وأنتِ هي الابتلاء يا حكومة
مرة أخرى تؤكد حكومة نور الدين بدوي أنها لا تختلف عن سابقاتها من حكومات عبدالعزيز بوتفليقة الذي لا تزال مآسي حكمه تودي بحياة الشباب الجزائري، في البحر والأحياء الشعبية والأحياء المعزولة في مرسيليا وإسطنبول وغيرها من المنافي التي تحصد أرواحهم.
ليأتي حفل ملعب 20 أوت (أغسطس/ آب) ومن قلب الجزائر العاصمة ليخطف أرواح مجموعة من الشباب الذي عشق أغاني الحرية في زمن العبيد و"الكاشير".
هذا الشباب الذي سارع خطباء الطوائف السياسية المختلفة والنخب الجبانة ومتثاقفي الصالونات لتنصيب أنفسهم قضاة لمحاكمة شباب مراهق كان من المفروض أن يسارع الجميع بإدانة كل من تسبب في هذه المأساة بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
لم يجد هؤلاء الشباب أنفسهم في خطابات المساجد ولا وعود السياسيين ولا في سفسطة التنوريين ولا في أجندة الثوريين، لقد سارع الجميع ومنذ سنوات لترك موقعه النضالي في تأطير الشباب للمشاركة في قضايا وطنه ليتركه لمصيره، فلم يجد إلا ملاعب كرة القدم وأحياءه الشعبية ليردد رفقة أقرانه أغاني الحرية والحلم بالهجرة وحب الجزائر لتجسد هذه الأغاني المعاني المتداخلة والمتناقضة أحيانًا عند شبابنا.
لقد وجدت الأجيال الجديدة نفسها في هاته الأغاني كما وجد جيل السبعينات نفسه في أغاني "خذ المفتاح يا فلاح" المبشرة والمروجة للخيارات الاشتراكية، ووجد جيل الثمانينات نفسه في أناشيد "غرباء" المعبرة عن العزلة الشعورية لأصحاب التوجهات الإسلامية وغيرها من الأغاني والأناشيد التي عبّرت في مراحل معينة عن التيار الغالب في المجتمع.
لقد عاد الشاب "الحراق" (المهاجر هجرة غير نظامية) عبدالرؤوف دراجي الملقب بـ(سولكينج) إلى وطنه ليغني لجيله الذي عشق أغانيه، وبالخصوص الأغاني المنددة بالحكومة.
وتشاء الصدف أن يكون هذا الحفل مأساويًا، لتؤكد الجهة المنظمة للحفل وحكومة بدوي بأنها فعلًا الابتلاء كغيرها من الحكومات السابقة، التي أدانتها أغنية الحرية (Liberta) لنفس الفنان، ووصفتها بأنها هي الابتلاء الذي أصاب الشعب الجزائري "....وأنتِ هي الابتلاء يا حكومة" كما تصف نفس الأغنية وهي الأغنية الأشهر للحراك الشعبي منذ بدايته، القضاء وتشخص حاله "هناك خلل في القضاء".
لقد أكدت حكومة بدوي أنها لا تختلف عن سابقاتها في تعريض حياة الجزائريين للخطر، فهي تتحمل مسؤولياتها المباشرة عبر الجهة المنظمة ولا يكفي التبرير المتعلق بالتدافع أثناء الدخول أو محاولة التضحية ببعض المسؤولين الصغار في تكرار جديد للتنصل من المسؤولية الأخلاقية والسياسية.
كما يتحمل كل جزائري وجزائرية المسؤولية في ذلك عندما يُحرف النقاش وتحميل مقتل هؤلاء الشباب في حفل فني لأخلاقهم ويسترسل في كيل التهم والأحكام وإعطاء المواعظ المجانية، بل وينصب نفسه قاضيًا على الناس وبوّابًا على بابي الجنة والنار.
أليس هذا الجيل من شبابنا من صدع بالحق في وجه سلطان ظالم فاسد طيلة عشرين سنة وعلى مدرجات الملاعب في حين جَبُن وتوارى الكثير من خطباء الدين وزعماء البروليتاريا والوطنيين المزيفين؟ بل وتحالف خريجو الدكانين السياسيين بمختلف مشاربهم الإيديولوجية مع نظام بوتفليقة الفاسد وقادوا معه حملة الدفاع عن سياساته التي أوصلت شبابنا للموت في البحار والمنافي.
هل نسيتم هذا الشباب الذي غنى للجزائر وفلسطين والعراق وغيرها ولم ينس أي قضية من قضايا أمته والمستضعفين في الأرض؟
إن الحكومة الحالية الفاشلة في تأمين حفل موسيقي هي امتداد للحكومات التي دفعت شبابنا للارتماء في المخدرات بعد أن فشلت في تحويل موارد الجزائر الضخمة إلى نهضة اقتصادية يكون قوامها هؤلاء الشباب أنفسهم، بل دفعتهم إلى "الحرقة" (الهجرة غير النظامية) وغيرها من المنافي داخل الوطن أو خارجه، فجزء من شبابنا هاجر نحو المخدرات وجزء آخر نحو التدين المغشوش وجزء فضل الهجرة وترك الوطن رغم الفاتورة الغالية من الأرواح التي يبتلعها البحر المتوسط أو شبكات مافيا المخدرات والدعارة في مختلف مدن العالم.
إنهم ضحايا نظام فاسد تواطأ معه مجتمع تخلى عن واجباته في الدفاع عن حقوقه السياسية وبالخصوص حقوق أبنائه في التربية والتعليم والثقافة والشغل والسكن وبناء أسر جديدة، وهي ميادين فشل كبيرة للحكومات المتعاقبة رغم الوضع الاقتصادي والمالي الجيد الذي استفاد منه نظام بوتفليقة جراء التدفق الكبير لملايير الريع البترولي.
لقد فضل المجتمع الجزائري مقولة جحا الذي وصله خبر الحريق فضحى بمدينته وبيته وأهله قائلًا؛ للجميع :" المهم أن لا يصلني مكروه "تخطا راسي"، وهذا المثل يتداوله الكثير من الجزائريين لتبرير استقالتهم الجماعية من المطالبة بحقوقهم واكتفائهم بما يتفضل به الحاكم من الريع ليجد الجميع أنفسهم أمام مآسي تحاصرهم داخل بيوتهم من بطالة وعنوسة ومخدرات وتطرف ديني وانحرافات جنسية.
فلم يسلم الفقير والغني والمسؤول والمواطن العادي من شظايا هذا الحريق الكبير الذي كان وقوده الأساسي الفساد والإفساد وضرب الأسرة والمدرسة والمسجد والجامعة والنادي الثقافي والملعب الرياضي وكل فضاء يؤطر شبابنا.
هؤلاء الشباب وجدوا أنفسهم يعيشون بلا أمل في الحياة، فجاءت أغاني سولكينغ وغيرها من أغاني الأحياء والملاعب لتخفف وتواسيهم في عزلتهم عن مجتمعهم ودولتهم.
لقد أثبتت حكومة بدوي والنظام الذي تمثله، بأنها ليست في مستوى تنظيم حفل فني ناجح فكيف لها بتنظيم انتخابات رئاسية ناجحة تكون في مستوى الحراك الشعبي الثائر منذ ستة أشهر دون توقف، بل وإصرار على مواصلة المسار وعدم القبول بأنصاف الحلول، ويريد أن تذهب هذه الحكومة لتأتي حكومة ذات مصداقية مقبولة، كخطوة جادة بعد سلسلة الفشل المتكرر التي كان آخرها هذا الحفل الذي أودى بحياة بمجموعة من شبابنا رحمهم الله.