خيارات الحرب والسلم في ليبيا

نزار كريكش  | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

لا أحد يعاني في الحرب الدائرة في ليبيا أكثر ممن ذاقوا ويلاتها، من فقدوا أحبتهم وعاشوا خارج ديارهم، الأم التي تنتظر فلذة كبدها لا تدري أيعود من جبهات القتال أم لا، لا أحد في ليبيا صار يدرك لم كل هذا الإصرار من الدول الداعمة لحفتر على هذه الحرب ولم كل هذا الإصرار على حصار الناس في طرابلس.

في الجنوب من طرابلس صار النزوح عادة، والفقد نمط حياة، فضلا عن الترقب والخوف والأمل الذي لم ينته من وجود نهاية لهذه الحرب؛ بالطبع كل ينظر للحرب من زاوية مختلفة، الساسة يبحثون عن وضع سياسي أفضل، والمحاربون يفكرون في اكتساب نقاط إستراتيجية تمكنهم من القضاء على خصومهم، لكن الذي نريد أن نفهمه أن تتورط دول كمصر والإمارات في دعم مباشر وعسكري لهذا الصراع والحصار على العاصمة.

نشرت قناة "الجزيرة" قبل أيام تسريبا لبعض ما ورد في تقرير الخبراء التابع لمجلس الأمن عن تطبيق قرار حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، ونشرت كذلك وثائق عن تدريب لقوات حفتر في مصر، ونشرت "نيويورك التايمز" هذا الأسبوع كذلك تقريرا عن تورط قوات من المرتزقة التابعين لشركة "فاغنر" الأمنية الروسية. كل هذا السياق قد يشير إلى استمرار هذه الدول في خيار الحرب دون هوادة، بل إن الطائرات المسيرة ما انفكت تدور في سماء العاصمة طرابلس.

الطائرات تستهدف المدنيين قبل العسكريين، والرغبة في استمرار حالة الفوضى يبدو أنها الدافع لكل هذا الجموح، لأنه وفق عسكريين لم تحقق تلك الطائرات أي تقدم يذكر في ساحات الوغى.

الجانب الرسمي من التصريحات للإمارات ومصر يوحي برغبة في إنهاء الصراع لكن على الأرض، يبدو أن هناك رغبة في استمرار هذا الصراع كيف نفسر مايحدث في ليبيا، هل يعقل أن يفقد صانع القرار في مصر والإمارات صوابه لهذا المستوى من الجنون، والدخول في حرب خاسرة منذ البداية؛ هنا تفسير آخر.

بالتدقيق فيما يحدث في بنغازي، والرغبة الأكيدة في اقتحام العاصمة يمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فهناك فيما يبدو انتقال شبكة الفساد التي صنعها حفتر وزبانيته في بنغازي، بالتعاون مع المخابرات المصرية وبعض المتنفذين المستفيدين من الدعم الإماراتي السخي لحفتر؛ لكن وفقا لمصادر لا يمكن الإفصاح عنها، إن الإمارات تفضل أن يكون الدعم عيني وليس عن طريق الأموال النقدية كما كان الأمر سابقا. لذا فإن زمن استمرار تدفق الأموال بدأ ينتهي لذا يجب أن توفر شبكة الفساد في بنغازي على مصادر مستمرة لتتحصل على الأموال اللازمة للاستمرار، بالطبع بالسيطرة على طرابلس سيكون من السهل السيطرة على أموال النفط وقوت الشعب الليبي واستنساخ ما حدث في بنغازي.

دعنا نبسط الأمر، في بنغازي هناك جهات تابعة لحفتر، الأولى هي الكتيبة 106 التابعة لخالد حفتر نجل خليفة حفتر، وهناك هيئة تسمى هيئة التعبئة والأخرى هيئة الاستثمار العسكري على رأي كل منها شخصية تابعة ومقربة من حفتر، الأولى لقريبه ومدير مكتبه السابق عون الفرجاني، والثانية لمحمد المدني الفاخري وهو رجل أعمال سابق.

كل من هذه الجهات تحاول الاستيلاء على مصادر الدخل في بنغازي، الكتيبة التابعة لخالد حفتر تدير مجموعة من المليشيات تنتشر في أحياء بنغازي، وهي المنوط بها التهديد والخطف لكل الجهات الرسمية التي تقرر العمل بشيء من المهنية، وهذا ما حدث من اختطاف للنائبة سهام سرقيوة، حيث بينت تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن السيارات التابعة للكتيبة هي التي جاءت لبيت النائبة واختطفتها. وكذلك أخبار نشرتها قنوات ليبية عن اختطاف أحد المسؤولين من شركات الاتصال وفي تصريحات رسمية لفجرية البرعصي المتحدثة باسم هيئة التعبئة قالت بوضوح: إنهم سيأخذون المال ولو بالقوة من كل الجهات.

حالات الخطف والسرقات في بنغازي بلا حصر، ويبدو أنها الثمن الذي يدفعه حفتر من أجل استمرار ابتزاز الجهات الرسمية والحصول على الأموال التي يرسلها مصرف طرابلس للمصارف في الشرق لسير الحياة الطبيعية للناس.

هنا يبدو أمر التمويل والدعم اللوجستي هو الحاسم في خيار الحرب والسلم، وهذا يفسر أن روسيا تصر على طباعة الأموال وإرسالها لحفتر، بينما تستمر الإمارات في توفير الدعم اللوجيستي من السلاح، وبين ذاك وذاك يستمر حفتر وبعض المتنفذين في مصر من الحصول على ما يمكنهم الحصول عليه من الأموال التي تأتي من الخارج أو الإتاوات التي تأخذها الجهات التابعة لحفتر من بنغازي.

هذا العقد الضمني بين هذه الجهات هو الذي يشجع هذا الرهط الفاسد من كل هذه الدول للاستمرار في الحلم بالسيطرة على النفط الليبي، مما يجعل ضمانة استمرار العلاقة مع النظام المصري والإماراتي، وضمان استمرار العقود مع روسيا أمر أقرب إليهم من البحث عن أي تسوية في ليبيا.

هنا يذكرنا الأمر بما ذكرنا إدوارد نيومان في كتابه "فهم الحرب الأهلية" حين يقول عن ليبيا: إن استمرار الشبكات الفاسدة الداعمة لنظام القذافي ستمتد لتبتلع شبكات أخرى، الحرب لا تستمر لأن أطرافها يرغبون في سفك الدماء، ورؤية مآسي الناس، بل لأن ثلة من الفاسدين يرون فيها سبيلهم للوصول للمال والجاه، وكل رغباتهم هو أن تتحول تلك الفرص في الحصول على مكاسب إلى مناصب سياسية دائمة، إنه نظام شبكي معقد يراد له أن يعيق كل بناء مؤسسي ترغب الجهات الرسمية وبعض الجهات الدولية في الوصول إليه.

هنا يبدأ السؤال الأصعب كيف ستنتهي هذه الحرب، أدبيات السلام تعطينا نموذجين اثنين لنهاية مثل هذه الحروب، الأولى تسمى بالعقلانية وهي أن يشعر الطرفان بأن لحرب خاسرة وأنه لا مجال لاستمرار الصراع، وهذا يمكن أن تقوم به البعثة الأممية حين تقرب وجهات النظر، وتشعر الجميع بضرورة الذهاب للسلام؛ للأسف البعثة غارقة في حالة من التيه، وتقايرها تخلط خلطا لا يمكن فهمه بين مفهوم الحياد والمصداقية.

لذا لم ينل غسان سلامة إلا الحياد وفقد المصداقية أمام الطرفين، فأهل طرابلس يتذكرون جيدا حديث غسان سلامة في نهاية أكتوبر السابق  بأنه سيبدأ بإبلاغ أعضاء مجلس الأمن عن جريمة حرب قصف مطار مدني في طرابلس وهو مطار معيتيقة، لكن للأسف لم يحدث ذلك حين قام حفتر بتحدي هذا البيان وقصف المطار بعد ذلك بأيام.

وبالتالي فإن الرسائل التي تصل للطرف الآخر -وهو حفتر- أن استمرار العنف هو السبيل لنيل احترام هذه الأطراف الدولية، وهذا بالطبع عقلية جبل عليها العسكريون، لكن في الآونة الأخيرة بدأت تكلفة ذلك تظهر بوضوح حين بدأ الحديث عن محكمة الجنايات الدولية، وبدأت الماكينة الإعلامية الأمريكية تحذر من تكرار السيناريو السوري في ليبيا على يد خليفة حفتر. وأكدت الولايات المتحدة في أكثر من تصريح عن أن المجلس الرئاسي هو شريك حقيقي في الحرب على الإرهاب ودعت وزير الداخلية فتحي بشاغا لزيارة واشنطن.

هذه الأحداث ربما تصب في صالح المقاربة الثانية وهي المقاربة الواقعية، وهي أن أقرب طريق للسلام هو أن تكون تكلفة الحرب سياسيا أكبر من تلكفة الاستمرار فيها.

وهذا ما يمكن أن يسفر عن مؤتمر برلين المزمع إقامته الذي ستحضره كافة الدول المعنية بليبيا بمافيها تركيا. إذا استطاعت ألمانيا أن تلعب دور الوسيط النزيه، وأن تخرج بقرارات مجمع عليها وواضحة يمكن أن ندخل في مرحلة جديدة من استثمار كل الأطراف للوضع العسكري الذي ستنتهي إليه الأحداث.

عندها فقط سيشعر كل من مارس العنف في ليبيا بفداحة الخطأ الذي ارتكبه في حق ليبيا، السياسي سيخسر ليبيا للأبد، لأنه تورط بشكل مخزي في الحرب في ليبيا، وكذلك الإمارات، وسيعاني حفتر من سجل حافل من القضايا التي يحضر لها في محكمة الجنايات الدولية، حيث سافر أكثر من مسؤول من أتباعه لدول مختلفة وصاروا شهود إثبات وفق إجراءات طويلة للمحكمة الدولية، ستكون السياسة امتدادا سلبا وإيجابا، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.