الموجود والمفقود في تناول كتابات الآداب السلطانية

12

طباعة

مشاركة

لا يمكنك وأنت تقرأ كتاب "خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية" للباحث إبراهيم القادري بوتشيش والصادر في عام 2014 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إلا وأن ترتسم أمامك صورة مغرقة في السلبية عن كتب الآداب السلطانية لا سيما إن كنت غير متخصص في هذا الموضوع. ذلك أنها بحسب توصيفه عبارة عن كتابات كتبت للسلطة أو بإيحاءٍ منها، مدفوعة بمعنى التودد والتزلف أو/ومعنى النصح والوعظ، تبين فيها للحاكم بعض الإرشادات التي تعينه على مهمته، وتحضر فيها العدالة كأداة للحكام.

وذلك يعني أن الخطاب الموجه للحاكم فيما يتعلق بمسألة العدالة يتغيا مساعدة الحاكم في استمرارية حكمه، وهي أكثر ما تكون فضيلة أخلاقية يتزين بها الحاكم متفرعة عن أخلاق الرحمة والرأفة، تأتي من باب عطف الحاكم على رعيته، وبالتالي فهي مسألة اختيارية، وفضائل إضافية للحاكم، فليست متصلة بالشرعية، ولا ترتبط بالمحاسبة، إذ أن المحاسبة أخروية.

ولا تحضر مسألة العدالة كغاية في ذاتها، وينسحب على ذلك أن حضور الرعية، يكاد أن يكون منعدماً، ولا يتم الإلتفات إليهم إلا في الخطاب الذي يوطن في أنفسهم "أخلاق الطاعة" بحسب تعبير الجابري، فهذا الخطاب يفترض بصورة من الصور أولوية الحاكم، ويفترض أيضاً صورة قبلية عن المجتمع مفادها أن الحالة الأصلية للمجتمع هي الشقاق والخلاف والقتال، ووجود الحاكم أدى إلى وحدة الصف، وانتظام الأمر، وهو بذلك نعمة ربانية، وفضيلة إلهية، وعليه لا يجوز التفريط فيها مهما بدر من الحاكم من زلل أو خطأ أو ظلم. فهذه الأمور مهما استبدت لن تكون اسوأ من العودة لحالة الاقتتال والشقاق، وينبني على ذلك عدم جواز الخروج على الحاكم.

لقد حاول بوتشيش إنجاز بحثه من خلال ثلاث محاور، تأتي في مقدمتها محاولة استبيان مفهوم العدالة في كتب الآداب السلطانية، وثانياً بحث المرجعيات المولدة لخطاب العدالة لدى مؤلفي الآداب السلطانية، وأخيراً محاولة معرفة موقع حقوق الإنسان في الآداب السلطانية، وفي هذا السبيل قام بالبحث في أربعة كتب أساسية وهي كتاب "نصيحة الملوك للماوردي"، وكتاب "التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للغزالي، وكتاب "الإشارة في تدبير الإمارة" للقاضي أبي بكر المرادي الحضرمي، وأخيراً "الشهب اللامعة في السياسة النافعة" لأبي القاسم بن رضوان المالقي.

إن الصورة المغرقة في السلبية حيال كتب الآداب السلطانية في كتاب بوتشيش المشار إليه أعلاه ترسم بفعل ثلاثة عناصر مجتمعة، أولها ارتباط البحث بموضوع جوهري وأساسي وتأسيسي وهو العدالة، وثانيها أن أصحاب كتب الآداب السلطانية المشار إليها هم أعلام كبار لهم مساهماتهم الكبيرة والمهمة في التراث الإسلامي. وثالثها أن الصورة المقدمة حول خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية هي سلبية في ذاتها من حيث تقديمها للعدالة –بحسب رأي الكاتب- بوصفها أداة ذريعية يستخدمها الحاكم لضمان ديمومة حكمه مرة، وتفضلاً على رعيته مرة أخرى.

وبالتالي فإن اجتماع هذه العناصر الثلاثة معاً لابد وأن تشكل صورة سلبية أكبر، وهذا الأمر يدفع القارىء –غير المتخصص- إلى السؤال عن ضرورة وجود خطاب موازٍ مستقل عن السلطة يتعلق بثنائية العدل/الظلم لا سيما وأن هذه الثنائية احتلت مكاناً جوهرياً في الدعوة الإسلامية الأولى من ناحية، ومن ناحية أخرى حضورها بشكل جلي في تاريخنا الطويل.

ويتفرع عن ذات التساؤل المطروح في نهاية الفقرة السابقة، البحث عن المعالجة التي قدمها بوتشيش، وإلى أي مدى كانت موفقة، وانطلق في ذلك من طرح سؤال جوهري كاشف؛ وهو هل يا ترى لو قمنا بطرح السؤال على كل من الماوردي والغزالي والحضرمي والمالقي عن رؤيتهم لموضوع العدل، وما ينبغي أن يكون عليه الحال، وكيف يمكن أن يتحقق واقعاً، هل ستكون إجابتهم متوافقة مع ذات الخطاب الذي قدموه في كتب الآداب السلطانية؟

أكاد أجزم بأن الإجابة ستكون مختلفة تماماً وبصورة جوهرية؛ ذلك أن نظرتهم في هذا السياق ستكون شاملة عامة لكل جوانب الاجتماع، وبالتالي يمكن تقديم ثلاثة نقودات مترابطة ومتشابكة وهي كالآتي:

  • الأول: نقد السياق، ذلك أن هذه الكتابات وضعت في سياق معين وهو أكثر ما يكون سياق المناصحة والوعظ الذي يقدمه أحد الرعايا للحاكم، التي تكون في أحياناً كثيرة بإملاء من الحاكم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي أي بحث في هذا المنتج ينبغي معه استحضار السياق والظروف الذي تم إنتاجه فيه، فهذا الأمر أدعى للقراءة الموضوعية من جهة، ومن جهة أخرى سيعطي مؤشرات للباحث حول عدم توقع أن يقوم النص بتقديم أكثر مما يمكن له تقديمه بحكم ظروف السياق.

 

  • الثاني: نقد إسقاط المضامين، وهو نقد وجهه الكاتب سعود الزدجالي، ذلك أن البحث عن مفهوم محدد بصورته في لحظتنا الراهنة، ومحاولة البحث عنه في لحظة سابقة ومختلفة السياق هو أمر غير دقيق، وينسحب الأمر كذلك على مفهوم حقوق الإنسان، فإسقاط مضمون مفهوم محدد في لحظة على لحظة سابقة سينتج عنه نتيجة سلبية بالضرورة، فبكل تأكيد لن تجد مضمون المفهوم الذي تبحث عنه لأنه غير موجود أساساً، وبالطبع يجب التفريق بين هذا الأمر وبين البحث الذي تجريه البحوث الاجتماعية عن جذور مفهوم معين أو أصوله أو لحظات تشكله في لحظة تاريخية محددة. 

 

  • الثالث والأخير: فهو مسألة شمولية المفهوم، وهذا النقد وجهه الكاتب علي الرواحي، ذلك أن العدالة في تجليها السياسي هي تفرع عن مفهوم العدالة بشكل عام، الذي يشمل مختلف الجوانب الاجتماعية، التي اغتنى بها الفقه الإسلامي من مختلف مشاربه، ويشمل المعاملات المدنية والتجارية بين الناس، والأحوال الشرعية، والنظم الجزائية، التي تندرج في معظمها خلف مقصد العدل، وقدمت في ذلك نظريات تفصيلة لاسيما في المعاملات المدنية، وبالتالي فإن الحديث عن العدالة من زاوية مجتزئة سيؤدي بضرورة إلى نتيجة غير مكتملة.

وخلاصة الأمر، أن غياب القراءة السياقية والشاملة لمفهوم واسع وتأسيسي مثل مفهوم العدالة، وعدم تفادي إسقاط المضامين الجاهزة سيؤدي بلا شك إلى رسم صورة هي في أفضل الأحوال غير دقيقة وقاصرة.  

الكلمات المفتاحية