محمد أبو الغيط.. صحفي مصري مات في غربته قبل أن يحقق أمنيته الأخيرة
بعد صراع مع المرض، رحل الصحفي الشاب الطبيب المصري محمد أبو الغيط، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بالعاصمة البريطانية لندن، عن عمر ناهز 34 عاما.
أبو الغيط، من الصحفيين الاستقصائيين والسياسيين النابهين، الذين حصلوا على جوائز محلية ودولية عديدة من أبرز المؤسسات الصحفية في العالم، نظرا لأعماله التوثيقية المهمة، ولامتلاكه أسلوبا فريدا وآسرا في الكتابة والصياغة.
ويمثل الصحفي المصري طليعة شباب جيل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث شارك فيها ونظّر لها، شهد جذوتها وأفولها، وتذوق حلاوة انتصاراتها، وتجرع مرارة هزائمها.
وسيرا على نهج كثير من رواد مهنة الصحافة، قرر أبو الغيط مغادرة أرض الكنانة عقب الانقلاب العسكري لعبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013، بسبب التضييق على الحقوق والحريات والعمل الصحفي الرافض للانقلاب.
ذهب أبو الغيط في غربته إلى لندن وبدأ يلمع بقوة كصحفي بارز خلف كثير من القصص المهنية والإنسانية، حتى أصيب بمرض السرطان ورحل بعد أشهر من المعاناة وثقها في كتابه الأخير "أنا قادم أيها الضوء".
من أبو الغيط؟
وفجر 5 ديسمبر 2022، كتبت زوجته إسراء شهاب: "إنا لله وإنا إليه راجعون، انتقل إلى رحمة الله تعالى زوجي حبيبي محمد أبو الغيط بعد مقاومة باسلة ضد مرض السرطان. الرجاء الدعاء له بالرحمة والمغفرة ولنا بالصبر الجميل".
ونشأ كطفل متفوق في مراحله التعليمية بأسيوط، وتحدث عن نفسه في هذه المرحلة أنه "كان شغوفا ومحبا للقراءة خاصة الروايات والأعمال الأدبية"، حتى التحق بكلية الطب جامعة أسيوط وتخرج فيها عام 2011.
وككثير من شباب جيله شارك أبو الغيط في ثورة 25 يناير 2011 التي أدت بعدها لتنحي الرئيس حسني مبارك، وكان في طليعتها حتى اعتقل على يد قوات الأمن خلال أحداثها، ثم أصبح من المنظرين لها والمؤيدين لمسارها، ومن هنا بدأ الدخول لعالم الصحافة والكتابة الاحترافية.
في البداية، اهتم أبو الغيط بالتدوين عن العدالة الاجتماعية والفقراء، وعرفه القراء لأول مرة من خلال تدوينة طويلة انتشرت على نطاق واسع، كانت بعنوان "الفقراء أولا يا ولاد الكلب"، ورغم العنوان الصادم الشعبوي، لكن التدوينة كانت بأسلوبه المنمق الراصد للواقع، إذ تحدث عن الفقراء والمهمشين الذين شاركوا في "ثورة يناير".
من خلال بحث ميداني عن بعض شهداء الثورة من المناطق العشوائية والفقيرة الذين لم يذكرهم أحد، نجح أبو الغيط في إبراز قصصهم، والتذكير بأن الثورة قامت لأجل هؤلاء، وأن كل عمل سياسي لا يقدمهم فهو مناقض للثورة وأهدافها.
في هذا التوقيت، بدأ أبو الغيط عمله المهني في مجال الطب، كطبيب في مستشفى إمبابة العام بمحافظة الجيزة.
وفي مسار متواز دخل إلى عالم الصحافة الممتد، حيث عمل في مؤسسات مختلفة أبرزها تلفزيون "أون"، وجريدة "الشروق"، ثم عمل في قناة "الحرة" الأميركية، وانتقل إلى التلفزيون "العربي" في لندن، إلى جانب عمله مع شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية.
جوائز متعددة
قد ساهم خلال مسيرته بتحقيقات استقصائية جماعية عدة، أهمها تحقيق مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد مع 163 صحفيا حول العالم لجمع وتعريب وتحرير ونشر التسريبات السويسرية "Swiss Leaks" التي كشفت تفاصيل الحسابات الخارجية لشخصيات بارزة، بينهم رؤساء وملوك.
كما حصل على جوائز متعددة، بدأها عام 2013 بجائزة "مصطفى الحسيني" عن فئة المقال الصحفي للصحفيين الشبان العرب، عن مقاله "وكأن شيئا لم يكن" المنشور في "المصري اليوم".
وفي عام 2014، حصل على جائزة "سمير قصير" لحرية الصحافة التي يمنحها الاتحاد الأوروبي في بيروت عن مقاله "موسم الموتى الأحياء"، المنشور في "بوابة الشروق".
وفي 2019، حصل على الميدالية الذهبية في جائزة "ريكاردو أورتيغا" للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة عن تحقيقه المتلفز العابر للحدود "المستخدم الأخير"، الذي كشف فيه انتهاك 10 دول غربية لعقود بيع الأسلحة وخرق قوانين دولية ذات صلة، ما أدى إلى وصول أسلحة "ممنوعة تعاقديا" إلى أطراف الصراع في اليمن.
وعام 2020، حصل على جائزة "فستوف" الأولى عن فئة المساهمة في صناعة السلام، مع الصحفيين نيك دونوفان وريتشارد كنت، عن تحقيقهم التمويل السري لـ"قوات الدعم السريع" السودانية (مليشيات الجنجويد).
وفي عام 2021، حصل على جائزة "مؤسسة هيكل للصحافة العربية"، عن تحقيقاته حول قضايا اليمن وسوريا.
وجاء تكريمه الأخير قبل وفاته بأيام، من "منتدى مصر للإعلام"، وهو منتدى يعقد سنويا في القاهرة للبحث في التنمية والتطوير الإعلامي، وقد عده أبو الغيط "تكريما خاصا" لأنه جاء من بلده وزملائه في مصر.
"قادم أيها الضوء"
في أغسطس/ آب 2021، أعلن أبوالغيط، عبر تدوينة على فيسبوك، إصابته بسرطان في المعدة، كاشفا أن الورم انتشر إلى عقد لمفاوية في أماكن أخرى من جسده.
ومن هنا بدأت معاناة الصحفي المصري مع المرض، وهو ما وثقه في كتابه "أنا قادم أيها الضوء"، الذي صدر قبل أيام من رحيله.
وروى فيه تجربته مع المرض وتفاصيل إنسانية كثيرة أخرى، ودون في مقدمة كتابه "وجدتني لا أكتب يوميات مريض، بل أكتب أحداثا ومشاعر، ما جربته وما تعلمته، سيرة ذاتية لي ولجيلي أيضا".
وأضاف: "دونما أشعر عبرت كتابتي من الخاص إلى العام، وهكذا تنقلت بين شرح علمي إلى أخبار التطورات السياسية، ومن تفنيد خرافات حول ما يسمى بـ(الطب البديل) إلى متابعة وفاة الملكة إليزابيث، أتأمل في الموت والحياة".
وأورد: "لو تحققت نجاتي بمعجزة ما، فسأسعى نحو ذلك الضوء الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنح ما أستطيع عرفانا لكوني محظوظا بزوجة مضيئة، وبأب وأم مضيئين، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئنني نورهم لحقيقة الخير في الدنيا".
واختتم: "لو وافاني القدر بالوقت الذي قدره الأطباء، أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورا وهدوءا، وأن يمر عبر هذا الكتاب بعض الضوء إلى من يقرأ".
حزن عميق
كانت لأبو الغيط أمنية أخيرة، تحدث عنها في مرضه، وطالب الإعلامي المصري حافظ الميرازي، بضرورة تحقيقها.
وفي تدوينة عبر صفحته على موقع فيسبوك في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، قال الميرازي: "محمد لم يكن يستطع العودة من بريطانيا إلى مصر لكتاباته المهنية، وحتى زوجته إسراء وابنهما يحيى، في الثامنة من عمره، كادا يمنعان من العودة للندن خلال زيارة عائلية بمصر، لمجرد أن والدها محبوس منذ عام 2013 لانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين".
وأضاف: "نتحدث عن العميد السابق لكلية الهندسة بجامعة حلوان، حسن شهاب، والذي صدر حكم لصالحه من محكمة النقض في يونيو 2021 ببراءته من القضية التي كان مسجونا بتهمها لثماني سنوات، ومعروفة باسم قضية الهروب من وادي النطرون، لكن بدلا من الإفراج عنه وهو يعاني من مرضي السكر والضغط، تم تدويره في قضية أخرى ليظل محبوسا".
واستطرد: "حين تم تشخيص مرض أبو الغيط، بالخبيث وانتشاره بجسمه بشكل لم يعد تصلح معه جراحة أو علاج، كتب محمد منذ 6 أشهر، هذا الرجاء: (والد زوجتي أستاذ جامعي في السبعين من عمره.. وبعد لجنة العفو وانطلاق الحوار الوطني عدنا لطرق (الأبواب) بكل ما هو متاح رسميا وغير رسمي، ثم لا شيء)".
وأكمل الميرازي على لسان محمد: "أرجو ممن كان لي عنده لحظة ود أن يساعدنا في ألا تفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها المتوفية بالفعل قبل عامين بالسرطان".
وغرد السياسي المصري، محمد البرادعي، قائلا: "ألف رحمة ونور على روحك يا محمد ولأسرتك الصغيرة والكبيرة خالص الصبر والسلوان".
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي))
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) December 5, 2022
آلف رحمة ونور على روحك يامحمد ولأسرتك الصغيرة والكبيرة خالص الصبر والسلوان
فيما دون الصحفي عبد الله الطحاوي: "محمد أبو الغيط صاحب قلم وصاحب موقف. تغرب وتشتت من أجل أن يستمر كما هو.. يكتب كما يحب وكما يعتقد.. مات في الغربة.. والقلوب والأقلام تنعاه".
وأضاف: "تأملت تلك الحالة التي تغمر محمد.. وحالة أخرى، أدناها الصمت وأعلاها تعرفونها.. إزاء موت إعلاميين.. عاشوا تحت نعل السلطة.. مضللا تارة.. مهللا تارة أخرى... الموت يرفع أناسا ويضع آخرين".
وكتب وكيل مديرية الصحة بدمياط سابقا، مصطفى جاويش: "لله ما أعطى ولله ما أخذ فلنصبر ولنحتسب، فاضت روح الملهم في حياته بقلمه وفي مماته بصبره الحبيب الغالي الدكتور محمد أبو الغيط".
ونشرت نقابة الأطباء المصريين نعيا خاص لأبو الغيط، قالت فيه عبر بيانها: "شاب في أوائل الثلاثينيات من عمره، الهدوء سمة تلاحظها فيه عند لقائه، وعندما تتبادل الحديث معه تكتشف الحماس والأمل الممزوجين بالأوجاع والألم، في النهاية تشعر نحوه بالألفة ويحتل مكانه في قلبك".
وأضافت: "نفس الألفة وسكن القلب تكون لكلماته في مقالاته وتحقيقاته المتعددة، التي مهما استرسل فيها يأخذك الشغف لآخر كلمة، الفارق أن الكلمات تبدو لكهل عاش دهرا بينما كاتبها شاب بقلب طفل.. حقا العمر بقدر التجارب وليس بعدد السنوات".
المصادر
- نقابة الأطباء تنعى الطبيب الشاب محمد أبو الغيط.. رحل شاباً وترك تاريخاً يبقيه حياً في القلوب
- وفاة الصحفي محمد أبو الغيط ومطالبات بتحقيق أمنيته الأخيرة
- وفاة الصحافي المصري محمد أبو الغيط... "أنا قادم أيها الضوء"
- وفاة الصحفي المصري محمد أبو الغيط بعد صراع مع المرض
- وفاة الطبيب والكاتب الصحفي محمد أبو الغيط بعد صراع مع السرطان