نيلسون مانديلا.. زعيم جنوب إفريقيا الذي ورّث أحفاده مهمة الدفاع عن فلسطين
أصبح تاريخ 11 يناير/كانون الثاني 2024، يوما مشهودا في ذاكرة العدوان الإسرائيلي على غزة، عندما عقدت محكمة العدل الدولية في "لاهاي" جلستها التاريخية الأولى للنظر في الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا ضد دولة الاحتلال.
إذ اتهمتها بارتكاب جرائم حرب في حق الفلسطينيين بقطاع غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي كما تعرفها معاهدة جنيف الموقعة عام 1948.
كانت المرافعة الجنوب إفريقية التي نقلت إلى العالم، بمثابة نقطة ضوء أمام الأجيال الحالية المحاصرة بآلام الواقع وآثار العدوان الذي خلف عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين على رأسهم النساء والأطفال.
لكنها شكلت في الوقت ذاته مناسبة لاستعادة الأواصر المشتركة بين جنوب إفريقيا وفلسطين، من قسوة العدوان والتواطؤ العالمي وتاريخية النضال.
وكذلك مظاهر التعاطف والدعم الشعبي والرسمي غير المنقطع من جانب كيب تاون على مدار عقود طويلة.
وبرز في مظاهر الاحتفاء بالموقف الجنوب إفريقي، تلك المشاهد التاريخية التي جمعت الزعيمين الراحلين نيلسون مانديلا وياسر عرفات.
إذ كان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ضمن أوائل مستقبلي نظيره الجنوب إفريقي مانديلا بعد خروجه من المعتقل عام 1990.
وقف عرفات حينها بزيه الوطني الفلسطيني المميز بين عدد من القادة الأفارقة الذين دعموا كفاح الزعيم الإفريقي ضد نظام الفصل العنصري، وقابله مانديلا باحتفاء شديد، لم ينفك عن تأثر الرجل بالنضال الفلسطيني.
لذلك مع مشاهد المرافعات القوية في لاهاي، استعيدت كلمات مانديلا الخالدة عند انتخابه رئيسا لبلاده بعد تفكيك نظام الفصل العنصري عام 1994: "حريتنا منقوصة بدون حرية الفلسطينيين".
والآن رغم رحيل مانديلا فإن أحفاده يواصلون المسيرة، وكأنهم يحملون رايته من قبره، ويرسخون مبادئه ويخلدون ذكره.
فكيف مثلت قصة مانديلا مسارا لتلك الأجيال؟ وكيف رسخ مبادئه لتكون حافزا قويا لكل مدافع عن الحق والعدل في العالم؟
مانديلا في سطور
اسمه بالكامل "نيلسون روليهلاهلا مانديلا"، ولد في 18 يوليو/تموز 1918 في بلدة "مفيزو" بمنطقة ترانسكي بجنوب إفريقيا، وانتمى إلى قبيلة "الهوسا" التي حكمت تلك المناطق لقرون، وكانت عائلته هي العائلة المالكة المعروفة بـ "تهمبو".
سماه أبوه "روليهلاهلا" ومعناه "المشاكس" باللغة الأفريكانية، لكنه سمي في مدرسة الإرسالية الابتدائية "نيلسون" بعد أن عجز أساتذته البيض عن نطق اسمه.
توفي والده عندما كان نيلسون في التاسعة من العمر، فانتقل للعيش مع حاكم شعب "ثامبو"، الذي كفله ردا لجميل والده الذي زكاه رئيسا للقبيلة المذكورة قبل سنوات من ذلك.
حينها كان الطفل الصغير يتردد على الكنيسة كل يوم أحد مع الأوصياء، حتى أصبح للمسيحية مكانة خاصة في حياته.
بعدها التحق بمدرسة البعثة الميثودية (طائفة من الطوائف المسيحية) الواقعة بجانب قصر الحاكم، خلال المرحلة الابتدائية، حيث درس اللغة الإنجليزية والتاريخ والجغرافيا، فأحب التاريخ الإفريقي وتأثر بقصص الكفاح ضد المستعمرين الأوروبيين.
وكان مانديلا آنذاك يعد من الأطفال القلائل الذين استطاعوا دخول المدرسة الابتدائية، وقد سجل نجاحا وتفوقا ملحوظا في دراسته، قاده للالتحاق بكلية "فورت هاري".
في الكلية بدأ مانديلا التحضير لليسانس الحقوق، ودرس اللغة الإنجليزية والأنثروبولوجيا والسياسة والإدارة المحلية والقانون الهولندي الروماني، وكان يطمح أن يصبح مترجما أو كاتبا في وزارة الشؤون المحلية.
بدايته الثورية
وظهرت شخصية مانديلا الثورية في نهاية السنة الأولى للعام الجامعي، حيث انخرط في مقاطعة مجلس الطلاب، بسبب نوعية الطعام الرديئة المقدمة للطلبة، فضلا عن استثناء بعضهم من تلقي دعم الطعام.
وقد كلفه ذلك توقيفا مؤقتا من إدارة الجامعة، ليغادرها دون الحصول على شهادة.
وفي عام 1941 غادر مانديلا إلى جوهانسبرج وعمل في بعض الأعمال الشعبية، منها حارس ليلي ونادل في مطعم، لكنه انخرط في الوقت ذاته ببعض أنشطة بعض الأحزاب الشيوعية.
وعند حضوره لنقاشات ولقاءات تلك الأحزاب أعجب بأن البيض والأفارقة والهنود والملونين متمازجون على قدم المساواة.
لكنه ذكر لاحقا أنه لم ينضم إليهم بسبب الإلحاد ما يتعارض مع إيمانه المسيحي القوي.
وكذلك كانت رؤيته السياسية تتمثل في أن جنوب إفريقيا يجب أن تكافح ضد العنصرية وليس الطبقية.
وفي عام 1942 انضم إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي المعارض لسياسة التمييز العنصري، ونشط فيه بقوة وعمل على تحويله إلى حركة جماهيرية تستقطب مختلف الفئات الإفريقية، وكان أحد مؤسسي "اتحاد الشبيبة" بالحزب.
وحين بدأ الحزب ما عرف بـ"حملة التحدي" ضد سياسات الفصل العنصري، تنقل مانديلا داخل البلاد مناديا بمقاومة قوانين التمييز.
فصدر حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، ومنع من مغادرة جوهانسبرغ ستة أشهر، استغلها لإعداد خطة لتحويل فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية.
وفي عام 1943 تزايد نشاطه السياسي بشكل واضح، وانخرط في حركة ناجحة لدعم مقاطعة الحافلات احتجاجا على ارتفاع أجرتها، واستثناء ركوب "الملونين" فيها في بعض المناطق.
كما واصل تعليمه العالي، عندما سجل في جامعة جنوب إفريقيا بالمراسلة، والعمل على ليسانس الحقوق في الليل، وتنظيم أنشطة شباب الحزب.
الأبارتايد والمقاومة
بعد ذلك بدأت الأمور تتحول للأسوأ بشكل متسارع عندما صعد نظام الفصل العنصري أو "الأبارتايد" الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء جنوب إفريقيا، وكان مانديلا شاهدا على ذلك العصر وفاعلا في مقاومته.
استمر النظام من عام 1948 وحتى جرى إلغاؤه بين الأعوام 1990 و1993، وشهدت خلاله البلاد فصولا مأساوية على يد الأقلية البيضاء التي أمعنت في إذلال وسحق جميع الطوائف الأخرى، على رأسهم السكان الأصليون.
فمثلا هندريك فيرورد "مهندس نظام الأبارتايد" ورئيس وزراء جنوب إفريقيا السادس (1958 - 1966) سعى بقوة إلى استبعاد الأغلبية غير البيضاء من البلاد، أو عزلهم في مستوطنات محدودة لا يختلطون فيها ببعضهم البعض (تماما كما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة).
وبالفعل بدأ الحزب الوطني الحاكم آنذاك تنفيذ مشروعه السياسي بقانون سمي "سجل السكان" أقر في 1950، وقسم سكان البلاد رسميا إلى مجموعات عرقية حدد وجودها في أماكن معينة.
ومنحت المجموعة السوداء منطقة جغرافية فقيرة اقتصاديا لا تتجاوز 13 بالمئة من مساحة جنوب إفريقيا.
وهو ما أوجد أحياء مكدسة ومعدمة تكاد تغيب فيها الخدمات بشكل كامل، وتسجل فيها معدلات الجريمة الأعلى.
كما طالت سياسات الفصل العنصري مجال التعليم، فخصصت مدارس للسود تتركز في الضواحي وتتسم بالاكتظاظ وضعف الإمكانات المادية ونقص الأطر التربوية.
في المقابل كان البيض يتمتعون بمدارس أفضل تتركز في الأحياء الراقية بالحواضر الكبرى للبلاد وتتميز بأنظمة تعليمية متطورة.
مانديلا المقاوم
في ذلك الوقت كان منديلا يقود بقوة عملية المقاومة ضد نظام الفصل العنصري والذي سمي "نظام بريتوريا" لاتخاذه من العاصمة مقرا له.
لكن بدأت التحولات تتجه للصدام المسلح بعد أحداث مذبحة "شاريفيل" سنة 1960 التي أطلق فيها رجال الشرطة النار على المتظاهرين وسقط المئات من القتلى والجرحى.
بعدها سادت الاحتجاجات البلاد، وحظرت السلطات كافة نشاطات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، واعتقلت نيلسون مانديلا.
ثم جرى الإفراج عنه عام 1961 لينظم جبهة مقاومة سرية مسلحة، وسافر إلى الجزائر عام 1962 لترتيب دورات تدريبية لأعضاء الجناح العسكري للحزب.
وبعد عودته اعتقل بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف، وحين بدأت محاكمته تولى الدفاع عن نفسه.
ووصف حالته في المحاكمة خلال مذكراته بالقول "أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر".
وأضاف: "اخترت هذا الزي لأظهر المعنى الرمزي لكوني رجلا إفريقيا يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافاتهم".
وتابع: "كنت على يقين أن ظهوري بذلك الزي سيخيف السلطة من ثقافة إفريقيا وحضارتها".
حينها حكم عليه بالسجن 5 سنوات، وقبل أن ينهيها صدر عليه حكم بالسجن المؤبد عام 1964.
ومن هنا كانت بداية رحلة مانديلا الشاقة في السجون، والتي جاهد فيها بعزيمة وصبر استمرت أكثر من ربع قرن، وحولته إلى أيقونة للحرية ورمزا للكفاح والنضال الوطني.
الرئيس مانديلا
في نهاية الثمانينيات، كان نظام الأبارتايد يحتضر جراء الحصار العالمي الخانق، وتعبئة شعبية إفريقية وعالمية ضده جعلت أهم حلفائه (الحكومة البريطانية) عاجزة عن مساعدته.
وفي خضم انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك أجرت سلطات نظام بريتوريا اتصالات سرية بالزعيم مانديلا وزعامات المؤتمر الوطني، لكن نيلسون رفض التفاوض وهو سجين.
وبعد سنوات من المفاوضات، خرج مانديلا ورفاقه من السجن في 11 فبراير/ شباط 1990.
ليطلق الجانبان مباحثات سياسية توجت بإلغاء الفصل العنصري والدعوة لتنظيم انتخابات تعددية هي الأولى في تاريخ البلاد، جرت في عام 1994 وفاز بها المؤتمر الوطني الإفريقي وزعيمه مانديلا.
أرسى مانديلا الحاصل على جائزة نوبل للسلام خلال فترة حكمه مبادئ أساسية تقوم على مناهضة التمييز العنصري والإبادة الجماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات، وهو ما سارت عليه جنوب إفريقيا وصارت بسببه مضربا للأمثال.
وفي عام 1999 قرر الرئيس الجنوب إفريقي التقاعد فلم يترشح لفترة رئاسية ثانية، واشتغل بالأعمال الخيرية من خلال مؤسسة مانديلا الخيرية لمكافحة الإيدز، وصندوق للطفولة يحمل اسمه.
وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول 2013، توفي نيلسون مانديلا بجنوب إفريقيا، الأرض التي دافع عنها، فودعه العالم بإجلال وتقدير، وأعلنت دول كثيرة الحداد حزنا عليه.
رسائل لفلسطين
ويذكر أن مانديلا تأثر في حياته بكفاح ومقاومة الشعب الفلسطيني، والذي بدت قصته متشابهة تماما بقصة جنوب إفريقيا، وكذلك كان الزعيم الجنوب إفريقي محبا للرئيس الراحل ياسر عرفات.
حتى إنه كتب مقالا بعد موته بعنوان: "عرفات نقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة".
وقال فيه: "إنه كان يتابع نشاط ياسر عرفات من غياهب السجن، وكم أثار اهتمامه في ثباته ومثابرته، حيث التزم بالكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية".
وأضاف: "سيبقى عرفات إلى الأبد رمزا للبطولة بالنسبة لكل شعوب العالم التي تقاتل من أجل الحرية والعدالة".
وفي عام 1999 زار مانديلا قطاع غزة وكان في استقباله ياسر عرفات، وجماهير غفيرة، وسط احتفالات شعبية كبيرة.
والمثير أن مانديلا ظل متضامنا مع غزة حتى بعد وفاته، ففي عام 2014 (بعد عام من موت مانديلا) وفي ظل العدوان الإسرائيلي على غزة (عملية العصف المأكول)، بعثت عائلته رسالة إلى الشعب الفلسطيني.
وذكرت في مضمون الرسالة: "روح نيلسون مانديلا تقف مع نضالكم العادل، التضامن مع فلسطين لن يكون عبر الكلمات والخطابات المكتوبة على الورق فقط".
وأتبعت: "إنما سيكون من خلال ترجمة فعلية لقناعتنا بالتضامن مع الشعب الفلسطيني على الأرض، من خلال المشاركة الفاعلة في حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها".
وفي عام 2016، أزيح الستار عن تمثال من البرونز للمناضل مانديلا أهدته بلدية جوهانسبرج إلى بلدية رام الله في إطار التوأمة التي تجمع المدينتين.
ووضع التمثال -الذي يبلغ ارتفاعه ستة أمتار- في دوار (ميدان) جديد بالمدينة يحمل اسم الرئيس الجنوب إفريقي السابق. ويظهر مانديلا في التمثال رافعا قبضة يده إلى أعلى.
والآن في عام 2024 وفي ظل أكثر الحروب وحشية ضد غزة، يخوض أحفاد مانديلا كفاحهم في المحاكم الدولية وأروقة القضاء العالمي ضد إسرائيل، التي تمثل الوجه الآخر من "الأبارتايد".