رغم هيمنتها.. هذا ما يضع الصين في آخر مراتب الدخل والحقوق
"ما من قوة في العالم يمكنها إيقافنا".. هكذا عبر الرئيس الصيني "شي جين بينغ" عما وصلت إليه بلاده تزامنا مع الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، التي باتت اليوم قطبا اقتصاديا ثانيا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم القوة العسكرية المتصاعدة، والنفوذ الآخذ في الاتساع حول العالم، والاقتصاد الضخم الذي يخوض حربا ضروس مع قلعة الرأسمالية، إلا أن هذا الستار الجميل للصين يخفي وراءه وجها أسودا، تزداد قتامته كلما رسخ الحكم الشيوعي أقدامه في البلاد.
ديكتاتورية، استبداد، قمع للحريات، اضطهاد للأقليات، انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، كل ذلك وغيره، مفردات أصبحت مألوفة لدى منظمات حقوق الإنسان العالمية عند الحديث عن الصين.
ضحايا النهضة
في تقدير موقف أعده قسم البحوث بصحيفة "الاستقلال" الشهر الماضي، تبين: أن الناتج المحلي للصين وصل إلى 13.6 تريليون دولار بنهاية 2018 محتلا المركز الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة وبما يمثل 15.8% من الناتج المحلي العالمي، بعد أن كان 1.21 تريليونا عام 2000.
وبحسب الورقة البحثية: اعتمد صندوق النقد الدولي في سبتمبر/أيلول 2016 اليوان الصيني ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة بالصندوق، كما بلغ الاحتياطي النقد الأجنبي لدى بكين مستويات قياسية وصلت إلى حد استحواذها على 3.6 تريليون دولار في 2014.
وتحتل الصين المرتبة الأولى في قائمة الصادرات السلعية على مستوى العالم حسب بيانات عام 2018، حيث حققت تلك الصادرات نحو 2.48 تريليون دولار، وبما يعادل نسبة 12.6% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم في نفس العام والبالغة 19.6 تريليون دولار.
وعلى الرغم من كل تلك الأرقام وغيرها، التي تثبت هيمنة التنين الصيني على الاقتصاد العالمي، إلا أن ثمة ما يشوه تلك النهضة التي وصفت كثيرا بالمعجزة الاقتصادية، فلم تُوزع ثمار النجاح الاقتصادي بالتساوي بين سكان الصين البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، حيث توجد أمثلة على الثروة الفاحشة وطبقة وسطى صاعدة إلى جانب المجتمعات الريفية الفقيرة وقوة عاملة متدنية.
ويقول البنك الدولي إن دخل الفرد في الصين لا يزال كما لو كان الحال في بلد نام، وأقل من ربع متوسط الاقتصادات المتقدمة، ويبلغ ما يقرب من 10 آلاف دولار، وفقا لمجموعة خدمات "دي بي إس" المالية الرائدة، مقارنة بنحو 62 ألف دولار في الولايات المتحدة.
على المستوى المحلي، تتراكم التحديات الاقتصادية الهيكلية، حيث ينمو الاقتصاد الصيني بأبطأ وتيرة له منذ ما يقرب من 30 عاما، فقد دُفعت لسنوات إلى فصل اعتمادها عن الصادرات والاتجاه للنمو المدفوع بالاستهلاك.
وتتزايد المخاوف من أن تؤدي حرب تجارية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة إلى عرقلة النمو الصيني، مما قد يؤثر على الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي يتوقع أن يتوسع فيه تأثير بكين على هذا الاقتصاد.
وما تزال الصين متخلفة عن البلدان المتقدمة من حيث الرعاية الصحية والنظام التعليمي، وصنف تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2016، الذي يقيس مؤشرات الصحة والتعليم والمساواة والدخل الفردي، الصين في المرتبة 90 عالميا.
دهس الحقوق
"الدولة القمعية" توصيف ربما لا ينطبق على دولة مثلما هو الحال في الصين، التي تحل دوما ضيفا ثقيلا على تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، بصفتها من بين أكثر دول العالم ارتكابا للانتهاكات.
في مارس/أذار 2018، أقر المجلس التشريعي الصيني تعديلا دستوريا يلغي الحدود الزمنية لفترات ولاية الرئيس، في خطوة وصفتها "هيومن رايتس ووتش" بالإعلان عن نية الرئيس "شي جين بينغ" حُكم البلاد إلى أجل غير مسمى.
وفي تقريرها العالمي 2019 بشأن الصين، قالت المنظمة: إن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم عزز سلطته على البيروقراطية حيث بات يُشرف على "لجنة الرقابة الوطنية"، وهي هيئة حكومية جديدة لها صلاحية احتجاز أي شخص له سلطة عامة بمعزل عن العالم الخارجي لفترة تصل إلى 6 أشهر دون إجراءات المحاكمة العادلة، في جهاز يُسمى "ليوجي" (liuzhi).
ورأت أن القوة العالمية المتصاعدة للصين جعلتها تصدّر انتهاكاتها الحقوقية، بما في ذلك داخل الأمم المتحدة، ففي مارس/أذار 2018 عرضت على "المجلس الدولي لحقوق الإنسان" مقاربة أسمتها تعاونا "مربحا للجميع" أو "له فائدة متبادلة".
تقتضي هذه المقاربة عدم سعي الدول إلى محاسبة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الصين، وإنما فقط المشاركة في "حوار"، بالإضافة إلى ذلك، لا يحظى المجتمع المدني بأي دور في هذه المقاربة، مقابل الدور الرئيسي للحكومات، ومعه دور محدود للأمم المتحدة.
ووفق التقرير، استمرت السلطات في الاعتقال والتعذيب والاحتجاز التعسفي لمدد طويلة دون محاكمات، أو محاكمات ذات دوافع سياسية وحظر السفر بحق النشطاء الحقوقيين، فضلا عن محاولة إسكات المدافعين الحقوقيين في الخارج عبر مضايقتهم واحتجاز عائلاتهم في الصين.
وحول حرية التعبير، واصلت السلطات الصينية مضايقة واحتجاز الصحفيين الذين يغطون مسائل حقوقية، والأشخاص الذين يجرون معهم مقابلات، كما وسّعت من رقابتها على الإنترنت من أجل حجب المعلومات الحساسة سياسيا، وحظر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل: فيسبوك، تويتر، إنستجرام، وواتساب.
ديكتاتورية الحكم
صحيفة "الجارديان" البريطانية علقت على القرار الذي تم بموجبه تنصيب الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مدى الحياة، بالقول: إنه يأتي بعد 5 أعوام من حملة اعتقالات سياسية واسعة، يثبت خلالها الرئيس ميوله الاستبدادية.
وقالت في تقرير لها: إن "شي"، شن الحرب على المنشقين، داخل الحزب الشيوعي الحاكم وخارجه، في محاولة منه لفرض السيطرة الكاملة، مقوضا بذلك المجتمع المدني، ومعتقلا خصومه السياسيين لضمان أن يكون هو الرجل الأكثر قوة في التاريخ الصيني منذ رحيل ماو تسي تونغ.
وعلى الرغم من تجاوزات ماو تونغ، فإن جنون شي للسلطة، جعل قيادته للصين حتى ثلاثينيات القرن الحالي أمرا ممكنا، وأخاف الجميع من أن تنحدر دولتهم مرة أخرى لماضيها المضطرب.
تأسس الحزب الذي يحكم قبضته على سلطات البلاد في يوليو/تموز 1921، بمدينة شنغهاي وتبنى الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ، وفي عام 1949 وصل إلى السلطة بقيادة تونغ إثر حرب أهلية خاضها ضد القوميين واستمرت لنحو 10 سنوات.
في أواخر الخمسينيات حاول الحزب القفز من بلد زراعي إلى صناعي وهو ما عرف بالقفزة الكبرى، لكنها أفرزت نتائج عكسية وصلت إلى حد المجاعة، وفي عام 1966 أشعل الحزب ما سمي الثورة الثقافية ودخلت الصين مرحلة اضطراب اجتماعي دامت 10 سنوات.
مأساة الإيغور
صعدت السلطات الصينية بشكل كبير من القمع والانتهاكات المنهجية ضد 13 مليون مسلم من أصول تركية، بما يشمل الإيغور وذوي الأصل الكازاخستاني، بتركستان الشرقية أو إقليم "شينجيانغ" شمال غرب البلاد، كما شنت حملات اعتقال تعسفي وتعذيب وسوء معاملة جماعية ضدهم.
وتفرض الصين قيودا مشددة على حياة الأقليات المسلمة في المنطقة باسم مكافحة الإرهاب والتيارات الانفصالية، ويواجه الإيغور في الصين عملية مراقبة غير مسبوقة، في الأعوام الأخيرة، وقالت الأمم المتحدة: إن ما يصل إلى مليون منهم محتجزون في معسكرات اعتقال تسميها الصين مراكز إعادة تأهيل.
تعود أصول أقلية الأويغور المسلمة إلى الشعوب التركية، وهم يشكلون 45% (نحو 11 مليون شخص) من سكان إقليم شينغيانغ الصيني، الذي يقع في غرب البلاد، ويخضع لحكم ذاتي.
واتخذت بكين مؤخرا عدة إجراءات من شأنها منع الأويغور من ممارسة الشعائر الدينية، من بينها منع الطلاب والمعلمين والموظفين من الصيام في شهر رمضان، كما يخضعون لرقابة مشددة.
وينحدر الإيغور من تركستان الشرقية التي تضم ميزات اقتصادية وطبيعية ضخمة تفسر التمسك الصيني المتزايد بأراضيها، ففيها ما يقرب من 8 مليار طن احتياطي من البترول، و600 مليون طن من الفحم الحجري، و6 مناجم ضخمة من اليورانيوم، ويُستخرج منها أكثر من 118 نوعا من المعادن من بينها الذهب، وبها ما يزيد على 50 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الخصبة الممتدة.
الاضطهاد لم يتوقف عند مسلمي الإيغور بل امتد ليشمل فئات أخرى، ففي التبت، تم اعتماد أنظمة جديدة تجرم حتى الأشكال التقليدية من العمل الاجتماعي، بما في ذلك الوساطة المجتمعية من قبل الشخصيات الدينية.
وفي هونغ كونغ، الإقليم الموعود بـ "درجة عالية من الحكم الذاتي" بموجب "الإعلان الصيني البريطاني المشترك"، زادت كل من حكومتي الصين وهونغ كونغ في 2018 من جهودهما لتقويض حقوق الناس في حرية التعبير والمشاركة السياسية، بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش.
الاضطهاد الرقمي
ويبدو أن ديكتاتورية الحزب الشيوعي الصيني لم تتوقف عند حدود عصا الأمن الغليظة وانتهاكات حقوق الإنسان، بل تعدتها إلى ما يطلق عليه الديكتاتورية الرقمية، متمثلة في نظام الائتمان الاجتماعي.
النظام الذي كان مثار انتقادات واسعة بداية العام الجاري، يطور تجربة ستجعل منه نظاما فريدا من نوعه، يقوم على منظومة للمراقبة الشاملة وتقييم المواطنين، لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل.
مهمة الائتمان الاجتماعي الصيني هي، في حقيقة الأمر، تقييم كل مواطن وتصنيفه في مرتبة معينة، إذ تجمع شبكات الحكومة كما هائلا من معطيات السجلات المالية والطبية والقانونية وترصد تصرفات ونمط حياة كل مواطن صيني، وذلك في المواصلات العامة، على شبكات التواصل الاجتماعي، وتربط كل هذه المعطيات ببنية تحتية كبيرة من كاميرات المراقبة تتألف من حوالي ٢٠٠ مليون كاميرا منتشرة في كافة أنحاء البلاد.
بعد ذلك يحلل النظام هذا الكم الهائل من المعطيات بواسطة شبكات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، بحيث تحلل الحكومة النتائج وتضع المواطن في مرتبة معينة وفقا لقيمته، أو تمنحه، مثل طلاب المدارس، درجة تحدد نمط حياته.
الطامة الكبرى تكمن في أن الدرجة التي تحدد مستوى كل مواطن تنعكس مباشرة على نطاق حقوقه أو الخدمات التي يستفيد منها، إذ يحرم أصحاب الدرجات الضعيفة من الترشح لوظائف معينة، تسجيل الأبناء في كانتين المدرسة، أو حتى استخدام المواصلات العامة.
وكان لافتا إعلان الصحف الصينية الرسمية منع 11 مليون صيني من استقلال الطائرة وأربعة ملايين ونصف المليون من استخدام القطار، ويكفي أن تتأخر في تسديد قيمة فاتورة أو أن ترتكب مخالفة مثل التدخين في الشارع في مكان لا يسمح فيه بالتدخين، لترى درجتك التي يمنحك إياها النظام قد انخفضت.
النظام الذي سيدخل الخدمة بكامل طاقته في ٢٠٢٠، يشمل ربط كاميرات المراقبة في كل منطقة بأجهزة التلفزيون الخاصة بمواطنين يمكن أن يتولوا مهمة مراقبة الآخرين في منطقة سكنهم.