إغلاق "نسمة" التونسية.. هل ينذر بمعارك سياسية قبل الانتخابات؟
توقف الرأي العام في تونس لأيام على خبر تنفيذ قوات الأمن لقرار بوقف بث قناة "نسمة" الفضائية والمملوكة لرجل الأعمال نبيل القروي المقرب من الرئيس الباجي قائد السبسي، فقد تباينت المواقف الحزبية والنقابية من الإغلاق بين مؤيّد ورافض ومتحفّظ على الشكل والتوقيت.
تحافظ تونس منذ عام 2011، أي بعد إسقاط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، على مرتبة متقدّمة في مؤشرات حريّة الصحافة حسب عدد من المنظمات، في الوقت الذي تقف فيه منطقة العالم العربي أسفل القائمة، حيث تحتل المرتبة الثانية بعد موريتانيا في مؤشر حريّة الصحافة حسب منظمة مراسلون بلا حدود.
وشهدت تونس بعد ثورتها انفتاحا إعلاميا وتعدّدية واسعة، حيث ألغيت وزارة الإعلام في جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، وتشكلت هيئة دستورية تشرف على قطاع الصحافة والإعلام، سمحت بتأسيس 10 قنوات و 19 إذاعة خاصّة وجمعياتية، إضافة إلى عشرات الصحف والمواقع الإلكترونية.
مخالفات بالجملة
تأسست قناة "نسمة" في العام 2009، في وقت كانت تشهد فيه البلاد أشدّ فترات القمع التي مورست على الصحفيين وإحباط جميع محاولات كسر الحظر لسياسة الصوت الواحد، ويبدو حينها أنّها كانت خطوة من النظام لإضفاء شيء من التعددية الصورية على المشهد الإعلامي التونسي الذي يقابل بنقد شديد من بعض المؤسسات الدولية والحقوقية.
وحصلت القناة بمقتضى اتفاقية مبرمة مع الدولة التونسية منذ 12 مارس/آذار 2009 لمدة عشر سنوات، على رخصة إنتاج وبث استمرت بالعمل بها حتى بعد الثورة، لكن رغم مطالبات الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري المنشآت الاعلامية السمعية والبصرية المتحصلة على تراخيص قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011 على التقدم بملفات ترشحها وتسوية وضعيتها قبل 16 أغسطس/آب 2014، إلاّ أن قناة "نسمة" رفضت الاستجابة لهذا الطلب في الوقت الذي كانت تحشد فيه القناة كامل جهودها للحملة الانتخابية للرئيس الحالي الباجي قائد السبسي.
وأكّد نبيل القروي في لقاء تلفزيوني على قناته، أنّه أحد المؤسسين الأوائل لحركة "نداء تونس"، وقال: "كنّا نجتمع بشكل شبه يومي في مكتبي من أجل تجميع عدد من الشخصيات المساندة لفكرة تأسيس حزب جديد معارض لحكم الإسلاميين"، في مخالفة صريحة للقوانين المنظمة لنشاط الأحزاب.
ولم يُخفِ القروي دوره الإعلامي في صناعة المجد الانتخابي للرئيس السبسي عام 2014، ودوره في الصراعات الداخلية التي شهدها حزب "نداء تونس" طيلة السنوات الماضية، حيث دَعمت القناة حزب "نداء تونس" وساهمت في الدعاية الانتخابية لرئيسه الباجي قايد السبسي، كما أشار إلى ذلك تقرير رصد التغطية الإعلامية للمسار الإنتخابي للهايكا (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري).
كما كانت قناة "نسمة" أول المنخرطين في الإشهار السياسي من خلال بث الومضة الدعائية للانتخابات البلدية لحزب "نداء تونس" على موقعها الرسمي وعلى صفحتها الخاصة في "الفيسبوك".
استمرت القناة والقائمون عليها في رفض الاستجابة لمطالب الهيئة في مرّات متتالية، وبعد التدرّج في معاقبة القناة من التنبيه إلى الخطايا وصولا إلى وقف بثها باستعمال القوّة العامّة، حيث تنقّل الممثل القانوني للهيئة برفقة قوات من أجل تنفيذ قرار الهيئة.
وأعلنت الهيئة في بيان لها، أن استمرار القناة التلفزية الخاصة "نسمة" في البث دون تسوية وضعيتها القانونية وفقا لما ذكر، رغم انقضاء ما يزيد عن أربع سنوات منذ 16 يوليو/تموز 2014 لحث المنشآت الإعلامية السمعية والبصرية المتحصلة على تراخيص قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011 على التقدم بملفات ترشحها وتسوية وضعيتها، وإمهال الممثل القانوني للقناة عديد المرات للغرض بما يجعل القناة تحت طائلة أحكام بند قانوني قد يعرضها للعقوبات.
انقسام وتخوّف
على الرغم من موقفها الرافض لغلق أيّ مؤسسة إعلامية، فإنّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تحمّل نبيل القروي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في قناة "نسمة"، فقد ذكرت النقابة في بيان لها أنّ "القناة المذكورة وصاحبها نبيل القروي لم يقوما ولسنوات بأي خطوات لتسوية الوضعية القانونية للمؤسسة بل تبجحا بتحدي القوانين".
لكن النقابة حذرت من "اعتماد السلطة التنفيذية لسياسة الكيل بمكيالين في تعاملها مع قرارات الهايكا؛ وذلك من خلال الحجز على معدات بث قناة نسمة وعدم تطبيق ذلك في حق مؤسسات إعلامية أخرى".
في الوقت نفسه، طالب الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر المنظمات النقابية في تونس بالتراجع الفوري عن قرار غلق القناة، معتبرا هذه الخطوة "تعدّيا على حرية الإعلام، وتوظيف للسلطة لتصفية الحسابات السياسية".
ودعا الاتحاد في بيان نشره على صفحته الرسمية في "فيسبوك" إلى عدم إقحام الأمن في مثل هذه الممارسات التي وصفها بـ "القمعية".
وعلى الصعيد ذاته، دعا رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، المكتب التنفيذي لحزبه لاجتماع طارئ للبحث في تداعيات إغلاق قناة "نسمة"، حيث أصدرت بيانا اعتبرت فيه أنّ "اللجوء إلى القوة العامة لإيقاف بث قناة نسمة بتلك الصورة والحيثيات مسيء لتونس ولثورتها ولسمعتها وهي عملية مرفوضة وتبعث برسائل سلبية تهدد المكاسب الإعلامية وتعيد إلى الأذهان سياسة تدخل الدولة في الشأن الإعلامي وضرب الحريات، وهو ما يتنافى مع مكاسب الثورة والدستور في احترام حرية التعبير واستقلال المؤسسات الإعلامية".
وأكّدت الحركة بصفتها أحد الأحزاب المشكلة لحكومة يوسف الشاهد، أنّ "الاعتداء على حرية الإعلام والتحريض على مؤسساته، يتنافى ويتناقض مع الأهداف التي تأسست عليها مشاركة حركة النهضة في الحكومة".
ويرجح عدد من المحللين، أنّ هذه الخطوة تعيد الخوف لدى النخبة السياسية والصحفية من عودة التسلّط والاعتداء على حريّة التعبير في تونس، وارتهان وسائل الإعلام عبر الترغيب أو الترهيب، من أجل توظيفها في معارك سياسية قبيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المزمع إقامتها في شهر يوليو/ تموز 2019 .
صراع انتخابي
في خضم الصراع الدائر داخل "نداء تونس" بين عدد من شقوقه، اختار نبيل القروي الاصطفاف وراء حافظ قايد السبسي ابن الرئيس في صراعه مع شق كبير من الهيئة التأسيسية للحزب، وهو ما تُوِّج بحصوله على عضوية الهيئة السياسية للحزب، إثر مؤتمر سوسة المنعقد في يناير/كانون الأول 2016، أثناءها أعلن استقالته من إدارة قناة "نسمة".
ولكن موسم الود بينه وبين السبسي الابن لم يدم طويلا، إذ برَزَ الخلاف مجدّدا حول إدارة الحزب، وقد أفصح تسجيل مُسرّب في فبراير/شباط 2017، عن جزء من هذا الخلاف، تجاوز فيها القروي الخطوط الحمر في إهانة السبسي الأب والابن ونعتهم بأبشع الأوصاف والسخرية منهم .
في نهاية هذا الصراع اختار القروي الإعلان في 05 أبريل/نيسان 2017، عن استقالته النهائية من حزب "نداء تونس"، وطيلة هذه المرحلة تعدّل الخط التحريري لقناة "نسمة"، وفق خيارات مالكها.
وخلال الفترة الأخيرة، ظهر نبيل القروي في دور "الجواد الكريم" عبر جمعية أسسها وأطلق عليها اسم ابنه، لينظّم عبرها حملات خيرية تجنّدت القناة لتغطية أنشطتها وجمع التبرعات لها، وإظهار القروي كرجل العمل الخيري والمتطوع في خدمة الفقراء والمساكين.
ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، نشر صاحب قناة "نسمة" مقطع فيديو على صفحته الرسمية في "الفيسبوك" يدعو فيه متساكني الأرياف والأحياء الشعبية إلى التوجه للتسجيل في الانتخابات القادمة قائلا لهم: "أحسست بكم وشعرت بآلامكم".
واتهم نبيل القروي، الحكومة بالوقوف وراء حجز معدات القناة وإيقاف البث، واعتبر أن الحكومة اتخذت من هيئة الإعلام تعلّة من أجل ضرب القنوات غير الراضحة لحركة "تحيا تونس" (حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد)، فقد قال: "هذه حكومة البوليس والهدف منها تكميم الأفواه والهايكا مأمورة، والدليل على ذلك تصريح رئيسها النوري اللجمي الذي أكد فيه وجود سند سياسي لبعض القنوات" كما أكّد على أنه أنه سيواصل التدخل في الشأن السياسي والعام ولن يتراجع عن ذلك".
واستقبل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، نبيل القروي بقصر قرطاج، في رسالة دعم له ضدّ الإجراءات التي اتخذت بحق قناته.
يذكر أن علاقة السبسي متوترة منذ فترة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي انشق عن حزب "النداء" واتجه في تأسيس حزب جديد بعد خلاف مع السبسي الابن.
وأكّدت رئاسة الجمهورية في بيان لها، أنّ "رئيس الدولة جدد تأكيده أن حريّة الإعلام والصحافة وحرية التعبير هما المكسب الأبرز للثورة التونسيّة، وألّا مجال للتراجع عنهما أو التفريط فيهما، مثمّنا الدور المحوري الذي لعبته وسائل الإعلام الوطنيّة ومن بينها قناة نسمة في مرافقة وإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي في بلادنا وتثبيت الممارسة الديمقراطية".
من جهته، عبّر القروي في تصريح إعلامي أن "اللقاء مع رئيس الدولة مثّل مناسبة للتعبير عن استنكار وغضب جميع العاملين بقناة نسمة لما تعرّضت له قناتهم الأسبوع الفارط"، مؤكّدا: "حرص الرئيس بصفته حامي الدستور والحريّات، على تطبيق القانون وإيجاد الحلول اللازمة مع "الهايكا" لاستئناف البثّ".