رئاسية على مقاس قيس سعيّد.. ما دور الدولة العميقة في مسرحية الانتخابات؟
"رجل غير سوي يدمر البلاد"
تحت الترهيب والتهديد، تتجه تونس نحو انتخابات رئاسية على مقاس الرئيس قيس سعيد، الذي وظف كل مؤسسات الدولة لخدمته ، طمعا في تجديد رئاسته بقوة السلطة وإقصاء كل المرشحين، على غرار "سيسي مصر".
وسعيّد ليس له إرث سياسي معروف سوى ترشحه وفوزه بالرئاسة بدعم من بعض قوى الثورة الذين تصوروا أنه سيحافظ على الديمقراطية.
لذا كان من الممكن ردع قراراته الديكتاتورية، لكن أطراف "الدولة العميقة"، خاصة الأجهزة الأمنية والجيش رأوا فيه الواجهة التي يختبئون خلفها للإبقاء على نفوذهم، وإقصاء القوى الفاعلة، خاصة الإسلاميين وحركة النهضة، فدعموا انقلابه.
سوء النية تجاه الثورة والتحول الديمقراطي، الذي أبداه سعيّد وتوافقت معه الدولة العميقة، ظهر حين جمد الحياة السياسية وشل الدولة تماما، ولم يقدم أي بديل إصلاحي يبرر انقلابه، ما توافق تماما مع أهداف رموز وهياكل "العميقة".
ونجحت المرحلة الأولى من انقلابه بدعم من الجيش والأجهزة الأمنية، بحصار مبنى مجلس النواب ومقر الحكومة، ومنع نواب الشعب من الوصول إلى مقار البرلمان عام 2021.
ومع غياب الشعب عن الخروج ورفض ووقف الانقلاب، بدأت المرحلة الثانية من الانقلاب بوضع جميع السلطات في يده، ثم استخدم القضاة لمحاكمة وسجن كل الثوار، وتفريغ الحياة السياسية، ويبقى هو “أداة في يد الدولة العميقة”.
3 من 17 مرشحا
بعدما فرغ سعيّد الحياة السياسية من مضمونها، وجمد نشاط أحزاب، وقمع وسجن خصومه بقوة الشرطة والجيش وأحكام القضاء المسيس، بدأ في تمديد حكمه، عبر انتخابات شكلية.
قبل مرشحان اثنان فقط، لينافساه من أصل 17 كانوا ينوون الترشح في رئاسيات أكتوبر/ تشرين الأول 2024، واعتقل عددا من طالبي الترشح وفوت الفرصة على مرشحين آخرين بقرارات ظاهرها قانوني وباطنها سياسي.
وكانت معايير قبول الترشيحات صارمة، عبر اشتراط تأمين تزكيات من عشرة برلمانيين أو 40 مسؤولا محليا منتخبا، أو 10 آلاف ناخب مع ضرورة تأمين 500 تزكية على الأقل في كل دائرة انتخابية، وهو أمر يصعب تحقيقه.
كما اشترطت الهيئة حصول المرشح على ما يعرف بـ"البطاقة عدد 3" وهي وثيقة تثبت السوابق العدلية للشخص، وتمنحها وزارة الداخلية، واشتكى العديد من المرشحين من عدم التمكن من الحصول عليها.
ومن بين المرشحين البارزين الذين تم رفض ملفاتهم من قبل الهيئة، الوزير السابق قبل ثورة 2011، المنذر الزنايدي، ورئيسة "الحزب الدستوري الحر" المسجونة، عبير موسي.
كما أعلن مرشحون انسحابهم من السباق الرئاسي قبل إعلان الهيئة بسبب عدم تمكنهم من جمع تواقيع التزكيات الضرورية وعدم حصولهم على "البطاقة عدد 3".
ومنهم الناشط السياسي والكاتب الصافي سعيد الذي قال في بيان "كدت أن أشارك في مسرحية وان مان شو قصيرة جدا ورديئة جدا".
وسجنت محكمة تونسية أربعة مرشحين، من بينهم رجل الأعمال والإعلام نزار الشعري، ووجهت إليهم تهما تتعلق بتزوير تواقيع التزكيات.
كما أدانت المحكمة عبير موسي، التي كانت تهاجم حركة النهضة وتعطل جلسات برلمان راشد الغنوشي، بتهم مختلفة، من بينها التآمر على الدولة، وسجنها عامين.
وهو ما يعني أنها "انتخابات محسومة" قبل أن تبدأ وفق سياسيين تونسيين، لأنه تم إقصاء كل المنافسين الذين لديهم حظوظ أمام سعيد.
وفي أبريل/ نيسان 2024، أعلنت جبهة الخلاص الوطني، أكبر ائتلاف للمعارضة، أنها لن تشارك في الانتخابات لـ"غياب شروط التنافس".
وبعد إخلاء الساحة، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في 10 أغسطس/آب 2024 قبول ثلاثة مرشحين فقط من بينهم سعيّد الذي يحتكر السلطات في البلاد منذ 2021 ويسعى إلى الفوز بولاية ثانية.
ومعه الأمين العام لـ"حركة الشعب"، زهير المغزاوي، والسياسي العياشي زمال، وهو أستاذ قانون بجامعة تونس، وسبق له تولي عدة مناصب خلال حكم النظام السابق للثورة برئاسة الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، ويعد من الداعمين لسعيّد.
وكان زمال عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري سنة 2000، وشغل رئيس مجلس النواب في "عهد بن علي" من 2000 إلى 2005.
وكان من الواضح أن تحديد أعداد المنافسين لسعيد وإبعاد غيرهم جزء من اختطاف الديكتاتور للديمقراطية، ومؤشر لدور الدولة العميقة في أن تجري انتخابات رئاسية على مقاس "سعيد" بصفته ممثلهم.
الدولة العميقة
يقصد "بالدولة العميقة" في تونس شبكة الأشخاص الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي، له مصالحه الواسعة، وامتداداته العريضة في الداخل والخارج.
ونقطة القوة فيه أن عناصره الأساسية لها وجودها في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة، المدنية، والعسكرية، والسياسية، والعالمية، والأمنية.
وذلك بحسب الكاتب والمحلل السياسي التونسي بولبابه سالم، في مقال نشره بموقع "منتدى الصباح" في 6 مارس/آذار 2022.
ويقول سالم إن الدولة العميقة تستمد نفوذها من التعيينات التي تقوم بها في الإدارة، لذلك ظهر مصطلح الإدارة العميقة التي تحرس مصالح الأشخاص أو اللوبيات المتنفذة وتعرقل كل من يهدد مصالحها أو ينافسها.
ونشأ مصطلح الدولة العميقة أولا في تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التي أعلن عنها مصطفى كمال أتاتورك.
ومنها محاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.
تردد بعد ذلك مفهوم الدولة العميقة بعد الانقلابات التي جرت ضد ثورات الربيع العربي، ليعبر عن مفهوم آخر للدولة العميقة هو أنها تمثل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه.
وتشير دراسة لـ"المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية الأمنية والعسكرية" في 26 أبريل/نيسان 2023 إلى أن شبكة الدولة العميقة داخل البلاد التونسية في الوقت الحالي "متداخلة ومتشابكة بسبب عدم استقرار المشهد السياسي منذ عام 2011".
لكن الدراسة ترى أن "هذا ما يضعفها نسبيا"، وإن كانت لا تزال "ثابته كدولة موازية للحفاظ على مصالحها وقادرة على ضمان التناغم وحصول عدم الاختلاف وتضارب المصالح والتصادم".
ويرى محللون تونسيون أن مصالح أطراف هذه الدولة العميقة وجدت في سعيّد الرمز الذي تتعايش من خلالها في ظل اختطافه الديمقراطية بقراراته، وهو ما يتناسب مع البيئة التي تتعايش فيها أركان الدولة العميقة وهي الاستبداد والفساد.
وفي 12 يوليو/تموز 2024 طالب الرئيس التونسي الأسبق، المنصف المرزوقي، كل أطراف الدولة العميقة -ليس الجيش والأمن فقط- بـ"ألا يسمحوا باستمرار سعيد في سدة الحكم، وألا يسمحوا له بتزوير الانتخابات".
وفي حوار مع موقع "عربي 21"، قال المرزوقي "على الشعب في تونس أن يتخلص من هذا الشخص في انتخابات أكتوبر 2024، وأن يجد حلا لبديل يعيد المسار الديمقراطي على السكة، وإلا فإن تونس ستدخل في مرحلة تفكك الدولة، وتعفن المجتمع".
كما توقع "في تصريح لموقع "القدس العربي" في 19 يونيو/حزيران 2024 أن "تتخلص الدولة العميقة من سعيد عبر الانتخابات لتجنب (انقلاب طبي) وثورة جديدة في تونس".
وقال: “ماذا قررت الدولة العميقة، أي قيادات الجيش والأمن، والأمن الرئاسي؟ هل ستترك رجلاً غير سوي يدمر البلاد أم ستنقذ نفسها والبلاد؟”.
وتوقع دفع الدولة العميقة بمرشح لها في انتخابات أكتوبر 2024، حتى "تتخلص من الحمل الثقيل دون الحاجة لانقلاب طبي كما وقع مع الحبيب بورقيبة وتفادياً لثورة عارمة كما وقع مع بن علي".
إلا أن ترشح سعيد لدورة رئاسية جديدة جاء عكس توقع المرزوقي ما يشير إلى أن رموز هذه الدولة العميقة وكياناتها ترى في سعيد من يمثل مصالحها، أو تختفي هي خلف سياساته الفاشلة.
وهو ما تنبأ به سابقا، القيادي في "حركة الشعب"، بدر الدين القمودي، بقوله لقناة "الجوهرة" المحلية في 6 سبتمبر/ المحلية 2022 إن "الدولة العميقة مازالت تتحكم في المشهد السياسي وتحكم مع سعيد عبر أذرعها".
وأكد أنها "وراء مختلف المطبات التي تعترض مسار ثورة تونس، والفساد متغلغل في مفاصل الدولة بسبب هذه الدولة العميقة".
وقبل ذلك في 6 ديسمبر/كانون الأول 2021 تحدث سعيّد عن تهيئة "الدولة العميقة" لبديل عنه، ما أثار تساؤلات.
وقال إن الدولة العميقة تستخدم أذرعها الإعلامية لإعداد "بطل منقذ"، ومحاولة "النظام القديم" تصعيد شخصية في دور "المنقذ" بديلا عنه، دون الإفصاح عن اسمه.
سعيد ادعى خلال لقائه رؤساء القضاء أن "الدولة العميقة تستخدم أذرعها الإعلامية لإعداد شخصية معينة متهمة بالفساد وإبرازها في ثوب البطل المنقذ القادم لتونس"، وفق تعبيره.
وقال إن ما أسماه "النظام القديم" أو ما يعرف في تونس بالدولة العميقة، "تعمل على العودة إلى دفة السلطة"، منتقدا الظهور المتكرر للشخصية التي لم يسمها.
ودارت تكهنات أن سعيد يلمح في حديثه لرئيس حزب "آفاق تونس"، الفاضل عبد الكافي، وقد أكد عبد الكافي، حينئذ، أنه المعني باتهامات الرئيس، واتهمه بعدم تقبل المعارضين والرأي المخالف، وعدم احترامه للقضاء.
أسباب الاستمرار
بجانب ما هو معروف من أسباب ظهرت بفعل التجارب الثورية التي تم إجهاضها كما في حالتي مصر وتونس، مثل استمرار نفس هياكل ورموز الدولة العميقة في صورة أجهزة أمنية وتشريعية وقضائية وسيطرة رجال أعمال لعبوا جميعا على إجهاض الثورات، رصد كُتاب تونسيون أسبابا أخرى.
الكاتب محمد الرصافي المقداد لفت إلى وجود أيادٍ خارجية –بجانب الداخلية- لا تترك مجالا إلّا وتركت فيه بصمات عملائه، ولها تأثير خفي في إدارة البلاد، دون أن يشعر بها عامة الموطنين"، بحسب مقاله في موقع "رأي اليوم" في 16 فبراير/ شباط 2023.
وأوضح أنه “لا يمكن أن تتأسس هذه الكتلة الخطيرة للدولة العميقة، دون أن يكون لها تبنٍّ خارجي، من طرف إحدى الدول الكبرى (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا)، وتونس تعيش تحت وطأة تنافس القوتين الأوليين”.
ودخلت بريطانيا لتجد لها موطئ قدم، عبر ما تردد عن تمويلها حملة رئيس الوزراء السابق يوسف الشاهد بـ18 مليون دولار فيما سُمي "الهبة البريطانية"، التي نفاها الشاهد.
أيضا كان فشل الثورة في محاكمة رموز الاستبداد ولصوص أعمار ومصائر الشعب وثروات البلاد لعقود متتالية، "على الأقل الصف الأول والثاني ليكون ذلك رادعا لبقية أركان الدولة العميقة، ومانعا من عودتهم ثانيا"، كان سببا.
الكاتب لطفي العبيدي أشار إلى جانب آخر من جوانب نجاح واستمرار الدولة العميقة وفشل الثورة في تونس، هو “اختيار النخب طريق الخلافات على أساس المرجعية والأيديولوجيات والمصالح الحزبية الضيقة، وابتعادها عن العمل الوطني الفعال، والموجه للواقع الاجتماعي والاقتصادي، وهدم ذاتها، بهجر المشروع الوطني الذي نادت به الثورة”.
وأوضح في مقال بصحيفة "القدس العربي" في 7 أبريل 2022، أنه "عندما لا تجدد المؤسسات السياسية والاجتماعية نفسها على قاعدة النقد الذاتي والمراجعات، فإنها تفرز بشكل متواصل أجهزة بيروقراطية فاسدة، تتحول إلى بورجوازية ريعية تنهب مؤسسات الدولة، ويصبح الشعب بمثابة خصم أمامها".
وهذا ما حدث في تونس، واستماتت بعض المكونات السياسية التي تمثل الدولة العميقة في المحافظة عليه، وفق "العبيدي".
وأكد أن "تونس، ككل دولة عربية تحتاج التغلب على التاريخ السلطوي الذي يبدو صعبا بسبب تجذر المصالح، وتفاعل العائلات السياسية والاقتصادية التي تجمعها رابطة منافع وثيقة تشكل جوهر الدولة العميقة".
وأشار تقرير لمجلة "لوبوان" الفرنسية في 3 يونيو/حزيران 2021 إلى أن "20 عائلة فقط تتحكم في الاقتصاد التونسي، والمشهد المصرفي، في ظل قوانين ولوائح تضفي الطابع المؤسسي على ثقافة الاحتكار”.
ولفتت المجلة إلى أنه “رغم أن تونس شهدت ثورة أطاحت بنظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، فإن البلاد لم تشهد ثورة اقتصادية، وبقي الوضع على ما هو عليه طوال السنوات الماضية”.