لماذا أفلت القدوة في العالم العربي؟
يسعى الإنسان، منذ بداية وعيه بما يدور حوله في العالم، إلى تقفي أثر شخص أو أشخاص يعتبرهم من وجهة نظره ناجحين لكونهم قطعوا أشواطا طويلة في سلم النجاح، و ارتووا من روافد الحياة كلها فصاروا كمن يسير في حقل ألغام بكل ثقة، لأنه يدري تماما أين يضع قدمه دون أن يتضرر.
فترى الأطفال يقلدون الكبار في أفعالهم وتصرفاتهم، واليافعين ينصتون بانتباه وفضول وحب للمشاهير الذين بصموا بصمتهم بقوة على المشهد الإعلامي فصارت حواراتهم ومداخلاتهم الأعلى مشاهدة والأكثر تأثيرا في الشباب بعدما كانت القدوة حكرا على شخصيات ثورية معينة، مثل تشي كيفارا ونيلسون مانديلا والمهاتما غاندي وغسان كنفاني وغيرهم من القلة التي وقفت في وجه الظلم و الاستبداد يوما ما.
وجد الشباب العربي نفسه قبل نهاية التسعينات وسط ثورة إعلامية غير مسبوقة نتيجة تطور المجال السمعي البصري وصحوة دينية لم تشهدها العقود السابقة، انتشرت برامج دينية متعددة أطلقتها العديد من القنوات الفضائية الدينية على يد شيوخ منهم من تبنى خطاب التخويف والترهيب من أجل الدعوة، ومنهم من تبنى خطابا فريدا من نوعه لم يعهده الناس من قبل يروم اللين والتقرب من الشباب والاستماع إليهم وإدماجهم في مسيرة الوعظ والإصلاح عوض العلاقة التراتبية التي كانت تربط الشيخ بالمريد.
تعددت طبيعة الإلقاء لكن الهدف كان واحدا: الدعوة إلى طريق الله وإصلاح شباب المسلمين وشيبهم، فأصبحت كل دار تشاهد على الأقل برنامجا دينيا واحدا وتحاول أن تطبق الخطاب الذي جاء به المشايخ بحذافيره.
انعكست الخطابات الدينية بشكل كبير على الشباب فانطلقت المبادرات الخيرية وكثرت التجمعات الشبابية وتغير الهندام والأفكار وبرزت سلطة جديدة تكمن في الخطاب الجديد الذي تبثه الفضائيات الدينية على اختلافها.
ولأن التكنولوجيا لا تكف عن مجاراة نفسها فإن مواقع التواصل الاجتماعي جاءت لتفرض نفسها بقوة خصوصا وأن بداية انتشارها اقترنت باتقاد شمعة الربيع العربي، بل إن هذه الوسائل كان لها دور جوهري في نشر المعلومة والوعي وفرض معطيات جديدة كانت مغيّبة لعدة أسباب في الماضي فتراجع دور وسائل الإعلام الكلاسيكية، وظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت دمقرطة المعلومة.
اتضح جليا بفضل وسائل التواصل الاجتماعي أن الشباب العربي الحالم بغد مشرق يشمل كل الفئات انطلاقا من الماركسيين إلى السلفيين مرورا بأولئك الذين تبنوا فكرا معتدلا، لكن هذا الاختلاف لم يكن ليفسد للود قضية، خصوصا وأن العدو الأكبر كان الاستبداد والظلم في أوطان طال خريفها.
خرج ملايين الشباب من أبعد نقطة في المشرق إلى المغرب الأقصى غاضين النظر عن الاختلافات مسددين الرؤية إلى شيء أهم؛ أن يصلحوا ما استطاعوا إليه سبيلا، لكنهم وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الرصاص الحي والدبابات وشاحنات البلطجية التي كانت تحصد أرواح الشباب بلامبالاة مفرطة، وجدوا أنفسهم مهزومين من طرف دولهم تحت صمت مدوِِ لتلك القدوات التي رسمت في عقلهم طريق الإصلاح وزرعت في مخيلتهم بذور الأمل في غد أفضل.
اتخذت هذه القدوات التي كان لها حضور كبير في حياة الشباب العربي في مجال الوعظ والإرشاد مواقف مخزية، تجلت بالأساس في صمت رهيب زاد من بشاعته خروج هذه القدوات بتصريحات مخزية؛ مفادها أنه لا يجب الخروج عن سلطة الحاكم ولو كان طاغية يقتل ببشاعة ويشرد ويمزق أحلام شعبه.
في الكثير من الأحيان، إن لم نقل في الأحيان كلها، يعتبر الحياد أسوأ بكثير من تبني موقف معين خاصة وإن كان الشخص ذا تأثير معين في وسطه، يلهم الناس ويعظهم ويدعي أنه يحس بفرحهم وقرحهم.
كانت بشاعة هذه المواقف التي تبناها أغلب الدعاة والمشايخ خلال الربيع العربي، وبعده كفيلة بتغيير أفكار الكثير من الشباب الذين وجدوا أنفسهم دون وطن يحميهم وقدوة تدلهم على الطريق الصحيح، وتمسح عنهم ما علق بقلوبهم من أسى وإحباط بسبب القتل والتدمير الذي شنته أغلب الأنظمة على كل المنتفضين تلبية لنداء الربيع العربي الذي كان همه غدٌ أفضل من اليوم الذي مضى.
وعلى سبيل المثال نذكر السيد عمرو خالد، الذي كان له تأثير كبير في حياة الملايين من الشباب العربي خلال سنوات طويلة ليظهر بمظهر غير مشرف البتة خلال الربيع العربي وبعده؛ حيث غض الطرف واختار السكوت المخزي عوض الوقوف في صفوف شباب لطالما وضعوه في خانة المقدس.
تحول السيد عمرو خالد من داعية "soft" تدعو الشباب إلى الصلاح والإصلاح إلى رجل أعمال نهم لا يتوانى في تقديم وصلة إشهارية عن الدجاج بطريقة لا تليق أبدا بمقام القدوة الملهم الذي رسمه الشباب له طيلة سنين في عقولهم.
لم يقتصر الضرر الملحق على هذه التفصيلة البسيطة بل صار بوقا يمجد الأنظمة التي قتلت وسجنت الآلاف ويزيد وأحبطت أحلام الملايين في مصر وغيرها من الدول، مما ساهم بطريقة كبيرة في تغيير الأفكار والتوجهات مجددا وترسب الكثير من الإحباط والشك والمرارة والغضب على من جعلتهم الظروف قدوة صالحة مصلحة.
أفَلت القدوات في العالم العربي لأسباب كثيرة منها انتشار الوعي بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والمواقف الشاحبة التي اتخذها أغلب المشايخ الذين كان المفترض بهم أن يقودوا التغيير ويوجهوا الشباب، أو على الأقل أن يرحلوا عن بلاد ظالمة عوض الخضوع بسهولة و التملق للحكام الفاسدين.
أفلت شمس القدوة في العالم العربي بسهولة غير متوقعة وبرزت شموس حقائق أخرى قضت على الأولى مفادها ألّا أحد يستحق لقب القدوة غير القابضين على الجمر والمتشبتين بمواقفهم ولو كلفهم ذلك حياتهم.
اكتشف الشباب العربي إذن أن وجود القدوة في حياتهم كانت مرحلة انتقالية لم تصمد كثيرا في وجه أول اختبار، وأنه لا شيء دائم وأن القدوة الحقيقية على قيد الحياة هي المبادىء والوعي والقيم الراسخة التي لا تخون آمال الملايين في عيش حياة كريمة لا غير، فالموت أهون من المذلة والصمود في وجه دبابة خير من الانبطاح أمام مغريات الحياة كلها.