الثورات العربية وقطّاع الطرق.. الثورة التونسية نموذجا
أولا: الوقائع والأحداث
اندلعت الثورة التونسية يوم الجمعة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، تضامناً مع الشاب محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً وتعبيراً عن غضبه على مصادرة عربته التي يبيع عليها الخضروات في الطريق العام. توفي البوعزيزي متأثراً بحروقه البليغة في المستشفى يوم 4 يناير/ كانون الثاني (جانفي) 2011.
الحدث أدى إلى اندلاع المظاهرات تدريجياً لتبلغ ذروتها وتتمركز في تونس العاصمة، وبالتحديد في "شارع بورقيبة" أمام مقر وزارة الداخلية، وتتوسع إلى مدن أخرى، مما أدى إلى كثير من الجرحى وعدد من القتلى.
وقد أجبرت هذه الأحداث الرئيس زين العابدين بن علي، وقتها، على إقالة عدد من الوزراء وكبار المسؤولين منهم وزير الداخلية، كما أعلن عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية 2014.
عرفت بعض المواد الغذائية الرئيسية انخفاضاً طفيفاً في الأسعار، كما تعهد الرئيس السابق بإجراء (تحسينات) على الأوضاع، وذلك في خطابه الشهير الذي أطل به على الشعب وقال فيه (أنا فهمتكم.. فهمت البطال والمحتاج واللي طالب مزيد من الحريات).
ولكن كل ذلك لم يشفع لابن علي، ما اضطره وبشكل باغت الجميع لمغادرة البلاد إلى المملكة العربية السعودية، ليظهر الوزير الأول وقتها ويعلن عن شغور منصب رئيس الجمهورية وعن توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، حسب الفصل 57 من الدستور. وفي يوم 15 يناير/ كانون الثاني (جانفي) 2011 أعلن رئيس مجلس نواب الشعب، فؤاد المبزع، توليه رئاسة الجمهورية مؤقتاً إلى حين إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها أو مبكرة.
وقد أجريت بعد ذلك انتخابات مبكرة فاز فيها، الدكتور محمد المرزوقي بالرئاسة، وحكومة "الترويكا" -وهي حكومة تكونت من الأحزاب الثلاثة التي تفاوتت بالمراتب- الاولى وهي حزب حركة النهضة، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ثم حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.
ولم يفز اي حزب ذي مرجعية يسارية أو ممن له علاقة بالنظام السابق، الأمر الذي أغضب هؤلاء كثيراً، إلى جانب قوى إقليمية ودولية.
ثانيا: الثورة التونسية وقطّاع الطرق
الذين خسروا الانتخابات إلى جانب فلول النظام السابق مع القوى الإقليمية الخائفة على مصالحها الإيديولوجية أو الاقتصادية؛ تحركت بكل أذرعها أو بخلاياها النائمة التي عرتها الثورة وكشفتها، وأهم هذه الأذرع مايلي:
- القوى الاقتصادية النافذة
تتكون من رجال الأعمال الذين كانت لهم مصالح متعددة مع النظام السابق، وخافوا أن تتبخر منهم هذه المصالح فبسطوا أيديهم على السوق، أي على الأسعار فألهبوها بشكل لافت وغير مسبوق؛ مما أرهق كثيراً المواطنين عموما، و ضعاف الحال خاصة، الذين بدؤوا يترنحون من الوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة، وأصبحوا يجاهرون بذلك، ويحنون إلى الرئيس السابق والنظام السابق، ويعلنون صراحة أنهم ندموا لانتخابهم حكومة "الترويكا" بعد أن أصبحوا يعتقدون أنها سبب البلية (أي غلاء الأسعار).
2. الإعلام
الإعلام كشر عن أنيابه وظهر أن فيه خلايا نائمة تابعة للنظام السابق وخاصة لـ (اليسار) الذي لم يفز في الانتخابات والحامل لإيديولوجيا معادية لحركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، كذلك بعض وجوه الإعلام الذين ظهر أنهم موالون لقوى إقليمية كبرى (فرنسا بالخصوص) وحليفاتها، أو إلى دولة خليجية تتحرك من وراء الستار، والمعادون لتركيا وقطر اللتان دعمتا تونس بعد الثورة ببعض المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الهامة.
الإعلام لعب دوراً كبيراً، ليس فقط في عرقلة حكومة "الترويكا" المنتخبة بل في إسقاطها، الأمر الذي دفع بحزب "حركة النهضة" إلى الاستقالة؛ لأن كل (السياط) كانت متجهة إليها.
وكان السبب غير المعلن في هذا الصراع، هو أن الحركة العدو الإيديولوجي لليسار المسيطر على الإعلام، ثم أصبح إعلان (العداء) صريحاً لها، وبدأ رموز اليسار يعلنون أنه لا بد من إسقاط حكومة النهضة. والحال أن الحكومة هي حكومة ترويكا، مما اضطر حزب حركة النهضة أن تستقيل من الحكومة، ويعلن رئيسها الشيخ راشد الغنوشي ما يلي: "إذا ربحنا الديمقراطية وخسرنا السلطة فإننا نعود لها في وقت آخر، أما إذا خسرنا الديمقراطية فقد خسرنا نحن وتونس كل شيء".
كذلك الإعلام تجند لإرباك المواطنين، فكان لا يذكر اسم رئيس الجمهورية محمد المرزوقي المنتخب وقتها إلا بوصف (الرئيس المؤقت)، حتى اقتنع الناس أن الوضع لن يستمر، وبعضهم أصبح يمنّي النفس بعودة النظام السابق تحت التأثير الإعلامي.
تجند هذا الاعلام لتقزيم وتشويه أي مشروع تعلن عنه حكومة الترويكا أو أحد وزرائها، وخاصة إذا كان هذا الوزير من حزب حركة النهضة. وكمثال على ذلك، أعلن وزير الصحة (من النهضة وقتها) عن قانون يجبر الأطباء المتخصصين، خاصة، على العمل لسنتين في المناطق الداخلية الريفية، فحركوا ضده الأطباء حتى طلبة كلية الطب. وكثرت مطالبهم واحتجاجاتهم وإضراباتهم التي امتدت في بعض المؤسسات لما يقارب ثلاثة أسابيع. ما أدى إلى إلغاء المشروع وحرمان المواطنين من حقهم في العلاج الاختصاصي الذين هم في الأصل محرومون منه لعقود، ثم تم تغيير الوزير.
3 . الإرهاب والاغتيالات
كذلك تحركت بعض الأذرع الخفية لتقوم بعمليات اغتيال في المناطق الجبلية خاصة المحاذية للحدود مع الجزائر لتغتال عددا من العسكريين والأمنيين في عمليات إرهابية، وذلك لإرباك المنظومة الأمنية ودفعها للانقلاب ومحاسبة الحكومة التي لم تحمهم في تصورهم.
تم اغتيال رمزين أحدهما من رموز اليسار (شكري بلعيد)، والثاني رمز قومي عروبي وهو (الحاج محمد البراهمي)، واتهموا حركة النهضة باغتياله، وإلى اليوم يطالبون بمحاكمتها على هذه العملية. واستغلت جنازة الفقيد شكري بلعيد أيما استغلال في محاولة انقلابية لم تنجح، وهكذا تمكن قطاع الطرق أن يقطعوا الطريق على أولى الثورات العربية (الثورة التونسية).
وخسرت تونس 8 سنوات من عمرها، بل وكادوا يعصفون بها لو لا رحمة الله أولا، ثم (تنازلات) حزب حركة النهضة في جوانب كثيرة من مستحقاته الانتخابية.