المبعوث الأميركي يضع شروطا حاسمة لتشكيل الحكومة الجديدة.. إلى أين يسير العراق؟

الزيارات الأميركية تأتي في ظل مشاورات تشكيل حكومة العراق
مع اقتراب لحظة الحسم في مداولات تشكيل الحكومة العراقية عقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، تكثّفت الزيارات التي يجريها مسؤولون أميركيون إلى بغداد، ما أثار تساؤلات حول أهداف هذه التحركات ومدى ارتباطها بملف الحكومة الجديدة.
وفي ظل الترقب العام للتوصل إلى تشكيلة حكومية، لم تتمكن قوى الإطار التنسيقي الشيعي (نحو 187 مقعدًا برلمانيًا) من الاتفاق على مرشح واحد لرئاسة الوزراء؛ إذ ما يزال كل من محمد شياع السوداني ونوري المالكي أبرز المتنافسين على المنصب، ضمن قائمة تضم نحو عشرة أسماء.
زيارات مكثفة
شهدت العاصمة بغداد خلال أسبوع واحد سلسلة زيارات أميركية مكثفة؛ إذ أجرى نائب وزير الخارجية الأميركي مايكل ريغاس، ومبعوث الرئيس الأميركي إلى سوريا ولبنان توم باراك، زيارتين متتاليتين، قبل أن يصل مبعوث العراق مارك سافايا منتصف ديسمبر/كانون الأول 2025.
ففي الأول من ديسمبر وصل نائب وزير الخارجية الأميركي مايكل ريغاس إلى بغداد، والتقى في اليوم التالي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية العراقي فؤاد حسين. وبحسب بيان الخارجية العراقية، تناول اللقاء سبل تعزيز العلاقات الثنائية، ومتابعة مسارات التعاون المشترك في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.
وأكد حسين خلال الاجتماع ضرورة تخفيف حدة التوتر الإقليمي، مستعرضًا مستجدات الحراك السياسي بعد الانتخابات، وأهمية الإسراع في تشكيل الحكومة الاتحادية ضمن السقوف الدستورية، مع مراعاة التوازن بين القوى السياسية لضمان انتظام العملية الديمقراطية. كما شدد على استمرار التنسيق بين بغداد وواشنطن، خصوصًا في ملفات الاقتصاد والبنية التحتية والاستثمار، بما يسهم في دعم التنمية وعودة الشركات الأميركية للعمل داخل العراق.
من جهته، أعرب ريغاس عن تقدير بلاده للتقدم الذي أحرزه العراق في مجالي الاستقرار والأمن، مؤكدًا دعم واشنطن للجهود الحكومية، وأهمية مواصلة التنسيق الإقليمي والدولي لمواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
وقبل هذه الزيارة، وصل مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان توم باراك إلى بغداد بشكل مفاجئ في 30 نوفمبر، حيث التقى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. ولم يصدر باراك بيانًا يوضح تفاصيل الزيارة، لكنه أعاد نشر بيان صادر عن مكتب السوداني، أشار إلى أن الطرفين ناقشا السبل العملية التي يمكن للعراق من خلالها الاستمرار في دعم استقرار سوريا وأمنها وازدهارها وتعافيها الاقتصادي، بما ينعكس إيجابًا على استقرار العراق نفسه.
وأوضح بيان مكتب السوداني أن اللقاء استعرض وجهات النظر المتبادلة بشأن منع أي تصعيد إضافي في المنطقة، ودعم المسار الدبلوماسي لحل الخلافات، وتوجيه المنطقة نحو مسار من التعاون والنمو الاقتصادي والاستقرار طويل الأمد.
غير أن وسائل إعلام محلية نقلت تفاصيل إضافية حول فحوى اللقاء. إذ كشفت أن باراك أبلغ القيادة العراقية بأن إسرائيل ماضية في عملياتها حتى نزع سلاح حزب الله، وأنه في حال دخول الفصائل الموالية لإيران، وعلى رأسها كتائب حزب الله، في المواجهة، فإن إسرائيل ستستهدفها دون اعتراض من الولايات المتحدة.
ونقلت فضائية "يو تي في" العراقية في الأول من ديسمبر، عن مصدر حضر الاجتماع (لم تُسمّه)، أن المبعوث الأميركي شدد على ضرورة ضبط الفصائل ووقف أي دعم قد يصب في مصلحة حزب الله في لبنان. مؤكدا أن "الحياد ليس طلبًا، بل شرطًا".

رسائل أميركية
وفيما يتعلق بدلالات زيارة توم باراك إلى العراق، يرى الكاتب والمحلل العراقي منقذ داغر أن اللقاء الذي جمع باراك برئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يكن لقاءً اعتيادياً، سواء من حيث توقيت الزيارة أو مكان انعقادها، إذ جرى ــ كما يقول ــ على مائدة غداء لا على طاولة مباحثات رسمية، وهو ما يعكس طبيعة مختلفة للرسائل المتبادلة وأبعاد الزيارة.
وأوضح داغر في تدوينة نشرها عبر منصة "إكس" بتاريخ 30 نوفمبر، أن هذه الزيارة جاءت في سياق حساس، حيث تزامنت مع زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي مايكل ريغاس إلى بغداد، كما سبقت زيارة المبعوث الأميركي الخاص للعراق مارك سافايا، الأمر الذي يمنحها دلالة سياسية أعمق تتجاوز الشكل البروتوكولي.
أما من حيث الأهمية، فيرى داغر أن توم باراك بات يؤدي دوراً محورياً في رسم سياسة واشنطن تجاه المنطقة، بشكل يشبه الدور الذي لعبه المبعوث الأميركي بريت ماكغورك خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن، وفق تقييمه.
ولم يستبعد داغر أن يكون اللقاء قد تطرق إلى دور العراق في الترتيبات الإقليمية المقبلة، ليس فقط بسبب موقعه الجيوسياسي المؤثر، بل أيضاً بسبب شبكة علاقاته المتوازنة مع مختلف دول الإقليم، وفي مقدمتها إيران، وهي العلاقات التي تمنح بغداد وزناً خاصاً في الحسابات الأميركية.
من جهتها، رأت الباحثة العراقية نوال الموسوي أن توم باراك التقى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني حاملا رسائل أميركية واضحة، لا تختلف في مضمونها عن تلك التي نقلها خلال مهمته في لبنان. وترى أن توقيت اللقاء يعكس دقة المرحلة التي تمر بها المنطقة، والحاجة الملحّة إلى حفاظ العراق على استقلال قراره السياسي واستمرار استقراره الداخلي.
وقالت الموسوي في تدوينة نشرتها على منصة "إكس" في 30 نوفمبر: إن الضغط الأميركي بلغ أعلى مستوياته على قوى الإطار التنسيقي، مشيرة إلى أن لقاء باراك مع السوداني “يفسّر نفسه دون مواربة”، في إشارة إلى حجم الرسائل السياسية التي يحملها والرهانات الأميركية على ما ستؤول إليه عملية تشكيل الحكومة الجديدة.
على الصعيد نفسه، أوضح المحلل السياسي العراقي فراس إلياس جملة من الأسباب التي تقف خلف زيارة توم باراك إلى بغداد. وبيّن أن من أبرز هذه الأسباب بحث دور العراق في استقرار سوريا، وهو دور تُقيّمه واشنطن بصفته جزءا من مساعٍ أميركية لإحياء دور بغداد كوسيط أو لاعب رئيس في الملف السوري.
وأشار إلياس، في تدوينة نشرها على منصة "أكس" في الأول من ديسمبر إلى أن الزيارة جاءت في إطار تحولات إقليمية واسعة تشهدها المنطقة، من بينها حالة التهدئة الجارية بين سوريا وإسرائيل، والضغوط المتصاعدة مع احتمالية اندلاع حرب جديدة في لبنان، إلى جانب عملية إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، وهو ما يجعل تثبيت موقع العراق في هذه المعادلات ضرورة أميركية.
وأضاف أن أحد أهم دوافع الزيارة يتمثل في أن العراق يُنظر إليه في واشنطن بصفته "مفتاحا" لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وذلك عبر ربط الملفّات السورية واللبنانية والعراقية ضمن مقاربة واحدة تراها الولايات المتحدة مدخلاً للحدّ من أي تصعيد محتمل.
وحول تخصيص العراق دون غيره بهذه الزيارة، أوضح إلياس أن بغداد تعد "جسرا طبيعيا" بين سوريا ولبنان؛ فهي تتشارك حدودا مباشرة مع سوريا، كما أن لديها فصائل مسلحة تتأثر بصورة مباشرة بالتطورات اللبنانية، الأمر الذي يجعل الدور العراقي محوريا في منع انتقال الأزمة اللبنانية– الإسرائيلية إلى الداخل العراقي أو إلى الفصائل العراقية.
كما لفت إلى أن العراق يمرّ بمرحلة سياسية بالغة الحساسية عقب الانتخابات البرلمانية، وفي ظل مسار تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما يمنح واشنطن فرصة لإعادة ترتيب قواعد النفوذ والتوازنات الإقليمية انطلاقا من بغداد. وفق رؤية الإدارة الأميركية.
شروط وتهديدات
فيما يتعلق بمدى ارتباط زيارات المسؤولين الأميركيين إلى بغداد بملف تشكيل الحكومة الجديدة، أكد الباحث في الشأن العراقي، لطيف المهداوي، أن الولايات المتحدة وضعت شروطًا واضحة على التشكيلة الحكومية المقبلة، من أبرزها عدم تضمين أي شخصية لها انتماءات إلى الفصائل المسلحة.
وأوضح المهداوي في تصريح خاص لـ"الاستقلال" أن هذه الشروط مصحوبة بتهديدات ضمنية بعودة العقوبات الاقتصادية على العراق أو تصعيدها، لا سيما في المجال الاقتصادي، في حال لم يتوافق الإطار التنسيقي مع الرؤية الأميركية.
وأشار الباحث إلى أن المواقف الأميركية لا تزال باردة وغير واضحة المعالم، خصوصا مع عدم بدء مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، مارك سافايا، مهمته حتى الآن، رغم مرور أكثر من 40 يومًا على تعيينه، واكتفائه بنشر آرائه عبر منصة "إكس" فقط.
وفي آخر تدوينة له بتاريخ 29 نوفمبر، وصف سافايا العراق بأنه يقف على مفترق طرق حاسم، بين خيارين: إما حصر السلاح خارج المؤسسات الرسمية، أو العودة إلى "دوامة التعقيد". مؤكدا ضرورة إبعاد السلاح عن السياسة كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار.
وقال سافايا: "العالم ينظر إلى العراق كدولة قادرة على لعب دور أكبر وأكثر تأثيرًا في المنطقة، شرط حل قضية السلاح خارج سيطرة الدولة بشكل كامل، وحماية هيبة المؤسسات الرسمية".
وأضاف: "لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو، ولا لأي شراكة دولية أن تنجح في بيئة تتشابك فيها السياسة مع السلطة غير الرسمية. لدى العراق الآن فرصة تاريخية لطي هذا الملف، وتعزيز صورته كدولة قائمة على سيادة القانون لا على سلطة السلاح".
وشدد على أهمية ترسيخ مبدأ فصل السلطات واحترام الأطر الدستورية، ومنع التدخلات التي تعرقل صنع القرار السياسي أو تضعف استقلال الدولة. موضحًا أن "الدول القوية تُبنى عندما تعمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ضمن حدودها المحددة، وتُحاسب عبر آليات قانونية واضحة، لا من خلال مراكز ضغط أو نفوذ".
وأكد المبعوث الأميركي مارك سافايا أن العراق يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، إما أن يتجه نحو بناء مؤسسات مستقلة قادرة على إنفاذ القانون وجذب الاستثمارات، أو أن يعود إلى دوامة التعقيد التي أثقلت كاهل الجميع على مدى السنوات الماضية.
وختم سافايا بالقول: "ما نحتاج إليه اليوم هو دعم مسيرة البلاد، واحترام الدستور، وتعزيز مبدأ فصل السلطات، مع الالتزام الراسخ والتحرك الملموس لإبعاد السلاح عن السياسة، فهذا هو الطريق الوحيد لبناء عراق قوي يحظى باحترام المجتمع الدولي".
في سياق متصل، وفي ظل فوز عدد من القوى السياسية التي تمتلك أجنحة مسلحة ضمن الإطار التنسيقي بنحو 80 مقعدا في البرلمان، أوضح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال مقابلة تلفزيونية في الأول من ديسمبر أن "واشنطن أبلغت بغداد بأنها لن تتعامل مع جماعات مسلحة مشمولة بالعقوبات".
المصادر
- باراك جاء برسالة تحذيرية.. محلل: السوداني مقبول أميركياً إلا في قضية واحدة
- العراق: مارك سافايا يقلق «الإطار التنسيقي»
- نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية فؤاد حسين يستقبل نائب وزير الخارجية الأمريكي مايكل ريغاس
- (وثيقة) الشيعة 187 مقعدًا والسنة 77 والكورد 56 في نتائج انتخابات البرلمان العراقي
- حصري لـ"الجبال": الفصائل "ممنوعة" من تسنم مناصب لها علاقة بالمال.. ولا قبول دولي دون ذلك












