صلوات يهودية في المسجد الأقصى!
بداية شهر ديسمبر الجاري، وخلال أسبوع واحد، نشرت صحيفة "جيروساليم بوست" الصهيونية الناطقة بالإنجليزية تقريرين في غاية الخطورة للصحفي جيرمي شارون حول تطور وضع المتطرفين الذين يقتحمون المسجد الأقصى المبارك في الفترة الأخيرة.
ويركز شارون في تقريريه على موضوع صلاة المتطرفين داخل المسجد الأقصى المبارك، ويخلص إلى نتيجة هي أن الصلوات اليهودية باتت تقام بشكل يومي روتيني داخل المسجد الأقصى المبارك وبموافقة شرطة الاحتلال، ودون إثارة ضجة كبيرة بهذا الخصوص.
قد يبدو هذا الموضوع مستغربا لدى البعض، خاصة عندما نعلم أن موضوع إقامة الصلوات اليهودية داخل المسجد الأقصى المبارك كان مطروحا على طاولة تفاهمات كيري عام 2015، حيث اضطر يومها إلى توضيح بنود اتفاق – لم يقبله المقدسيون عموما بالمناسبة – رعته الإدارة الأمريكية السابقة ونصت فيه على ضمان حرية "الزيارة" لغير المسلمين في المسجد الأقصى مع ضمان حرية العبادة للمسلمين فيه.
وذكر عبارة "الزيارة" كان مقصودا، بحيث لا ينشئ ذلك حقا للجماعات اليهودية المتطرفة بالمطالبة بالصلاة في المسجد.
بالرغم من ذلك فإن المقدسيين عموما لم يقبلوا نتائج تفاهمات كيري، حيث أثبتت الأحداث التي شهدها المسجد الأقصى المبارك منذ نهايات سبتمبر من عام 2000 – بعد اقتحام أرئيل شارون المسجد وانطلاق انتفاضة الأقصى – أن دخول المتطرفين إلى المسجد الأقصى كان بذاته أمرا مرفوضا مقدسيا.
وبالرغم من محاولات بعض الأطراف المتكررة للسماح بدخول السياح – بما فيهم المتطرفيون اليهود – على ما كان عليه الأمر قبيل انطلاق انتفاضة الأقصى، إلا أن أحداث الانتفاضة والضغط الشعبي الشديد أدى إلى منع اقتحامات المتطرفين ودخول السياح ثلاث سنوات، حتى قررت قوات الاحتلال منفردة إعادة فتح المسجد لدخول السياح في أغسطس 2003م، مع تراجع الزخم الشعبي ونهاية أحداث الانتفاضة، في مقابل تصاعد الضغط الصهيوني على المسجد ورواده الذي تمثل في ذلك الوقت بإغلاق لجنة التراث الإسلامي ومقرها باب الرحمة.
شكلت تلك الفترة ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني الذي ترعاه المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، ولا بد من القول هنا إن إغلاق لجنة التراث الإسلامي كان له أثر سلبي جلي في تخفيف الضغط الشعبي المقدسي على الاحتلال، وبالرغم من محاولات الحركة الإسلامية بشقيها في الداخل الفلسطيني في أراضي عام 48 سد ذلك الفراغ، إلا أن هذه المحاولات في بدايتها ترافقت مع تقدم إسرائيلي ثابت في اتجاه جعل الوجود اليهودي المتطرف داخل المسجد أمرا طبيعيا.
وجاءت فكرة مصاطب العلم والمرابطين الذي رعته الهيئات والحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني وفي القدس لتحل المشكلة مؤقتا وتشكل عائقا مهما أمام دخول المتطرفين إلى المسجد، حيث شكل المرابطون عامل طرد وإزعاج للمتطرفين في اقتحاماتهم، وكانت التكبيرات التي تملأ المسجد الأقصى المبارك صباحا وبعد الظهر – مترافقة مع الاقتحامات – كفيلة بتقليل نسبة المشاركين من المتطرفين في هذه الاقتحامات.
وشكلت فترة ما بين 2010 و2015 فترة صراع كان عنوانها محاولة فرض الوجود اليهودي صباحا وبعد الظهر في المسجد الأقصى المبارك تحت عنوان "الزيارة".
وكان قرار حظر الحركة الإسلامية الشمالية في الداخل الفلسطيني وقرار إخراج المرابطين في القدس عن القانون خطوة مركزية في هذا الجانب، أدى إلى اشتعال انتفاضة القدس التي كادت أن تودي بمشروع الوجود اليهودي في المسجد الأٌقصى المبارك بشكل كامل، لولا مسارعة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة لإنجاز تفاهماته التي حاول من خلالها تثبيت واقع دخول الجماعات اليهودية المتطرفة إلى المسجد الأقصى المبارك كأمر طبيعي.
ومع حظر المرابطين في المسجد، فقد المسلمون في القدس أحد أهم عوامل قوتهم داخل المسجد الأقصى المبارك، وهو الوجود الشعبي المكثف ذو الطبيعة المقاوِمة حركيا وصوتيا لوجود المتطرفين فيه، ليتحول الوجود الإسلامي في المسجد إلى الرفض البصري بالوجود في المسجد في نفس فترة وجود الجماعات المتطرفة.
وهو ما يعكس إصرارا شعبيا على رفض الوجود الصهيوني داحل المسجد وإن كان بمجرد البقاء في الصورة، وهو ما يزعج المتطرفين أثناء اقتحاماتهم، ربما ليس بمقدار انزعاجهم من التكبير، ولكنه يبقى مزعجا لهم. لكن المحصلة عموما كانت سلبية على المسجد، حيث ارتفع عدد المقتحمين للمسجد – بحسب تقرير صحيفة جيروساليم بوست – في غضون أربع سنوات من 10 آلاف متطرف عام 2015 إلى 29 ألفا عام 2019.
وهذا إنما يدل على أن إسكات صوت المرابطين في المسجد الأقصى المبارك ومن يدعمهم جعل الاحتلال يتحرك بثقة باتجاه الخطوة التالية؛ وهي السماح لليهود بتلاوة الصلوات سرا، ثم علنا ولكن بصوت منخفض، في المسجد الأقصى المبارك، وهي المرحلة التي بتنا نعيشها اليوم.
وفي هذا السياق، لا بد من أن نقول إن أحداث هبة باب الأسباط عام 2017 ثم هبة باب الرحمة بداية عام 2019 شكلتا بارقة أمل لإمكانية وقف وتأخير المشروع الصهيوني داخل المسجد الأقصى المبارك، ولكن حتى الآن لم يتم استغلال هاتين الحادثتين عربيا وإسلاميا بالشكل اللازم، وكان يمكن في حال أحسن للجانب العربي والمسلم استغلال هذه الأحداث أن يتم إرجاع كامل المشروع الصهيوني في المسجد عشرات السنوات للوراء.
نعم، تراجع المشروع في بعض جوانبه بعد هذه الأحداث، حيث لم تسمح هبة باب الأسباط بمنح الاحتلال سلطة جديدة على باب حطة والمنطقة الشمالية من المسجد، كما أعاقت هبة باب الرحمة سير مشروع اقتطاع مصلى باب الرحمة من المسجد الأقصى وتخصيصه لليهود، أي الانتقال من التقسيم الزماني إلى التقسيم المكاني.
لكن هذا لا يعني أن لدى الاحتلال هوامش أخرى للمناورة في مشروعه داخل المسجد، وأحد هذه الهوامش هو موضوع فرض الصلاة اليهودية داخل المسجد كشكل جديد يريد الاحتلال أن يعتاد المسلمون عليه، وذلك ما يمكن – في حال حدوثه – أن يثبت في أذهان المسلمين ارتباط الوجود اليهودي في المسجد الأقصى بالصلاة والتعبد، وهو أول مفتاح المطالبة الصهيونية بتخصيص مواقع في المسجد لصلاة اليهود، وهذا يعني نهاية المسجد الأقصى المبارك!
إن هذا الأمل لدى الاحتلال ليس سرا، ويكفي لذلك أن نشير إلى تصريح للحاخام إلياهو ويبر، الذي يقود بعض جولات وصلوات المتطرفين داخل المسجد، في تقرير "جيروساليم بوست": (إن هدفنا النهائي هو بناء الهيكل، ولكننا لا نحاول تحقيق هذا الهدف في الوقت الحالي، فنحن نسير في عدة مراحل لتنفيذه)!