خير الدين حسيب.. مفكر عراقي صاحب الرؤساء وعمل على توحيد العرب
.jpg)
على مدى عقود من الزمن، ارتبط اسم المفكر العراقي خير الدين حسيب بـ"مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي أنشأه في بيروت عام 1975 مع مجموعة من المفكرين والسياسيين العرب، وترأس مجلس أمنائه وأداره لأكثر من 30 عاما حتى استقالته منتصف 2017.
في 12 مارس/ آذار 2021، وافت المنية خير الدين حسيب ببيروت، عن عمر ناهز 92 عاما، تاركا رصيدا كبيرا من الإنجازات، حيث ساهم الراحل في تأسيس منظمة "المؤتمر القومي العربي" في 1990، وقبلها شارك في تأسيس "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" عام 1983.
في 12 مارس/ آذار 2021، نعى "مركز دراسات الوحدة العربية" الدكتور خير الدين حسيب، مشيرا إلى أن الراحل كان عضوا في تنظيم الطليعة العربية الناصري ولعب دورا محوريا ومؤثرا في تأسيس "المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي- الإسلامي" وجمعية "الاقتصاديين العرب" و"المنظمة العربية لمكافحة الفساد" و"المنظمة العربية للترجمة".
وذكر المركز أن الراحل "ساهم في تبني المشروع النهضوي العربي وإطلاقه من خلال مركز دراسات الوحدة العربية الذي ساهم حسيب في تطويره ليصبح صرحا علميا وثقافيا رائدا على الساحة العربية ومساهما في تعزيز الوعي القومي العربي وفي إغناء الثقافة والمعرفة العربيتين".
وعلى مايبدو فإن مواقف حسيب من الاحتلال الأميركي للعراق وما جاء بعد ذلك، جعل السلطات العراقية تتجاهل رحيل أحد أبرز المفكرين القوميين في الوطن العربي، إذ لم يصدر عن أي جهة رسمية في العراق نعي أو بيان بخصوص وفاته.
مناصب رفيعة
ولد خير الدين حسيب في مدينة الموصل في آب/أغسطس 1929، وتلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدارسها، وفي جامعة بغداد درس الاقتصاد، وبسبب تفوقه الدراسي حاز منحة لدراسة المالية في جامعة كامبريدج البريطانية عام 1954.
نال الراحل شهادة الدكتوراة من الجامعة البريطانية، ضمن تخصص المالية العامة، وكانت أطروحته حول "تقدير الدخل القومي في العراق"، وصدرت في كتاب بالعنوان نفسه عام 1963.
عاد إلى بلاده عام 1957، ولأنه أوفد لإكمال دراسته في بريطانيا ضمن بعثة على حساب وزارة النفط، حل مكان الموظفين الأجانب في العراق لدى عودته، وعين رئيسا لـ"شعبة الإحصاء والأبحاث" في شركة النفط العراقية، لكن الأمور المالية كانت تبت في لندن، فطلب حسيب من وزير النفط حينها طلعت شيباني نقله إلى جامعة بغداد ليدرس فيها.
عام 1961، اختير مديرا عاما لاتحاد الصناعة، وفي العام نفسه زار مصرا، وبعد عودته إلى بغداد، بدأ العمل على مخطط لتشريعات اشتراكية، منها "قانون تأميم البنوك" وتعديل قانون ضريبة الدخل والتركات، وبعد ذلك بعامين، وافق على تولي وظيفة "محافظ البنك المركزي".
عاصر الراحل تطورات سياسية، بدأت بالإطاحة برئيس الوزراء نوري السعيد والنظام الملكي عام 1958، وتولي عبد الكريم قاسم رئاسة وزراء أول جمهورية بالعراق، وما تلا ذلك من صراعات بين البعثيين والشيوعيين والقوميين، والمعادين للتجربة الناصرية.
من تلك الأحداث كلها، يختار حسيب أن يخبرنا عن ليلة 13 يوليو/ تموز 1964، حين التقى بإبراهيم يسري الرجل الثاني في السفارة المصرية بالعراق، حيث طلب منه حسيب إبلاغ (الرئيس الراحل جمال) عبد الناصر أن التشريعات الاشتراكية في العراق ستعلن في اليوم التالي، وستنشأ بموجبها مؤسسات اقتصادية.
يحسب لخير الدين حسيب الذي كان محافظا للمصرف المركزي، إعطاء قرض لمصر، ويحسب له أيضا، دوره المتقدم في النضال ضد سيطرة الشركات الأجنبية على نفط العراق وثروته، ومشاركته في محاربة الفساد فيه.
كل ذلك لم يمنعه من أن يجد نفسه في السجن عام 1968، رغم أنه لم يكن على خلاف فكري مع التيار الحاكم، حيث تنقل خلال 9 أشهر بين 4 سجون، وذاق جميع أصناف التعذيب، لكن صلابته ساعدته على تحمل الآلام.
تولى حسيب رئاسة "المؤسسة الاقتصادية العامة"، التي أشرفت على جميع الأنشطة الاقتصادية بعد تأميم النفط العراقي والمشاريع الكبرى، وعبر هذه المواقع خاض حسيب معارك كثيرة ضد هيمنة القوى الأجنبية على مقدرات البلاد، وكان وراء دراسة اعتمدت كأساس في عملية تأميم النفط بالعراق.
اشتغل في تلك الفترة أستاذا جامعيا بجامعة بغداد، وتبنى قضايا التحرر العربي عبر الفكر في زمن شهد عزوفا عن المشاريع الوحدوية، لكنه قرر مغادرة العراق عام 1974، وعمل لمدة قصيرة مديرا لمنظمة الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا).
"أبو القومية العربية"
في أواسط السبعينيات من القرن العشرين، وتحديدا عام 1975، عمل مع كوكبة من الشخصيات العربية الوحدوية على تأسيس "مركز دراسات الوحدة العربية"، حيث اختار خير الدين حسيب أن يبقى المركز عاملا طيلة الحرب الأهلية اللبنانية، يصدر الكتب ويعقد الندوات، ويصدر مجلته الشهرية "ا" من دون انقطاع.
وتقديرا لدوره الثقافي في لبنان، وبتوصية من رئيس وزراء لبنان السابق سليم الحص، منحه الرئيس ميشال سليمان الجنسية، فكان هذا خير إنصاف، حيث وصفته الصحافة اللبنانية بأن "حب هذا العروبي للبنان لا يقل عن حبه للعراق".
وحمل "مركز دراسات الوحدة العربية" طيلة فترة قيادته حسيب لواء قضايا التحرر العربي عبر الحقول الفكرية والعلمية في زمن بدأت تظهر ملامح الخذلان السياسي والعزوف عن المشاريع ذات البعد الوحدوي.
تحرك حسيب عبر "المركز" في 3 محاور، أولها تفعيل المؤتمرات والندوات التي خلقت حوله شبكة واسعة من الباحثين المهتمين بقضايا عربية من زوايا عدة، كالعلوم السياسية وعلم الاجتماع والاقتصاد والدراسات التنموية والتربوية والفلسفية.
أما المحور الثاني، فهو مرتبط بالأول ولعله مرآته، وهو جعل "مركز دراسات الوحدة العربية" مشروع نشر، ويحسب له إخراج ما يقارب الخمسين عنوانا سنويا في مجالات لا يتصدى لها معظم الناشرين العرب، ولم يخفت هذا الإيقاع إلا في 2017 مع انسحاب حسيب من إدارة المركز بسبب عامل السن.
أخيرا، كان المركز رافدا لمشاريع أخرى كمجموعة المجلات المحكمة التي كان يصدرها وأبرزها "المستقبل العربي" التي كان حسيب يرأس تحريرها، وإلى جانبها نذكر مجلات "إضافات" (علم الاجتماع)، و"بحوث اقتصادية عربية"، و"المجلة العربية للعلوم السياسية".
كما أن المفكر خير الدين لم يعرف كمؤلف رغم تعدد إصداراته، ومن بينها: "مصادر الفكر الاقتصادي العربي في العراق" (1972)، و"رؤية في القضايا العربية" (2008).
ومن مؤلفاته أيضا: "أوضاع الأمة العربية ومستقبلها" (2016)، و"مستقبل العراق: الاحتلال - المقاومة - التحرير والديمقراطية" (2004)، الذي واصل الاشتغال عليه وأعاد نشره في كتاب بعنوان "العراق من الاحتلال إلى التحرير" (2006).
ووصفت مجلة "الشراع" اللبنانية في 14 مارس/آذار 2020، الراحل خير الدين حسيب بأنه "أبو القومية العربية، القابض على الجمر في زمن التفتت المذهبي"، مشيرة إلى أنه "ممنوع من زيارة معظم الدول العربية".
وأضافت: أنه "ليس فقط الزمن الرديء إنه تعبير عن منطق الأمور فمثل الدكتور حسيب يشكل بفكره وعقله ودعوته نقيضا لأسس الأنظمة التي تمنعه من المرور إليها".
أداور مهمة
وعلى نحو مماثل، كان للراحل أدوار عربية كبيرة، حيث ساهم في تأسيس منظمة "المؤتمر القومي العربي" في 1990، الذي أصبح يضم اليوم قرابة 800 عضو من نخبة المثقفين العرب، بمن فيهم المفكرون والكتاب وكبار السياسيين المخضرمين، ومنهم رؤساء دول وحكومات ووزراء ونواب سابقون، وقد شغل منصب أمينها العام في السنوات الأولى بعد إنشائه.
ويذكر "المؤتمر القومي العربي" في دورته الأولى بتونس عام 1990، بالدور الكبير لدى تعرض العراق لحصار اقتصادي عقب غزوه للكويت، من خلال الهيئات الشعبية العربية، في توظيف أوسع الطاقات العربية والعالمية انتصارا للعراق في مواجهة الحصار، ثم خلال الحرب، ثم تحت الاحتلال عام 2003.
كما ساهم في دعم المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي للبلاد، إضافة إلى دوره الملحوظ في دعم المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني ودفاعه المستمر عنها حتى الرمق الأخير من حياته.
وأدى خير الدين دورا مهما في عدد من الملفات القومية، لا سيما على مستوى العلاقات العربية - العربية، وخصوصا في السعي لتحقيق لقاء بين سوريا والعراق قبل الاحتلال الأميركي.
قبلها، شارك حسيب في تأسيس "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" عام 1983، وكان "مركز دراسات الوحدة العربية" وراء مشروع "المنظمة العربية للترجمة" في عام 2000.
حسيب كانت تربطه علاقات قوية بأبرز الزعماء والقادة العرب الراحلين، لا سيما الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والعراقي صدام حسين، والسوري حافظ الأسد، والجزائري هواري بومدين، والليبي معمر القذافي.
كما كانت تربطه علاقات صداقة مع حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، وكذلك زعيم حركة "النهضة" التونسية راشد الغنوشي، وكان معروفا بجرأته وصراحته في لقاءاته مع الزعماء، كما في إطلالاته الإعلامية وتحركاته السياسية.
ولا يمكن لأي مؤرخ لتاريخ الحركة القومية العربية المعاصرة منذ سبعينيات القرن الماضي، أن ينكر الدور الريادي والتأسيسي الكبير للراحل خير الدين حسيب (أبو طارق) الذي له في كل قطر عربي مكانة، وفي كل مجال من مجالات الحياة العربية بصمة واضحة.