمة في شهر "أكتوبر/تشرين الأول" 1925.
وأنهى الشكل الأول للترجمة في العام 1928، واستمرت عملية تنقيح ومراجعة النص نحو 4 سنوات، لتنتهي الترجمة بشكل كامل في العام 1932. ويتساءل الكاتب "هل يكون إقدام أرصوي على هذه الخطوة محاولة لتعويض النية السيئة من ترجمة القرآن بالتركية، بنيته الحسنة حين وافق على هذه الخطوة؟!".
تبقى هذه النقاشات مفتوحة لاختلاف الروايات التاريخية، ومن ذلك أنه وخوفا من أن يصلي الأتراك فعلا باللغة التركية، تراجع أرصوي عن اتفاقه مع رئاسة الشؤون الدينية ورفض تسليم ترجمته للقرآن، ما دفعهم إلى إسناد هذه المهمة لأديب آخر يُدعى إسماعيل حقي.
بعد رفض أرصوي نشر ترجمة القرآن إلى التركية، نُقل عنه قوله: "الترجمة كانت جيدة جدا، بل إنها كانت أجمل مما كنت أنتظر. لكني أخشى إن سلَّمتها أن يُقرِئْها للناس في الصلاة، فإني حينها لن أتجرأ على المثول أمام الله والنظر إلى وجه نبينا".
وكتب عاكف رسالة يؤكد فيها على أنه لم يعجب بالترجمة التي قام بها، وأنه واثق من عدم إمكانية النجاح في هذا العمل، ويؤكد تراجعه عنه ليصرف السلطات التركية آنذاك عن فعل هذا الأمر الذي أريد به حينها صرف الناس عن أصل القرآن الكريم.
وأعاد الشاعر بعد ذلك النقود التي استلمها من رئاسة الشؤون الدينية لوضع التفسير وانسحب من المشروع. ويقال إن عاكف سلم قبل وفاته مسودة الأجزاء التي قام بتفسيرها إلى صديقه المقرب محمد إحسان أفندي، تناقلتها الأجيال وهي تخفيها خشية وقوعها في أيدي السلطات التركية آنذاك بناء على وصية عاكف نفسه.
فهم القرآن
ومضى الكاتب في مقاله قائلا: "بالطبع، كان هناك مطالبة جادة بين جميع الأقسام الإسلامية لفهم ماهية الكتاب، الذي أرسله لنا الخالق كدليل للمؤمنين، وبعيدا عن هذه النية الخبيثة أصبح هذا الطلب أكثر إلحاحا مع زيادة التحضر والتحديث ومحو الأمية".
لذلك، بدأ مطلب ترجمة القرآن قبل فترة الجمهورية بوقت طويل. ومن أولئك الذين عملوا في هذا المجال حسين كاظم قادري وأثره المعروف بـ"نور البيان" وهو ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وقد اعترضت دائرة سبيل الرشاد الإسلامية على هذا العمل لكن الاعتراضات كانت لغوية إلى حد كبير.
ويقول الكاتب أقطاي: "إننا ربما نكون قد اقتربنا من محاولات قيمة لفهم القرآن الكريم وترجمته وماذا يعني بالنسبة للجماهير، سواء من خلال النقد أو الإجابات المقدمة لهذه الانتقادات".
ويتابع: "ثمة إمكانية لأن تكون هناك ترجمة حقيقية للقران الكريم، غير أنه لا يوجد نقاش جدي حول علاقة التفسير أو الفهم بالتاريخ والثقافة والخبرة، لكن هذا التأثير يظهر بشكل ضمني، من ناحية أخرى، فإن محاولة ترجمته مباشرة تعتبر شجاعة". لذلك، لا يرى قادري أن يعمل على ترجمة القرآن، بل ترجمة موجزة للتفسيرات القرآنية.
مع هذه الترجمة من قادري بدأت محاولات ترجمة أخرى ونتيجة لذلك، عند النقطة التي وصلنا إليها اليوم، هناك وعي جاد في المجتمع بمعنى وتفسير القرآن، بل إن القرآن الآن يقرأ بشكل أكثر بكثير مما كان يقرأ في عهد الدولة العثمانية ويتم فهمه باللغة التركية سواء من ناحية التفسير أو ما يتعلق بالقرآن من علوم.
لكن حقيقة قراءة القرآن أو تفسيره، بحسب الكاتب، تتعلق أكثر بالحداثة وزيادة مستوى الإلمام بالقراءة والكتابة، وبطبيعة الحال، فإن الإحساس بالدين يزيد في المجتمع الذي يزداد تحضرا.
ويختم الكاتب: "قد لا يعجب ذلك أصحاب التحديث والعلمنة، لكن كل يوم يمضي يكون الذي سبقه أفضل منه. وفقا لهذه المقاربة، فلا يمكن أن يأتي الخير مع الحداثة، لكن الكتاب الذي نتحدث عنه" وهو نور البيان يقول: "قد يكون ثمة خير قابع في الشر الذي تراه" ولمناقشة ذلك شأن آخر.