في الأردن يشعلون قناديل صمود القدس

12

طباعة

مشاركة

للعام الثامن على التوالي يطلق أهل الأردن حملتهم السنوية لإعمار وترميم منازل البلدة القديمة في القدس، والتي اختاروا لها شعاراً يعبر عن فهم عميقٍ لهذه القضية: (فلنشعل قناديل صمودها). 

ليست من عادتي تخصيص مقالات معينة للإشادة بجهة أو بشخص محدد؛ لولا أن هذه الحملة السنوية في الأردن تعتبر في نظري واحدةً من أهم الأمثلة المعاصرة الجديرة بالدراسة على جدوى العمل والدعم الشعبي لقضية القدس بالذات، خاصة مع توالي الدلائل والمعلومات المتواترة عن دقة الفعل والتنفيذ الحقيقي لمشروعات هذه الحملة الشعبية بامتياز في البلدة القديمة.

أذكر جيداً حملةً قامت بها بعض المؤسسات الرسمية العربية لأجل القدس على إحدى الشبكات التلفزيونية الترفيهية الكبرى المعروفة قبل حوالي عشرين عاماً، وكان المبلغ الذي أعلن في ذلك الوقت قد وصل فيما أذكر إلى حوالي مائة مليون دولار أمريكي!

هذا المبلغ كان يكفي في الواقع لترميم جميع بيوت البلدة القديمة في القدس التي كانت تحتاج إلى ترميم في ذلك الوقت، أو بناء منازل (مع أخذ التراخيص اللازمة من الاحتلال لضمان عدم الهدم) لما يصل إلى ألف عائلة مقدسية على الأقل، أو بناء مدارس وإعمار مستشفيات كانت ستكفي مدينة القدس سنوات طويلة، إلا أن شيئاً لم يحدث في ذلك الوقت! لا يعلم أحد ماذا حصل بعد تلك الحملة الكبيرة، وأين ذهبت أموالها التي تبرع بها كثير من الناس والرسميين العرب (وعلى رأسهم بعض الملوك والزعماء والرؤساء العرب).

لكن الحالة التي نتكلم عنها اليوم مختلفة تماماً، فعندما أطلقت نقابة المهندسين الأردنيين هذه الحملة قبل ثماني سنوات، رأى الناس في البلدة القديمة بالقدس التحرك الفعلي لترميم بيوتهم. بداية الأمر كانت متواضعة بعدد قليل من المنازل، ولكنه لاحقاً ازداد، وزاد معها التفاعل الأردني الشعبي حتى وصل الأمر إلى تبرع الأردنيين في إحدى الحملات بحوالي مليون ونصف دولار أمريكي في يوم واحد، فالحملة في كل عام تكون على شكل يوم مفتوح على إحدى الإذاعات الأردنية، لمدة يوم واحد فقط!

مليون ونصف دولار قد تبدو صغيرة جداً في رأي بعض المراقبين، ولكن عندما نعلم أنها خرجت من جيوب الشعب الأردني الذي يدفع واحدة من أعلى نسب الضرائب في العالم، وفي بلد يعاني من مديونية عالية جداً وظروف اقتصادية في غاية الصعوبة، تظهر لدينا أهمية وضخامة الحدث! فالأردني الذي لا يزيد دخله في بعض الأحيان على 350 دولاراً -في بلد يعتبر خط الفقر فيه 700 دولار تقريباً- لا يمكنه اقتطاع جزء من قوت أبنائه بهذه البساطة ليقدمها إلى أية قضية؛ ما لم تكن هذه القضية قد شغلت تفكيره واهتمامه لدرجة أن يقتطع من ميزانيته الضيقة مبلغاً يقدمه للقدس.

الأردني يحسب ميزانيته الشهرية بالفلس والسنت لصعوبة الوضع الاقتصادي في بلده، ومع ذلك لا يتوانى عن تقديم ما يستطيع لأجل تثبيت أهله في القدس في منازلهم، والقصص في ذلك كثيرة جداً.

هذه الحملة السنوية يمكن أن تعتبر مثالاً نوعياً لحملةٍ ناجحة الفعل والتأثير والأثر، فهي مركزة على منازل البلدة القديمة بالذات، وبالتالي تعرف هدفها ولا تتشتت في غياهب الحملات الصهيونية المتوالية في أحياء القدس وبين سكانها وفي مختلف المجالات فيها.

كما أنه يمكن قياس نجاح هذه الحملة وفشلها؛ لأن البلدة القديمة في القدس لا تزيد مساحتها على 850 دونما، وبالتالي تسهل مراقبة الفعل فيها، بما يعطي هذه الحملة والقائمين عليها مصداقيةً عالية لدى أهل القدس أولاً، ولدى أهل الأردن ثانياً، ولا ننسى أن وسائل التواصل الاجتماعي أزالت الكثير من الحواجز التي كانت تفصل بين السكان هنا وهناك، وأصبح من السهل في لحظات أن يسأل الأردني أهل القدس ويتأكد من المكان الذي ذهبت إليه أمواله، وهذه المصداقية والشفافية العالية مفتاح آخر لنجاح هذه الحملة.

كما أن قيام نقابة المهندسين الأردنيين بها يعطيها زخماً ومصداقيةً أيضاً، فمن المعروف أن نقابة المهندسين الأردنيين موجودة في عمان والقدس منذ ما قبل الاحتلال الصهيوني لشرقي القدس عام 1967م، وبالتالي فإن من السهل على النقابة الوصول إلى القدس والتحرك فيها والتعامل مع احتياجاتها ضمن اختصاص النقابة، وهذه نقطة نجاح أخرى، فنقابة المهندسين، من خلال لجنتها (مهندسون لأجل القدس وفلسطين) تخصصت في إعمار المنازل في القدس، وهو اختصاص في صلب عمل المهندسين، ولم تجرَّ نفسها لمربعات في غير اختصاصها مثل كفالة الأيتام أو الزكاة أو غيرها مما هو ليس من اختصاص المهندسين، وهذه نقطة لابد من حسابها ودراستها عند الإعداد لأي عمل ناجح وحملةٍ ناجحة لأجل القدس.

يمكننا تعلم الكثير من حملة (فلنشعل قناديل صمودها)؛ فالتركيز والاختصاص والشفافية هي مفاتيح نجاح أي عمل لأجل القدس، وهو ما يثبت أن كل شخص يمكنه في الحقيقة أن يقدم لأجل القدس ضمن اختصاصه دون أن يسأل: (كيف)، فمن أراد خدمة القدس حقاً عرف الطريق إلى ذلك.